المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الزهد والرقائق - توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم - جـ ٨

[عبد العزيز بن عبد الله الراجحي]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ الرِّقَاقِ

- ‌بَاب أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفُقَرَاءُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءُ

- ‌بَابُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ الثَّلَاثَةِ، وَالتَّوَسُّلِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ

- ‌كِتَابُ التَّوْبَةِ

- ‌بَابٌ فِي الْحَضِّ عَلَى التَّوْبَةِ، وَالْفَرَحِ بِهَا

- ‌بَابُ سُقُوطِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةً

- ‌بَابُ فَضْلِ دَوَامِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَاقَبَةِ، وَجَوَازِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا

- ‌بَابٌ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ

- ‌بَابُ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ تَكَرَّرَتِ الذُّنُوبُ وَالتَّوْبَةُ

- ‌بَابُ غَيْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ

- ‌بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}

- ‌بَابُ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَثُرَ قَتْلُهُ

- ‌بَابُ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ

- ‌بَابٌ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ

- ‌بَاب بَرَاءَةِ حَرَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرِّيبَةِ

- ‌كِتَابُ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْكَامِهِمْ

- ‌كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ

- ‌بَابُ ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَخَلْقِ آدَمَ عليه السلام

- ‌بَابٌ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَصِفَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- ‌بَابُ نُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ

- ‌بَابُ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ

- ‌بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}

- ‌بَابُ قَوْلِهِ: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى}

- ‌بَابُ الدُّخَانِ

- ‌بَابُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ

- ‌بَابُ لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللَّهِ عز وجل

- ‌بَابُ طَلَبِ الْكَافِرِ الْفِدَاءَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا

- ‌بَابُ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ

- ‌بَابُ صَبْغِ أَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي النَّارِ، وَصَبْغِ أَشَدِّهِمْ بُؤْسًا فِي الْجَنَّةِ

- ‌بَابُ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

- ‌بَابُ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالزَّرْعِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَشَجَرِ الْأَرْزِ

- ‌بَابُ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ

- ‌بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ، وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ

- ‌بَابُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى

- ‌بَابُ إِكْثَارِ الْأَعْمَالِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ

- ‌بَابُ الِاقْتِصَادِ فِي الْمَوْعِظَةِ

- ‌كِتَابُ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا

- ‌بَاب إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا

- ‌بَابُ إِحْلَالِ الرِّضْوَانِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا

- ‌بَابُ تَرَائِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ فِي السَّمَاءِ

- ‌بَابُ فِيمَنْ يَوَدُّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ

- ‌بَابٌ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنَالُونَ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَمَالِ

- ‌بَابٌ أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ

- ‌بَابٌ فِي صِفَاتِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا، وَتَسْبِيحِهِمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا

- ‌بَابٌ فِي دَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وقَوْلِه تَعَالَى:

- ‌بَابٌ فِي صِفَةِ خِيَامِ الْجَنَّةِ وَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهَا مِنَ الْأَهْلِينَ

- ‌بَابٌ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ

- ‌بَابٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ

- ‌بَابٌ فِي شِدَّةِ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ، وَبُعْدِ قَعْرِهَا، وَمَا تَأْخُذُ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ

- ‌بَابٌ النَّارُ يَدْخُلُهَا الْجَبَّارُونَ، وَالْجَنَّةُ يَدْخُلُهَا الضُّعَفَاءُ

- ‌بَابُ فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَبَيَانِ الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- ‌بَابٌ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى أَهْوَالِهَا

- ‌بَابُ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ

- ‌بَابُ عَرْضِ مَقْعَدِ الْمَيِّتِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ عَلَيْهِ

- ‌بَابُ إِثْبَاتِ الْحِسَابِ

- ‌بَابُ الْأَمْرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ

- ‌كِتَابُ الْفِتَنِ، وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ

- ‌بَابُ اقْتِرَابِ الْفِتَنِ، وَفَتْحِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ

- ‌بَابُ الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَؤُمُّ الْبَيْتَ

- ‌بَابُ نُزُولِ الْفِتَنِ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ

- ‌بَابُ إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا

- ‌بَابُ هَلَاكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ

- ‌بَابُ إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ

- ‌بَابٌ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ

- ‌بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ

- ‌بَابٌ فِي فَتْحِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ

- ‌بَابُ تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ

- ‌بَابُ إِقْبَالِ الرُّومِ فِي كَثْرَةِ الْقَتْلِ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ

- ‌بَابُ مَا يَكُونُ مِنْ فُتُوحَاتِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الدَّجَّالِ

- ‌بَابٌ فِي الْآيَاتِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ

- ‌بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ

- ‌بَابُ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَعِمَارَتِهَا قَبْلَ السَّاعَةِ

- ‌بَابُ الْفِتْنَةُ مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ

- ‌بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعْبُدَ دَوْسٌ ذَا الْخَلَصَةِ

- ‌بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ

- ‌بَابُ ذِكْرِ ابْنِ صَيَّادٍ

- ‌بَابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَصِفَتِهِ وَمَا مَعَهُ

- ‌بَابُ فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ، وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ

- ‌بَابٌ فِي الدَّجَّالِ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ عز وجل

- ‌بَابٌ فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَمُكْثِهِ فِي الْأَرْضِ، وَنُزُولِ عِيسَى، وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ، وَذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْإِيمَانِ، وَبَقَاءِ شِرَارِ النَّاسِ، وَعِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَبَعْثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ

- ‌بَابُ قِصَّةِ الْجَسَّاسَةِ

- ‌بَابٌ فِي بَقِيَّةٍ مِنْ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ

- ‌بَابُ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ

- ‌بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ

- ‌بَابُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ

- ‌كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ

- ‌بَاب لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ

- ‌بَابُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ

- ‌بَابُ فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ

- ‌بَابُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسَاكِينِ

- ‌بَابُ مَنْ أَشْرَكَ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ

- ‌بَابُ التَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ

- ‌بَابُ عُقُوبَةِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَيَفْعَلُهُ

- ‌بَابُ النَّهْيِ عَنْ هَتْكِ الْإِنْسَانِ سِتْرَ نَفْسِهِ

- ‌بَابُ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ

- ‌بَابٌ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ

- ‌بَابٌ فِي الْفَأْرِ، وَأَنَّهُ مَسْخٌ

- ‌بَابُ لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ

- ‌بَابٌ الْمُؤْمِنُ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ

- ‌بَابُ النَّهْيِ عَنِ المَدْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ

- ‌بَابُ مُنَاوَلَةِ الْأَكْبَرِ

- ‌بَابُ التَّثَبُّتِ فِي الْحَدِيثِ، وَحُكْمِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ

- ‌بَابُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَالسَّاحِرِ وَالرَّاهِبِ وَالْغُلَامِ

- ‌بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ

- ‌بَابٌ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: حَدِيثُ الرَّحْلِ

- ‌كِتَاب التَّفْسِيرِ

- ‌بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

- ‌بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

- ‌بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}

- ‌بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}

- ‌بَاب فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَالْأَنْفَالِ، وَالْحَشْرِ

- ‌بَابٌ فِي نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ

- ‌بَابٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}

الفصل: ‌كتاب الزهد والرقائق

‌كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ

ص: 371

كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ

[2956]

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ- يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنِ العَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)).

قال النووي رحمه الله: ((معناه: أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلَّف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعدَّ الله تعالى له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصَّلَ في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد))

(1)

.

قلت: هذا المعنى الذي ذكره النووي رحمه الله قاصر؛ لأن معنى: ((الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ)): أن المؤمن ممنوع من التنعم بنعيم الآخرة، ومحجوب عنها، وإن كان في الدنيا في راحة بال، وطمأنينة؛ لِما فيه من التنعم بالإيمان ولذة المناجاة والأنس بالله عز وجل، والشوق إليه سبحانه، قال ابن القيم رحمه الله:((سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة))

(2)

.

وأما الكافر فهو يتمتع في الدنيا كما تتمتع البهائم، فليس له هم سوى

(1)

شرح مسلم، للنووي (18/ 93).

(2)

مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 452).

ص: 373

بطنه، وفرجه، ثم بعد ذلك إذا مات انقلب إلى شقاء وعذاب أبدي، قال تعالى:{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} - نسال الله العافية والسلامة.

ويُذكر عن الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه: ((مر يومًا بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار وأثوابه ملطخة بالزيت وهو في غاية الرثاثة والشناعة، فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإسلام، تزعم أن نبيكم قال: ((الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)): فأيُّ سجن أنت فيه، وأيُّ جنة أنا فيها؟ ! فقال: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في جنة، فأسلم اليهودي))

(1)

.

[2957]

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ- يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ ))، فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ:((أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ )) قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ ! فَقَالَ:((فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ! )).

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ- يَعْنِيَانِ: الثَّقَفِيَّ- عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ:((فَلَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ هَذَا السَّكَكُ بِهِ عَيْبًا)).

(1)

فيض القدير، للمناوي (3/ 546).

ص: 374

قوله: ((كَنَفَتَهُ)): قال النووي رحمه الله: ((وفي بعض النسخ: ((كَنَفَتَيْهِ))، ومعنى الأول: جانبه، والثاني: جانبيه))

(1)

.

وقوله: ((بِجَدْيٍ أَسَكَّ)): الجدي هو: التيس الصغير، والأسك: يطلق على ملتصق الأذنين، وعلى فاقدهما، وعلى مقطوعهما، وعلى الأصم الذي لا يسمع، والمراد ههنا: صغير الأذنين

(2)

.

وفي هذا الحديث: بيان هوان الدنيا على الله عز وجل، وأنها لا تساوي شيئًا عنده.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراهم أمرًا عمليًّا؛ ليبين لهم هوان الدنيا على الله تعالى، فلما مر ((بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ)) أخذ بأذن الجدي، وقال:((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا بِدِرْهَمٍ؟ ))، أي: أيكم يحب أن يشتريه بدرهم وهو صغير الأذنين وميت؟ قالوا: ((وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ ! فَقَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ! ))، أي: إذا كان هذا الجدي هينًا على الناس حيًّا، وميتًا؛ لصغر أذنه، فالدنيا أهون على الله عز وجل من هذا عليكم، وجاء في الحديث الآخر:((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))

(3)

.

(1)

شرح مسلم، للنووي (18/ 93).

(2)

القاموس المحيط، للفيروز آبادي (1/ 943)، النهاية، لابن الأثير (2/ 384).

(3)

أخرجه الترمذي (2320)، وابن ماجه (4110).

ص: 375

[2958]

حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قَالَ: ((يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي))، قَالَ:((وَهَلْ لَكَ- يَا ابْنَ آدَمَ- مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ)).

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَقَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هَمَّامٍ.

قوله: ((يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ- يَا ابْنَ آدَمَ- مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ))، يعني: أن الإنسان ليس له إلا الشيء الذي يأكله فيفنى، أو الشيء الذي يلبسه من الثياب فيبلى، أو ما يقدمه للآخرة فيبقى، من صدقات، أو مشاريعَ خيرية، أو صلة رحم، أو بر للوالدين، ونحو ذلك من أعمال البر.

[2959]

حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنِ العَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ)).

وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ.

قوله: ((أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى)): هكذا هو في معظم النسخ، ومعناها: ادخره ثوابه

ص: 376

لآخرته، وعند ابن ماهان:((فَأَقْنَى)): بحذف التاء، قال القاضي عياض: وهو المعروف في الحديث، أي: أرضى، يقال: أعطاه قنية من المال يقتنى

(1)

.

[2960]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ)).

[خ: 5614]

قوله: ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ)): هذا الحديث خرج مخرج الغالب، أي: أن الميت في الغالب يتبعه أهله وماله وعمله، وإلا فإنه قد يموت الإنسان في مكان لا أهل له فيه ولا مال، فلا يتبعه شيء من ذلك.

وقوله: ((فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ)): معناه: أن الميت يتبعه أهله من أقاربه إلى القبر، فيدفنونه، ثم ينصرفون، وكذلك يتبعه المال، كآلة الحفر، والإناء الذي يوضع فيه الماء، ثم بعد دفنه يرجع المال، ويبقى عمله.

(1)

إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 512)، شرح مسلم، للنووي (18/ 94).

ص: 377

[2961]

حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- يَعْنِي: ابْنَ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيَّ- أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ- وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَىهُمْ، ثُمَّ قَالَ:((أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ؟ ))، فَقَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)).

[خ: 3158]

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ. ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ يُونُسَ، وَمِثْلِ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ:((وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ)).

قوله: ((مِنْ الْبَحْرَيْنِ)): كانت البحرين قديمًا تطلق على المنطقة الشرقية ودول الخليج والأحساء، وكانوا قد أسلموا قديمًا، وهم وفد بني عبد القيس، ومسجدهم جواثا هو ثاني مسجد أقيمت فيه الجمعة بعد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ((أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا)) وقد كان صلى الله عليه وسلم صالحهم وأمَّرَ عليهم الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ.

ص: 378

وقوله: ((فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ))، أي: أتى رضي الله عنه من البحرين ومعه شيء من المال، والصحابة رضي الله عنهم في أول الهجرة كانوا في شدة وفاقة، وقلة ذات اليد، فسمعوا بأن أبا عبيدة رضي الله عليه قدم بمال من البحرين ((فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي لفظ عند البخاري:((فوافته صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، أي: أبا عبيدة رضي الله عنه.

قوله: ((فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ)): يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم شيئًا من المال، ويقسمه بينهم؛ لينتفعوا به لقلة ذات اليد؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:((لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ))

(2)

.

فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم عرف ذلك منهم ((فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَىهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ؟ ))، أي: وأنتم تريدون أن أقسمه بينكم، قالوا:((أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ))، فقال عليه الصلاة والسلام:((فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ))، وهذا تبشير من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأمرٌ لهم بتأميل الخير، وفيه: حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.

وقوله: ((فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ)): فيه: دليل على أن الغنى أشد خطرًا من الفقر، قال الله تعالى:{كلَّا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} ، فالفقر قد يصبر عليه الإنسان ويتحمله، لكن الغنى قد يفتح عليه أبوابَ شرور كثيرة؛ لهذا قال بعض الصحابة:((ابْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ))

(3)

، وقال تعالى:{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} ، فالناس مع الفقر أقرب إلى الاستقامة منهم مع الغنى.

وقوله: ((وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ

(1)

أخرجه البخاري (6425).

(2)

أخرجه البخاري (4242).

(3)

أخرجه الترمذي (2464).

ص: 379

قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)): هذا هو الواقع قديمًا وحديثًا، والتنافس الآن في كل شيء، تنافس في المساكن، والأموال، والسيارات، والفُرُش وغير ذلك.

[2962]

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رَبَاحٍ- هُوَ أَبُو فِرَاسٍ- مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:((إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟ ))، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ))، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ((ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ)).

قوله: ((نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ))، يعني: نحمده ونشكره على نعمه، ونسأله المزيد من فضله.

وقوله: ((تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ)): التنافس إلى الشيء المسابقة إليه وكراهة أخذ غيرك إياه، وهو أول درجات الحسد، وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن صاحبها والتدابر التقاطع، وأما التباغض فهو بعد هذا؛ ولهذا رتبت في الحديث، فكأن المدابرة أدنى من المباغضة، وقد تكون المدابرة والإعراض مع بقاء مودة، وتكون المباغضة بعد هذا

(1)

.

وقوله: ((ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ))، أي: تجعلون بعضهم أمراء على بعض.

(1)

إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 514)، شرح مسلم، للنووي (18/ 97).

ص: 380

قال القاضي عياض: ((وعند السمرقندي: ((فتحملون بعضهم على بعض))

أشبه أن يكون الكلام على وجهه، وأراد أن مساكين المهاجرين وضعفتهم ستفتح عليهم آنذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض))

(1)

، وقال السنوسي رحمه الله:((ولعل صواب الكلام: ثم تنطلقون في فيء مساكين المهاجرين))

(2)

.

[2963]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا، وقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ)).

[خ: 6490]

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ سَوَاءً.

وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ- وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ))، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَلَيْكُمْ.

قوله: ((أَجْدَرُ))، يعني: أحق.

وقوله: ((أَلَّا تَزْدَرُوا))، أي: ألَّا تحتقروا نعمة الله عليكم.

وفي الحديثين: أنه ينبغي على الإنسان العاقل أن ينظر إلى من هو أسفل منه في المال، والخَلْق، فإذا كان الإنسان فقيرًا فلينظر إلى من هو أشدُّ منه

(1)

إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 514)، إكمال إكمال المعلم، للأبي (7/ 287).

(2)

مكمل الإكمال، للسنوسي (7/ 287).

ص: 381

فقرًا، وإذا كان مريضًا فلينظر إلى من هو أشدُّ منه مرضًا، وهكذا؛ لئلَّا يزدري نعمة الله عليه.

وأما في أمور الطاعة وعمل الآخرة فلا، بل ينبغي للمسلم العاقل أن ينظر لمن هو فوقه ممن سبقه إلى فعل الخير، فينظر إلى من يتصدق، وإلى من يحج ويعتمر كل سنة؛ لأن هذا من المنافسة والمسابقة في الخير، قال تعالى:{وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} .

ص: 382

[2964]

حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ- أَوَ قَالَ: الْبَقَرُ، شَكَّ إِسْحَاقُ، إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ، أَوِ الْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ- قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا

وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ: قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا

ص: 383

كُنْتَ، قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)).

[خ: 3464]

قوله: ((فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا)): أُنْتِجَ: هذه لغة قليلة، ونُتِجَ لغة أكثر منها، والمعنى: تولى ولادتها، فالأبرص تولى ولادة الإبل، والأقرع تولى ولادة البقر، والأعمى تولى ولادة الغنم، فصار للأول وادٍ من الإبل، وللثاني وادٍ من البقر، وللثالث وادٍ من الغنم.

وقوله: ((ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ))، أي: أن الْمَلَك أتى للأبرص في صورته السابقة؛ وكذلك أتى الأقرع؛ وذلك ليذكرهما بحالتهما الأولى؛ ابتلاءً وامتحانًا لهم.

تنبيه: استدل بعض الناس بمجيء الملَك إلى الأبرص والأقرع في صورتهما وهيئتهما على جواز التمثيل، وهذا خطأ، فالملَك لم يمثِّل، وإنما أرسله الله تعالى في صورتهما ليذكرهما بحالتهما الأولى؛ لعلهما يتعظان ويتذكران.

وقوله: ((رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي)): الحبال هي: الأسباب، وقيل: المراد: الطرق، وروي ((انْقَطَعَتْ بِيَ الجِبَالُ))، وروي:((انْقَطَعَتْ بِيَ الحِيَلُ))

(1)

، وكلها صحيحة، والمعنى: أن الملَك أتى الأبرصَ في صورة الأبرص، وقال له: أنا رجل فقير، وابن سبيل، ولا نفقة معي

(1)

شرح مسلم، للنووي (18/ 99).

ص: 384

توصلني إلى بلدي، أعطني بعيرًا يوصلني إلى بلدي، وسأله بالله وذكَّره بحالته، فقال له:((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي)).

وقوله: ((أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ)): فيه: جواز السؤال بالله تعالى، وقد جاء في الحديث:((وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ))

(1)

.

وقوله: ((فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ)): فيه: أن عطْف المخلوق على الخالق يكون بـ ((ثُمَّ)) لا بالواو، فلا يقال: لا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، وَشَاءَ فُلَانٌ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ))

(2)

؛ لأن الواو تقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، وأما ((ثم)) فإنها للترتيب على التراخي، فلا يأتي المعطوف إلا بعد المعطوف عليه بمهلة وتراخٍ.

وفي هذا الحديث: أن الله تعالى يبتلي بالسراء والضراء، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، أي: أن الله عز وجل يبتلي الإنسان بالخير ليختبره هل يشكر، أم يكفر؟ ويبتليه بالفقر ليختبره هل يصبر، أم يجزع؟

وفيه: أن ابتلاء الله تعالى لهم كان بإرسال الملَك إليهم، فسأل الأبرصَ: ماذا يحب؟ فـ ((قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ))، فصار جلده سليمًا، فسأله فـ ((قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ- أَوَ قَالَ: الْبَقَرُ))، ((فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا)): والعُشَرَاء: هي الحامل القريبة الولادة.

والثاني: أتاه الملَك فقال له: ((أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ))، أي: تذهب عني هذه العاهة، ((قَالَ:

(1)

أخرجه أحمد (5365)، وأبو داود (1672)، والنسائي (2567).

(2)

أخرجه أحمد (23265)، وأبو داود (4980).

ص: 385

فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ))، أي: قَذَرُهُ ((وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا))، أي: أنبت الله له شعرًا حسنًا، ثم سأله الملَك، فقال له:((فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا)).

والثالث: الأعمى جاءه الملَك ((فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا)).

فاستجاب الله دعاء الملَك، ومضت سنين، فنمت هذه الأموال، وكثرت، وصار للأول وادٍ من الإبل، وللثاني وادٍ من البقر، وللثالث وادٍ من الغنم، فابتلاهم الله مرة أخرى بالمال.

فجاء الملَك للأول في صورة الأبرص؛ ليذكره بحالته السابقة، وقال له: إني رجل مسكين وابن سبيل ((فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ))، فإذا أعطيتك أنت، وأعطيت الثاني انتهى هذا المال، ((فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ))، أي: ورثته جدًّا عن جدٍّ، وهذا جحْدٌ لنعمة الله عليه- والعياذ بالله- فلم يعترف لله عز وجل بما به من النعمة، ولم يؤدِّ الحق الذي عليه.

وجاء للثاني: في صورة الأقرع كذلك؛ ليذكره بحالته السابقة، ((فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ))، ففي المرة الأول دعا لهما بالبركة في المال، وفي المرة الثانية دعا عليهما، فقال لكل منهما:((إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ)).

وأتى الأعمى في صورته وذكَّره بحالته السابقة، فقال:((رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟ ))، فاعترف الأعمى، فقال: ((قَدْ

ص: 386

كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ))، ولم يقل له: خذ شاة، بل قال له:((فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)).

وفيه: شاهد لقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} ، وقوله تعالى:{ولكن أكثر الناس لا يشكرون} .

وفيه: أن شكر النعمة يكون بالاعتراف لله بالنعمة بالقلب، والثناء عليه باللسان، وصرفها في مرضاة الله عز وجل، وهذه أركان الشكر.

[2965]

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ- وَاللَّفْظُ لِإِسْحَاقَ- قَالَ عَبَّاسٌ: حَدَّثَنَا، وقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَأَىهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)).

قوله: ((التَّقِيَّ))، أي: المتصف بالتقوى، وهي طاعة الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وإخلاص العبادة له.

وقوله: ((الْغَنِيَّ)): قيل: المراد: غنى النفس، وقيل: المراد: غنى المال.

وقوله: ((الْخَفِيَّ)): هو الذي لا يحب الشهرة ولا يريدها.

قال النووي رحمه الله: ((قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ)): المراد بالغنى: غنى النفس، هذا هو الغنى المحبوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((وَلَكِنَّ الغِنَى غَنى النَّفْسِ))، وأشار القاضي إلى أن المراد: الغنى بالمال، وأما الخفي فبالخاء المعجمة هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات،

ص: 387

وذكر القاضي أن بعض رواة مسلم رواه بالمهملة، فمعناه بالمعجمة: الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه، ومعناه بالمهملة: الوَصول للرحم، اللطيف بهم، وبغيرهم من الضعفاء، والصحيح: بالمعجمة، وفي هذا الحديث حجة لمن يقول: الاعتزال أفضل من الاختلاط، وفي المسألة خلاف

ومن قال بالتفضيل للاختلاط قد يتأول هذا على الاعتزال وقت الفتنة ونحوها))

(1)

.

والصواب: أن الاختلاط أفضل إلا وقت الفتن.

[2966]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَعْدٍ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَابْنُ بِشْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ! لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي، وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِذًا.

[خ: 6453]

وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الْعَنْزُ، مَا يَخْلِطُهُ بِشَيْءٍ.

قوله: ((إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ)): هما نوعان من شجر البادية.

وفي هذا الحديث: بيان ما أصاب الصحابة من الشدة أول الهجرة.

(1)

شرح مسلم، للنووي (18/ 100 - 101).

ص: 388

وفيه: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تقدم إسلامه، وأنه فقه كثيرًا من الأحكام وصبر على الشدة، واللأواء.

وقوله: ((حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ))، يعني: كان البُرَازُ الذي يخرج منهم مثل ما تضع الغنم، وحصل لهم هذا من قلة الأكل.

قال المباركفوري رحمه الله: ((((ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ))، أي: ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا متأخرين في الإسلام، ثم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي لما ادعى النبوة، ثم قاتلهم خالد بن الوليد في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد ذلك، وكانوا ممن شكا سعد بن أبي وقاص- وهو أمير الكوفة- إلى عمر حتى عزله، وكان في جملة ما شكوه: أنه لا يحسن الصلاة، وهذا الذي أشار إليه سعد رضي الله عنه بقوله:((تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ! )) من التعزير، أي: تؤدبني وتلومني، أو توبخني على التقصير فيه بقولهم: إني لا أحسن أصلي، ومعناه: أن سعدًا أنكر أهلية بني أسد لتعزيرهم إياه على أمر من أمور الدين؛ وذلك لسابقته، وقِدَم صحبته، وحسن بلائه في الإسلام، ((خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي))، أي: لئن كان كذلك فإني خائب، وعملي ضائع))

(1)

.

والمعنى: أنا من المتقدمين في الإسلام والسابقين إليه، وصاحبتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وصبرت على اللأواء، وعرفت الأحكام، والآن تأتي قبيلة من الجفاة يعلمونني الأحكام ويؤدبونني؟ ! لقد خبتُ إذًا، وضل سعيي إذا لم أكن قد عرفت الإسلام والدين في هذه المدة الطويلة، وهذا إنكار منه رضي الله عنه عليهم! .

(1)

منة المنعم، للمباركفوري (4/ 394).

ص: 389

[2967]

حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا: أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَوَاللَّهِ لَتُمْلَأَنَّ، أَفَعَجِبْتُمْ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا: أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا.

وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ- وَقَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ- قَالَ: خَطَبَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ- وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ- فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ شَيْبَانَ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا طَعَامُنَا إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا.

قوله: ((فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ)): آذنت، أي: أعلمتْ، بِصَرْمٍ، أي: بانقطاع.

ص: 390

وقوله: ((وَوَلَّتْ حَذَّاءَ))، أي: مسرعة الانقطاع.

وقوله: ((وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ))، يعني: لم يبق منها إلا الشيء اليسير، والصبابة هي: البقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء.

وقوله: ((وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ))، يعني: أنتم في دار ستزول، وستنتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فاستعدوا بالعمل الصالح؛ ليكون زادًا لكم، حتى تنتقلوا بخير ما بحضرتكم.

وقوله: ((فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا)): هذا يدل على بُعد قعر جهنم- ولا حول ولا قوة إلا بالله- ومع ذلك قال: ((وَوَاللَّهِ لَتُمْلَأَنَّ، أَفَعَجِبْتُمْ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً)).

وقوله: ((وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ))، يعني: تمتلئ من كثرة من يدخلها.

وقوله: ((وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا))، يعني: أصابها جروح، وقروح بسبب الحرارة، فعتبةُ بنُ غزوانَ رضي الله عنه يتذكر حالته السابقة في أول الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أصابه من الشدة وقلة ذات اليد.

وقوله: ((فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ))، أي: قطعت الإزار نصفين بيني وبين سعد بن مالك رضي الله عنه، وهو ابن أبي وقاص، وهذا يدل على شدة الفقر والحاجة التي كانوا عليها، ثم بعد ذلك تغيرت الأحوال وفُتِحَت الفتوح، ومُصِّرت الأمصار، وصار كل واحد منا أميرًا على مصرٍ من الأمصار، ولكنهم رضي الله عنهم كانوا في جميع أحوالهم على خير عظيم، ولن يكون أحد بعدهم مثلهم؛ ولهذا قال:((فَسَتَخْبُرُونَ، وَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا)): ستخبرون: من الخبرة وهو العلم،

ص: 391

وتجربون: من التجربة وهي الممارسة، يعني: سوف تعلمون حال الأمراء بعدنا، وترون الفرق بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين غيرهم، ففرق كبير بين من يقبل الإمارة لينشر دين الله، ويُلزم الناسَ بشرعه، وبين من يحرص على الإمارة من أجل الدنيا، والهوى والشهوات.

وقوله: ((وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا))، يعني: أعوذ بالله من أن أكون عند الله حقيرًا بسبب سوء عملي، وأكون في نفسي عظيمًا؛ لأن هذا من العُجب، وهو من أعمال القلوب الخبيثة، ومن كبائر الذنوب؛ لهذا استعاذ منه رضي الله عنه.

وقوله: ((وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا)): تناسخت، يعني: ذهبت وانتهت، كما تنسخ الشمسُ الظلَّ، فإنه لما انتهت النبوة أعقبتها خلافة راشدة على منهاج النبوة، قال عليه الصلاة والسلام:((خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ))

(1)

، فكان أول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان الصحابي الجليل رضي الله عنه، ثم ستكون- أيضًا- في آخر الزمان خلافة المهدي، وهو رجل صالح من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يملأ الأرض عدلًا، كما مُلئت جورًا وظلمًا.

وفي هذا الحديث: مشروعية حمد الله، والثناء عليه قبل الخطبة، والشهادة لله تعالى بالوحدانية، وللنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بالرسالة، ثم بعد ذلك تكون الخطبة.

(1)

أخرجه أحمد (21919)، وأبو داود (4646)، والترمذي (2226).

ص: 392

[2968]

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ )) قَالُوا: لَا، قَالَ:((فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟ )) قَالُوا: لَا، قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ، فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ، فَيَقُولُ أَيْ فُلْ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ ، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فَيَقُولُ لَهُ: مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: هَا هُنَا إِذًا قَالَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي،

فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ)).

[2969]

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ فُضَيْلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، فَقَالَ:((هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ )) قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا

ص: 393

شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ)).

في هذه الأحاديث: إثبات رؤية الله عز وجل، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم.

وفيها: التصريح بأن الرؤية بالأبصار؛ ولهذا ((قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا)).

وفيها: الرد على الجهمية، والمعتزلة الذين أنكروا رؤية الله عز وجل.

والمعتزلة: فسروا الرؤية بالعلم

(1)

، فقالوا: إن الرؤية في الحديث مثل الرؤية في قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} ، أي: ألم تعلم، وهذا تأويل فاسد؛ لأن الرؤية تأتي بمعنى العلم، وتأتي بمعنى الرؤية بالبصر، لكن لا بد من قرينة توضح ذلك.

أما الأشاعرة: فأثبتوا الرؤية، لكن أنكروا الجهة، وقالوا بأن الله يرى لا في جهة

(2)

، أرادوا بهذا أن يكونوا مع أهل السنة من جهة كونه سبحانه وتعالى يُرى، لكنهم نفوا الجهة حتى يكونوا مع المعتزلة، فصاروا مذبذبين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، فعجزوا عن ذلك، فلجؤوا إلى حجج السفسطائية.

وقولهم: يُرى لا في جهة، لا فوق ولا تحت، ولا أمام ولا خلف، ولا يمين ولا شمال، هذا غير معقول وغير متصوَّر؛ ولهذا أنكر عليهم جماهير

(1)

الأربعين في أصول الدين، للرازي (ص 198).

(2)

منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (2/ 326).

ص: 394

العقلاء، وسخروا من قولهم، وقالوا: إن إثبات الرؤية من دون مقابلة لا معنى له، بل هو باطل عند جميع العقلاء.

وقوله: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا)): لا تضارون، أي: لا يصيبكم ضرر، وفي اللفظ الآخر:((لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ))

(1)

، أي: لا يصيبكم ضَيْم، وهو: الظُّلم أَو الإِذلال.

وقوله: ((أَيْ فُلْ)): نداء، أي: يا فلان، وهو ترخيم على غير قياس، والترخيم: حذف أواخر الأسماء المفردة تخفيفًا، ولا يكون إلا في النداء

(2)

، مثل قول امرئ القيس:

أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْض هَذَا التَّدَلُّلِ

وإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي

(3)

ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَائِشُ))

(4)

، يعني: يا عائشة.

وقال بعضهم: إنها لغة في ((فلان)).

وفيها: دليل على أن الله تعالى يخاطب الإنسان بدون واسطة، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر-:((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ))

(5)

.

وقوله: ((أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ؟ ))، أي: أجعلك سيدًا على غيرك.

وقوله: ((وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ )): ترأس، أي: تصير رئيسَ القوم وكبيرَهم، وتربع معناه: تأخذ المرباع، وهو ربع المال الذي كانت تأخذه ملوك الجاهلية من الغنيمة، وروي:((تَرْتَع))

(6)

، أي: تتنعم.

(1)

أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633).

(2)

الكتاب، لسيبويه (2/ 239).

(3)

ديوان امرئ القيس (ص 32).

(4)

أخرجه البخاري (6201)، ومسلم (2447).

(5)

أخرجه البخاري (7443)، ومسلم (1016).

(6)

إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 520).

ص: 395

وقوله: ((أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ )): هذا تَعداد لنعم الله العظيمة.

وقوله: ((فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي))، أي: هل عندك يقين وايمان بالبعث، والجزاء، والحساب؟ فيقول: لا، فيقول الله عز وجل له: اليوم أتركك في العذاب، وأعاملك معاملة المنسيِّ جزاءً وفاقًا، قال الله تعالى:{فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون} .

والظن هنا بمعنى: اليقين، كما قال الله تعالى- في حق المؤمنين-:{الذي يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} أي: يتيقنون.

وفيمن يرى الله في الموقف ثلاثة أقوال:

الأول: إن أهل الموقف يرون الله تعالى، مؤمنهم، وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفرة.

الثاني: لا يراه إلا المؤمنون، والمنافقون.

الثالث: لا يراه إلا المؤمنون خاصة

(1)

.

وهذا الحديث قد يُحْتَجُّ به على أن الكفار يرون الله تعالى، وتكون رؤيتهم له سبحانه وتعالى عذابًا، قالوا: مثل رؤية السارق للقاضي، أو الأمير، ما تزيده إلا وبالًا.

وقوله: ((فَيَقُولُ: هَا هُنَا إِذًا، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ))، يعني: قف هنا حتى تشهد عليك جوارحك؛ لأنك صرت منكِرًا، فيختم الله على لسانه فتتكلم الجوارح، ثم يخلى بينه وبينها.

وقوله: ((وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ

(1)

مجموع الفتاوى، لابن تيمية (6/ 500 - 501).

ص: 396

نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ))، يعني: أن الله تعالى يأذن لجوارح الإنسان أن تشهد عليه؛ حتى لا يكون له عذر، فيختم الله عز وجل على فِيه، ويقول لجوارحه: انطقي، فيتكلم الفخذ، واللحم، والعظام، والله تعالى على كل شيء قدير، قال تعالى:{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} ، وكذلك الجلود تشهد عليهم، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} ، فيقُلْنَ له:{أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} ، فيقول:((بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ))، أي: عنكن كنت أجادل، ثم تشهدون عليَّ! وهذا كله لينقطع عذره أمام الله عز وجل، وفي الحديث الآخر:((لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ عز وجل، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ))

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (2760).

ص: 397

[1055]

حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا)).

[خ: 6460]

وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا)).

وَفِي رِوَايَةِ عَمْرٍو: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْ))، وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ ذَكَرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ:((كَفَافًا)).

في هذا الحديث: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد والرغبة في الآخرة.

قوله: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا))، يعني: كفافًا وكفايةً، وقيل: المراد بالقوت: سد الرمق، لكن اللفظ الثاني:((كَفَافًا)) فسر الأول، فهو أرجح. فالمراد: الكفاية والكفاف، وهو ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم هذا فيه السلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا، فالذي قوته كفافًا ليس فقيًرا؛ لأنه عنده ما يكفيه، وليس غنيًّا؛ لأنه ليس عنده زيادة عن الحاجة.

وفي الحديث: دليل على فضل الكفاف، وأخذ البُلْغة من الدنيا، والرغبة في الآخرة.

ص: 398

[2970]

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.

[خ: 5416]

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ فَوْقَ ثَلَاثٍ.

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثًا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ.

[2971]

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ.

[خ: 6455]

في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متوالية- فقد يشبع اليوم أو اليومين، أما الثلاثة فلا-؛ وذلك ليعظم الله له

ص: 399

الأجر والثواب في الآخرة؛ لأنه أشرف الخلق، وأفضلهم عليه الصلاة والسلام؛ ولأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وثبت في الحديث:((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))

(1)

.

وقولها: ((مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ، إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ)) وفي لفظ عند البخاري: ((مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ))

(2)

، فلا يأكلون مرتين في اليوم إلا كانت إحداهما تمرًا، وحتى التمر كان فيه قلة، كما سيأتي.

[2972]

حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ حَدَّثَنَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَنَمْكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ.

[خ: 2567]

وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، إِنْ كُنَّا لَنَمْكُثُ- وَلَمْ يَذْكُرْ آلَ مُحَمَّدٍ- وَزَادَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا اللُّحَيْمُ.

في هذا الحديث: بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم وما لاقاه من شظف العيش، فقد كان يأتي عليه الشهر ما يوقد في بيته نار، وإنما يعيشون على التمر والماء.

قوله: ((إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا اللُّحَيْمُ)): اللحيم: تصغير لحم، يعني: أحيانًا كان يأتيه صلى الله عليه وسلم شيء من اللحم، إما هدية، أو ما أشبه ذلك، وفي الرواية الأخرى الآتية:((وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا، فَيَسْقِينَاهُ))

(3)

، أي: شيء من اللبن يهدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه الترمذي (2320)، وابن ماجه (4110).

(2)

أخرجه البخاري (6455).

(3)

أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972).

ص: 400

[2975]

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.

[خ: 5383]

في هذا الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تأكل من شطر الشعير الذي تركه لها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعلم أن الله قد أنزل فيه البركة، فلما طال بها الأمد ولم ينفذ كالته لتعرف كم بقي، فلما كالته فني، وهذا- والله أعلم- كأنها لما تركته واثقة بالله عز وجل متوكلة عليه أنزل الله فيه البركة، فلما كالته وصارت تنظر هل بقي ما يكفينا رُفعت البركة ففني سريعًا.

قال القاضي عياض رحمه الله: ((وفي هذا: أنَّ البركة أكثر ما توجد في المجهولات والمبهمات، وأما ما حُصر بالعدد أو بالكيل فمعروف قدره، ولا يعارض هذا الكيل في إخراج النفقة؛ لما جاء: ((كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ))

(1)

، إذا بقي الأصل مجهولًا، بل في كيل ما يخرج البركة فى الباقي وحسن النظر، والإخراج عن الحزر والجزاف بسبب التبذير، وإخراج أكثر من الحاجة، وليس ذلك من تدبير المعيشة التي هي أحد اليسارين، وهذا معنى الحديث الآخر، ولا تعارض بينهما))

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (2128).

(2)

إكمال المعلم، للقاضي العياض (8/ 525).

ص: 401

[2972]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: وَاللَّهِ- يَا ابْنَ أُخْتِي- إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتِ الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ.

في هذا الحديث: بيان ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من الشدة والضيق في المعيشة، وهو أشرف الخلق على الإطلاق، فتمر ثلاثة أهلة وما يوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فمن أصابته شدة وضيق فليتذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي ذلك تسلية له.

وقولها رضي الله عنها: ((الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ)): هذا من باب التغليب، وإلا فالماء ليس أسودَ، وهذا مثل قولهم: القمران، بتغليب القمر على الشمس، والأبوان، بتغليب الأب على الأم.

وفي هذا الحديث: أن طعامهم كان التمر، والماء، إلا أنهم في بعض الأحيان كان يأتيهم شيء من اللبن هديةً من بعض جيرانهم الأنصار.

ص: 402

[2974]

حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ. ح، وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ- زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.

[2975]

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ الْعَطَّارُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيُّ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعَ النَّاسُ مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ.

قولها: ((تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعَ النَّاسُ مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ)): وذلك لما فُتحت خيبر، كما في الحديث الآخر:((لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ))

(1)

.

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ: الْمَاءِ، وَالتَّمْرِ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ. ح، وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمَا عَنْ سُفْيَانَ: وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ.

(1)

أخرجه البخاري (4242).

ص: 403

قولها: ((وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ)): وفي الرواية التي قبلها: ((وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ)): توجيه الثانية: شبعنا من الأسودين لما فُتحت خيبر، وتوجيه الأولى:((وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الْأَسْوَدَيْنِ))، يعني: أن أغلب الناس ما شبعوا، وإن كان بعضهم قد شبع.

[2976]

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ- يَعْنِيَانِ: الْفَزَارِيَّ- عَنْ يَزِيدَ- وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وقَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا أَشْبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.

[خ: 5374]

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ مِرَارًا، يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا شَبِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.

[2977]

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ، وَقُتَيْبَةُ لَمْ يَذْكُرْ بِهِ.

قوله: ((وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ)): الدقل: التمر الرديء، أي: ما يجد ما يملأ به بطنه من التمر الرديء.

ص: 404

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ. ح، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُلَائِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: وَمَا تَرْضَوْنَ دُونَ أَلْوَانِ التَّمْرِ وَالزُّبْدِ.

في هذا الحديث: بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد وشظف العيش، فيخبر النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه في آخر حياته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد تغيرت الأمور، فقال: أنتم الآن لا ترضون إلا بالتمر الجيد مع الزبد، والرسول صلى الله عليه وسلم في حياته لم يجد ما يملأ به بطنه من التمر الرديء، وهذا يقوله النعمان في زمانه زمن التابعين، فكيف بأوضاع زماننا هذا؟ !

[2978]

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ يَخْطُبُ قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ.

قوله: ((يَلْتَوِي))، أي: يتثنى من الجوع.

قال ابن الجوزي رحمه الله: ((وإنما جرى هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثلاثة أشياء:

أحدها: أن البلاء يلصق بالأقوياء، ومنه: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى

ص: 405

يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))

(1)

.

والثاني: ليتأسى به الفقراء، فيطيب عيشهم.

والثالث: ليكون ذلك أقوى دليلٍ على صدقه فيما جاء به؛ لأنه لولا الصدق لطلب الدنيا، فصبره على الفقر من أقوى أدلة صدقه))

(2)

.

[2979]

حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ، سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالُوا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، لَا نَفَقَةٍ، وَلَا دَابَّةٍ، وَلَا مَتَاعٍ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا)) قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ، لَا نَسْأَلُ شَيْئًا.

قوله: ((أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ))؛ لأن من كانت له امرأة سلم من شدة العزوبة، ومن كان له مسكن سلم من مؤونة السكن، والبحث عنه.

(1)

أخرجه أحمد (1481)، والدارمي (2783)، وابن حبان (2900، 2921).

(2)

كشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 149).

ص: 406

وقوله: ((فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ))، يعني: شاركتَ الملوك في الخدم.

وقوله: ((إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا، فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ)): هكذا ينبغي للإنسان أن يتعامل مع من جاءه يشتكي الحاجة، بأن يخيره بين واحدة من أمور ثلاثة:

إما يعده أن يأتي مرة أخرى فيعطيه ما يسره الله.

وإما أن يذكر أمره لأحد الأغنياء، أو السلطان؛ حتى يعطى ما يسد حاجته.

وإما أن يأمره بالصبر والتحمل، وبذل الأسباب في طلب الرزق.

وقوله: ((إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا))، أي: أربعين سنة، وفي الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم:((يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، نِصْفِ يَوْمٍ))

(1)

، وهو نصف يوم من أيام الآخرة، وفي هذا الحديث: أنهم يسبقونهم بأربعين خريفًا، قال الأُبِّي رحمه الله:((قال القرطبي صاحب المفهم: اختلفت الأحاديث في المراد بهؤلاء الفقراء، وفي قدر التفاوت، وفي حديث عبد الله هذا أنهم فقراء المهاجرين، وأن القدر أربعون خريفًا، وفي الترمذي: أنهم فقراء المهاجرين، إلا أن القدر خمسمائة عام، وقال فيه: حديث حسن غريب، وفيه- أيضًا-: ((يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَهُوَ نِصْفُ يَوْمٍ))، وقال فيه: حديث حسن صحيح، وفيه حديث:((يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ))

(2)

،

وقال فيه- أيضًا-: حديث حسن صحيح، فاختلفت هذه الأحاديث في موضعين من الفقراء الذين يسبقون، وفي قدر السبقية، ويرتفع الخلاف على الأول بأن يُرَدَّ حديث:((يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ)) إلى حديث:

(1)

أخرجه أحمد (10954)، والترمذي (2353).

(2)

أخرجه أحمد (8521)، والترمذي (2354)، وابن ماجه (4122) ..

ص: 407

((فُقَرَاء المُسْلِمِينَ))؛ لقاعدة: رد المطلق إلى المقيد، ويبقى حديث فقراء المهاجرين على ما هو عليه، ويخرج من ذلك: أن فقراء كل قرن يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وأما الموضع الثاني وهو الاختلاف في القدر؛ فالمراد بالخريف: السنة، ويمكن الجمع بين الأربعين وحديث خمسمائة بأن سُبَّاق الفقراء يسبقون سُبَّاق الأغنياء بأربعين عامًا، وفي غير سباق الأغنياء بخمسمائة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سباق))

(1)

.

وقد اختلف العلماء في أيهما أفضل: الفقير الصابر، أم الغني الشاكر؟ على ثلاثة أقوال:

قيل: الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر.

وقيل: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.

وقيل: هما سواء.

والراجح: أن الغني الشاكر أفضل؛ لأن نفعه متعدٍّ، بخلاف الفقير الصابر فإن نفعه خاص بنفسه.

وفي هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يشكر نعمة الله عليه، وأن ينظر إلى من هو دونه في الدنيا في المال، والخَلق، كما سبق في الحديث:((انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ))

(2)

.

(1)

إكمال إكمال المعلم، للأبي (7/ 293).

(2)

أخرجه مسلم (2963).

ص: 408