الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علوت مطا جوادك يوم يوم
…
وقد ثمد الجياد، فكان بحراً
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا، إذا سما بغرته كان فجراً، وإذا جرى إلى غايته، كان بحراً، ونحو ذلك، ولو عرى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر، لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان، لأنك لو قلت: رأيت بحراً. وأنت تريد: الفرس، لم يعلم بذلك غرضك، فلم يجز قولك، لأنه إلباس وإلغاز على الناس (1).
ولعل هذا الذي قاله ابن جنى - هنا - من اشتراط وجود القرينة التي تسقط الشبهة في إرادة المعنى الحقيقي للكلمة، كان الأصل الذي أخذ منه البلاغيون للمجاز اللغوي شرط وجود القرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي للفظ (2).
كما أن قوله: "أما الاتساع، فلأنه قد زاد في أسماء الفرس التي هي فرس، وطرف وجواد، ونحوها: البحر" كان أصلاً لادعائهم دخول المشبه في جنس المشبه به، إذ قالوا: وإنما المراد أن المدعي بي إدعاءه على أن الأسد - مثلاً - جعل له بطريق التأول والمبالغة فردان متعارف، وهو الذي له الجراءة المتناهية، والغاية في القوة" في جثة ذي الأطفار، والأنياب، والشكل المخصوص.
وغير متعارف:
وهو فرد آخر له تلك القوة والجراءة بنفسها، لكن في جثة الأدمي وكأن اللفظ موضوع للقدر المشترك بينهما، كالمتواطئ" (3).
(1) الخصائص 2/ 442
(2)
شروح التلخيص 4/ 25
(3)
مواهب الفتاح 4/ 66
ويمضي ابن جنى مبيناً ما في الحديث الشريف من تشبيه، وتوكيد، فيقول:
وأما التشبيه: فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائه.
وأما التوكيد: فلأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه، والشبه في العرض منتفية عنه، ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض، وليس أحد دفع الجواهر؟ !
ثم يمثل ابن جنى أيضاً بقول الله تعالى: "وأدخلناه في رحمتنا، مبيناً" أن فيه الأوصاف الثلاثة الماضية، وهي الاتساع، والتشبيه، والتوكيد أما الاتساع، فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات، والمحال أسما هو: الرحمة.
وأما التشبيه: فلأنه شبه الرحمة - وإن لم يصح دخولها - بما يجوز، دخوله، فلذلك وضعها موضعه.
وأما التوكيد: فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر، وهذا تعال بالعرض وتفخيم منه، إذ صير على حيز ما يشاهد، ويلمس، ويعاين (1).
وأنت ترى ابن جنى: كأنه يميل إلى أن في الكلام استعارة بالكناية، فشبه الرحمة بمكان، ودل على ذلك يلازم المشبه به، وهو الإدخال، والمعروف أن بالآية تجوزاً بالرحمة عن الجنة، من إطلاق السبب على المسبب، وهذا مجاز مرسل (2).
وحمل عليه قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (3):
(1) الخصائص 2/ 443
(2)
تعليق الأستاذ محمد علي النجار 2/ 443 من الخصائص.
(3)
ديوان الحماسة 2/ 298 والأمالي للقالي 2/ 223 والأغاني 8/ 94 والمختار من شعر بشار 154 منسوب إلى الحارث بن خالد المخزومي.
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فبادية مع الخافي يسير
فقد وصف بالتغلغل ما لا يوصف به، لأنه وصف يخص في الحقيقة الأعيان لا الأحداث.
وهذا وجه الاتساع كما يقول ابن جنى.
فأما التشبيه، فلأنه قد شبه ما لا ينتقل ولا يزول، بما يزول وينتقل وأما المبالغة والتوكيد، فلأنه أخرجه عن ضعف العرضة إلى قوة الجوهرية ثم حمل عليه - أيضاً - قول الآخر:
فرعت ظنابيب الهوى يوم عالج
…
ويوم النقا، حتى قرت الهوى قسراً
وقول الآخر:
ذهوب بأعناق المثين عطاؤه
…
عزوم على الأمر الذي هو فاعله
وقول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً
…
غلقت لضحكته رقاب المال
وقول طرفة:
ووجه كأن الشمس حلت رداءها
…
عليه نقى اللون لم يتحدد
حيث جعل للشمس رداء، وهو جوهر، لأنه أبلغ في النور الذي هو العرض ثم يقول وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز.
وهكذا ترى أن ابن جنى قد أطلق على ما في الأبيات الأربعة بأنه استعارات وأن تلك الاستعارات داخلة في دائرة المجاز.
مع أن ما في البيت الثاني وهو قوله (بأعناق المثين) إنما هو من قبيل المجاز المرسل حيث عبر عن الإبل بأعناقها، من إطلاق الجزء، وإرادة الكل.
أما في البيت الأول، فهو من قبيل الاستعارة التمثيلية، وهو قوله، (قرعت ظنا بيت الهوى)، فالظنابيب جميع ظنبوب، وهو حرف العظم اليابس من الساق، وتقول: قرعت ظنبوب البعير، إذا ضربت طنبوبه ليتنوخ لك فتركبه، وقيل من هذا: قرع ظنابيب الشيء ذلله (1)
وأما قول كثير فهو من قبيل الاستعارة المجردة التي جاء الملائم فيها صفة معنوية، فقد استعار الردا. للعطاء بعد أن شبه العطاء به في الوقاية والحفظ، إذ المال يصون العرض، كما أن الرداء يصون السوءة ثم وصف الرداء (بالغمر) وهو ملائم للمستعار له وهو العطاء تجريداً للاستعارة (2).
وأما قول طرفة وهو قوله، (حلت رداءها) فهو من قبيل الاستعارة بالكناية حيث شبه الشمس بإنسان، ثم حذفه ودل عليه بإثبات لازمه وهو الرداء على سبيل الاستعارة بالكناية.
(1) لسان العرب (مادة ظنب)
(2)
الإيضاح 171، ومعاهد التنصيص 2/ 149