الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليه قول الشاعر: (1)
ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
فعلي رأى القائلين بزيادة (مثل) لا يكون في العبارات السابقة كناية، ولكن فهم ابن جنى لطبيعة هذا الأسلوب، قد اطلعنا على ما فيه من كناية لطيفة إذ جعله من قوم لا يأتون القبيح ليكون أثبت للأمر الذي يريد وصفه به؛ وهو أنه لا يأتي القبيح؛ فله في هذا الأمر أشباه وأضراب؛ فليس بدعا في البعد عن القبيح؛ لأنها طبيعة قوم نشأ بينهم، وسار على هديهم.
إفادة البلاغيين من هذه المسألة:
أفاد عبد القاهر من هذه المسألة في: ما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم، ولكنه لم يغفل عما فيه من كناية، فقد بين طريق الكناية فيه؛ مهتدياً بطريقة ابن جنى، وهي بيان الصفة التي يراد إثباتها مصحوبة بالدليل على ثبوتها لمن يراد إثباتها له؛ فبين أن مما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم (مثل) و (غير) في نحو قول أبي الطيب المتنبي:
مثلك يثنى المزن عن صوبه
…
ويسترد الدمع عن غربه
وقول الناس: (مثلك رعى الحق والحرمة) وكقول الذي قال له الحجاج: لأحملنك على الأدهم، يريد القيد، فقال على سبيل المغالطة: ومثل الأمير يحمل على الأدهم، والأشهب، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن من كان مثله في الحال والصفة، كان من مقتضى القياس، وموجب العرف والعادة، أن يفعل ما ذكر، أو لا يفعل.
(1) الخصائص 3/ 30
ولهذا قال أبو الطيب بعد هذا البيت:
ولم أقل: مثلك أعني به
…
سواك؛ يا فرداً بلا مشبه
فأبو الطيب لا يعني بمثل غير الممدوج، وإنما أراده هو، على طريق الكناية وقد طبق عبط القاهر هذا على (غير)، إذا سلك بها هذا المسلك فقيل: غيري يفعل ذاك - على معنى أني لا أفعله، لا أن يومي بغير إلى إنسان فيخبر عنه بأنه يفعل ذلك:
ومثله قول المتنبي:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
لأنه لم يرد أن يعرض بواحد كان هناك، فيصفه بأنه مضعوف، يغر ويخدع وإنما أراد: إني لست ممن ينخدع ويغتر.
وكذلك قول أبي تمام:
وغيري يأكل المعروف سحتا
…
وتشحب عنده بعض الأيادي
فهو لم يعرض - مثلاً - بشاعر سواه، فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح، من أنه هجاه، كان ذلك من الشاعر "لا منه" فليس إلا أنه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم.
فاستعمال (مثل) و (غير) - إذا جاءنا على هذا السبيل - شيء مذكور في الطباع، وجاء في عادة كل قوم (1)
وهكذا نجد أن عبد القاهر قد أفاد من تلك المسألة أن (مثل) إذا لم يرد بها غير ما أضيفت إليه، تقدم أبداً، وقاس (غير) على مثل، فأعطاها حكمها في التقديم، لأنها تأتي على طريقتها في الكناية
(1) دلائل الإعجاز 93
فلم يكن مقصد عبد القاهر - هنا - أن يتحدث عن الكناية - وإن جاء ذكرها تبعاً - ولكن ضياء الدين بن الأثير، قد عثر على ضالته - في الكناية - عندما قرأ كلام ابن جنى عن (مثل)، فنقل ما قاله، ولكن بتصرف في العبارة عنه ولم يشر على هذا النقل، فقال (1): ومن لطيف هذا الموضع وحسنه: ما يأتي بلفظه مثل: كقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: (مثلي لا يفعل هذا)، أي أنا لا أفعله، فنفى ذلك عن مثله، ويريد نفيه عن نفسه، لأنه إذا نفاه عمن يماثله، ويشبهه، فقد نفاه عن نفسه لا محالة، إذ هو ينفى ذلك عنه أجدر وكذلك يقال:"مثلك إذا سئل أعطى" أي أنت إذا سئلت أعطيت؛ وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع: أنه لم يجعله من جماعة هذه أوصافهم، وتثبيتاً للأمر. وتوكيداً؛ ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم يرس فيه قدمه.
ولا يخفى عليك ما بين تلك العبارة التي أثبتناها لابن الأثير. وبين عبارة ابن جنى: "وإنما جعله من جماعة هذه حالها، ليكون أثبت للأمر، إذ كان له فيه أشياء وأضراب، ولو انفرد هو به لكان غير مأمون انتقاله منه، وتراجعه عنه، فإذا كان له فيه نظراء كان حرى أن يثبت عليه، وترسو قدمه فيه"(2) ولكن ابن الأثلم لم يشر هنا إلى ما قاله ابن جنى!
ثم أورد ابن الأثير ما جاء منها في القرآن الكريم، وهو قول الله تعالى:"ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير"(3)، مبيناً أن الفرق بين قوله: ليس كمثله شيء وبين قوله: ليس كالله شيء هو ما أشار إليه - من أنه إذا نفى الشيء عن مثله فقد نفاه عنه لا محالة - وإن كان الله سبحانه وتعالى، لا مثل له حتى يكون لمثله مثل. وإنما ذكر ذلك - على حد تعبيره - على طريق المجاز، قصداً للمبالغة.
(1) المثل السائر 3/ 61
(2)
الخصائص 3/ 31
(3)
الشورى 11