الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة اللفظ لقوة المعنى
هذا الباب وثيق الصلة بالدراسات البلاغية التي تعتمد على سلامة الذوق، ورقة الإحساس لما فيه من تأثر المعنى باللفظ قوة، وضعفاً، مع أنه لم ينبه إلى جدواه في الدراسات البلاغية إلا ابن الأثير في القرن السابع الهجري، وإن يكن قد اعتمد على كل ما قاله ابن جنى في هذا الباب؛ وقد امتدحه ابن جنى أنه فصل من العربية حسن، ثم مثل له بقولهم:(خشن) و (اخشوشن) لأن معنى (خشن) دون معنى: (اخشوشن). لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو، وبقول عمر رضي الله عنه:"اخشوشنوا، وتمعددوا"، أي أصلبوا، وتناهوا في الخشنة، وبقولهم. أعشب المكان، فإذا أرادوا، كثرة العشب فيه قالوا: اعشوشب، وبقولنا: حلا، واحلولي، وخلق، وأخلولق، وغدن، وأغدودن.
ثم مثل بباب (فعل وافتعل) نحو: (قدر واقتدر) لأن اقتدر أقوى معنى من قولهم: قدر.
وأنت تلاحظ من تمثيله أنه قد جعل الباب شاملاً لأمرين هما:
1 -
قوة اللفظ لقوة المعنى، وهو ما يمثله قولهم:(قدر، وأقتدر) لما ترى من قوة (أقتدر) لشدة النطق بالتاء.
2 -
تكثير اللفظ لتكثير المعنى، وهو ما يمثله قولهم: أعشب المكان، فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا: أعشوشب.
وقد طبق ابن جنى على هذين المبدأين ما تيسر له من القرآن الكريم: أو من فصيح الشعر العربي.
أما ما جاء من قوة اللفظ لقوة المعنى في القرآن الكريم: فقول
الله تعالى: "أخذ عزيز مقتدر"(1)، فمقتدر هنا، أوفق من قادر، من حيث كان الموضع لتفخيم الأمر، وشدة الأخذ (2)، وهو بهذا يشير إلى أن لكل معنى ما يناسبه من الألفاظ، لأن مقام الترهيب يغاير مقام الترغيب، فللأول شدة الألفاظ وقوتها، وللآخر لين الألفاظ وسهولتها.
ولهذا قال: وعليه - عندي - قول الله عز وجل: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسببت"(3) وتأويل ذلك: أن كسب الحسنة بالإضافة إلى اكتساب السيئة، أمر يسير، ومستصغر؛ والدليل على هذا: قوله الله تعالى: "مت جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها"(4).
فقد صغرت الحسنة بالإضافة إلى جزائها، صغر الواحد إلى العشرة، ولما كان جزاء للسيئة إنما هو بمثلها، لم تحتقر إلى الجزاء عنها، فعلم بذلك قوة فعل السيئة، على فعل الحسنة، ولذلك قال تبارك وتعالى:"تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً، أن دعوا للرحمن ولداً، ولما كان فعل السيئة ذاهباً بصاحبه، إلى هذه الغاية البعيدة المترامية، عظم قدرها وفخم لفظ العبارة عنها، فقيل: "لها ما كست، وعليها ما اكتسبت" فزيد في لفظ فعل السيئة، وأنقص من لفظ فعل الحسنة.
فأساس صغر الحسنة - عند ابن جنى - إنما هو بالمقارنة بينها وبين جزائها، فلما كان جزاؤها عشرة أمثالها، كانت صغيرة بالنسبة له، وأساس عظيم السيئة - عنده أيضاً - إنما هو بالمقارنة بينها وبين جزائها، ولما كان جزاء السيئة إنما هو مثلها، كانت كبيرة بالنسبة له، لأن منها ما يذهب
(1) القمر 46
(2)
الخصائص 3/ 265
(3)
البقرة 286
(4)
الأنعام 160
بصاحبه إلى غاية بعيدة مترامية، كالذي في قوله تعالى:"تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً؛ أن دعوا للرحمن ولداً"(1).
وقد يكون في خفة النطق بلفظة (كسبت) وشدته بلفظة (اكتسبت) ما يشير إلى سهولة طرق الخير، ويسر العمل بها، ووعورة طرق الشر" وشدة العمل بها، لما يرتكب فيها صاحبها من أخطاء، ويقترف من أخطار، ويتحمل من آثام.
وكذلك توحي خفة النطق (بالحسنة) إلى سهولة عملها، ويسره، كما توحي شدة النطق (بالسيئة) إلى شدة المعاناة في اقترافها.
وأما ما مثل به ابن جنى لقوة اللفظ لقوة المعنى فهو بيت الكتاب:
إنا اقتسمنا خطتينا
…
فحمل برة، واحتملت فجار
حيث عبر عن البر بالحمل، وعن الفجرة بالاحتمال، ثم قال: وهذا هو ما قلناه في قوله عز وجل: "لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت"، لا فرق بينهما.
وأما ما جاء من تكثير اللفظ لتكثير المعنى: فقولهم: رجل جميل، ووضئ، فإذا أرادوا المبالغة في ذلك قالوا: وضاء، وجمال، فزادوا في اللفظ هذه الزيادة، لزيادة معناه، قال الشاعر:
والمرء يلحقه بفتيان الندى
…
خلق الكريم، وليس بالوضاء
(1) مريم 90، 91
وقال:
تمشي بجهم حسن ملاح
…
أجسم حتى هم بالصباح
وقال:
منه صفيحة وجه غير جمال
وكذلك حسن، وحسان، يقول الشماح:
دار الفتاة التي كنا نقول لها:
…
يا ظبية عطلا، خسائه الجيد
ومنه قولك: قطع، وقطع، وقام الفرس، وقومت الخيل، ومات البعير، وموتت الإبل.
فأما قولهم (خطاب) - فإنه - وإن كان اسماً - لاحق بالصفة في إفادة معنى التكثير، لأنه موضوع لكثرة الإختطاف به.
وكذلك قولهم: (سكين) إنما هو موضوع لكثرة تسكين الذابح به، وكذلك: البزاز، والعطار، والقصار، ونحو ذلك، إنما هي لكثرة تعاطي هذه الأشياء؛ وإن تكن مأخوذة من القمل.
ويلحق بتكثير اللفظ لتكثير المعنى: العدول عن معتاد حال اللفظ:
ويمثل هذا: (فعال) في معنى (فعيل)، نحو: طوال، فهو أبلغ من طويل، وعراض، فهو أبلغ معنى من عريض، لأنه لما كانت فعيل هي الباب المطرد وأريدت المبالغة، عدل إلى (فعال).
وسر هذا الباب الذي تضمن قوة اللفظ لقوة المعنى، وتكثيرة اللفظ