الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجاز المرسل
أسلفنا لك أن مصطلح "المجاز المرسل" لم يكن معروفاً في عصر ابن جنى، ولهذا فإنه أتى بأمثلة منه، ولم يسمه بهذا الاسم".
وهنا نذكر لك أنه قد أتى بباب أسماه باباً في الاكتفاء بالسبب عن المسبب وبالمسبب عن السبب، وأمثلته لا تعدو أن تكون ما أسماه المتأخرون مجازاً مرسلاً.
وقد نوه ابن جنى به، وذكر أنه موضع من العربية شريف لطيف، وأنه واسع لمتأمله كثير، وأنه قد ورد بكتابه منه ما لا يحصيه.
ومما ذكره - في كتابه - مما أشار إليه هنا: ما ذكره من تجوز العرب في تسميتهم الاعتقادات والآراء، قولاً، وذلك لأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول، من شاهد الحال، فلما كانت لا تظهر، إلا بالقول سميت قولاً، إذ كانت سبباً له، وكان القول دليلاً عليه، "كما يسمي الشيء باسم غيره، إذا كان ملابساً له".
ومثله في الملابسة: قول الله تعالى: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت".
إذ معناه - والله أعلم - أسباب الموت، إذ لو جاء الموت نفسه لمات به - لا محالة.
ومنه: تسمية المزادة الراوية، والنجو نفسه الغائط، ثم قال: وهو كثير (1).
(1) الخصائص 1/ 19، 20
ومما أورده ابن جنى في هذا الباب: قول الله تعالى "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله".
لأن تأويله - والله أعلم-: فإذا أردت قراءة القرآن، فاكتفى بالمسبب الذي هو: الإرادة.
ومنه قوله تعالى "إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم": أي: إذا أردتم القيام لها.
ومنه قوله تعالى: "فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً".
أي: فضرب، فانفجرت، فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار عن السبب الذي هو: الضرب.
وإن شئت قلت: أكتفى بالسبب الذي هو: القول عن المسبب الذي: الضرب.
ومنه قول رؤية:
يا رب إن أخطأت أو نسيت
…
فأنت لا تنسى ولا تموت
أي: إن أخطأت، أو نسي، فاعف عني، لنقصي وفضلك؛ فاكتفى بذكر الكمال والفضل، وهو السبب عن العفو، وهو المسبب.
ومنه بيت الكتاب:
فإن تبخل سدوس بدرهمها
…
فإن الريح طيبة قبول
أي: إن بخلت تركناها، وانصرفنا عنها، فاكتفى بذكر طيب الريح المعين على الارتحال عنها (1).
ومنه ما ذكره لبعض المولدين:
جزت بالساباط يوماً
…
فإذا القينة تلجم
وهو رجل كانت له جارية، فباعها، واشترى بثمنها برذوناً، فمر به هذا الشاعر، وهو يلجم، فسماه قينة، إذ كان شراؤه مسبباً عن ثمن القينة.
وهذا ما سماه الخطيب: تسمية المسبب باسم السبب.
ثم أورد ابن جنى قول الله تعالى: "إني أراني أعصر خمراً"، ثم قال: فاكتفى بالمسبب الذي هو: الخمر من السبب الذي هو العنب.
وقال الفرزدق:
قتلت قتيلاً، لم ير الناس مثله
…
أقبله ذاتومتين مسوراً
وإنما قتل حياً، يصير بعد قتله قتيلاً، فاكتفى بالمسبب عن السبب.
وقال الآخر:
قد سبق الأشقر، وهو رابض
…
فكيف لا يسبق إذ يراكض
يعني مهراً سبقت أمه، وهو في جوفها، فاكتفى بالمسبب، الذي هو: المهر عن السبب الذي هو الأم (2).
(1) و (2) الخصائص 3/ 176
والآية الكريمة، وبيت الفرزدق من قبيل ما سماه الخطيب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه (1).
وأما قول الآخر، فإنه من قبيل تسمية السبب باسم المسبب.
وقد نقل ابن الأثير عنوان هذا الباب الذي أورده هنا ابن جنى، وجعله الضرب الثاني من حذف الجمل، وهو الاكتفاء بالسبب عن المسبب وبالمسبب عن السبب، كما نقل بعض أمثلته (2).
ويؤخذ مما أوردناه لك، مما ذكره ابن جنى في موضوع المجاز، الذي يسميه المتأخرون مجازاً مرسلاً؛ ما يلي:
1 -
أن هذا النوع من المجاز اللغوي، قد أفرده ابن جنى عن غيره من المجاز القائم على التشبيه، ولم يضع له اسماً، وإنما جعله باباً في الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب، وأنه قد ذكر منه في الخصائص ما لا يحصيه من الأمثلة.
2 -
أن ابن جنى لم يضع لهذا النوع من المجاز تعريفاً، ولكنه قد جرى على لسانه ما يمكن أن يكون تعريفاً للمجاز المرسل، وذلك هو قوله عندما ذكر تجوز العرب في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولاً-:"كما يسمى الشيء باسم غير، إذا ان ملابساً له".
فكأن المجاز المرسل عنده، هو: تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان ملابساً له".
(1) الإيضاح 157
(2)
المثل السائر 2/ 272