الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
أنه أرجع جميع العلاقات التي وجدها بالأمثلة التي ذكرها إلى علاقتين اثنتين هما: السببية، والمسببه، ولهذا فإنه وضع تلك الأمثلة في باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب.
إفادة البلاغيين من هذا الباب:
رأي الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ، أن أستاذه ابن جنى قد أفرد هذا النوع من المجاز، لأنه لم يقم على التشبيه الذي اشترطه في المجاز، ففهم من هذا التصرف أن المجاز نوعان:
أحدهما: قائم على التشبيه، والآخر قائم على نوع من الملابسة غير التشبيه، ومن هذا: أنهم قد سموا، الغيث سماء لأن نزوله يكون من جهة السماء قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم
…
رعيناه، وإن كانوا غضاباً
أراد: إذا سقط الغيث، ثم قال: رعيناه، فرد الكلام على ما ينبت عن الغيث من الرعى الجميم، والكلأ العميم، ومثل هذا في كلامهم مستفيض (1)
ولهذا فإنه قد فرق بين المجاز القائم على التشبيه، والمجاز القائم على نوع من أنواع الملابسة غير التشبيه عندما أراد بيان المجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن المسجد لينزى من النخامة (2) كما تنزى الجلدة في النار"، فقد قال فيه:
(1) المجازاة النبوية 155
(2)
النخامة: ما تدفعه من صدرك، أو أنفك.
"وهذا الكلام مجاز" وفيه قولان:
أحدهما. أن المسجد يتنزه عن النخامة - وهي البصقة - بمعنى أنه يجب أن يكرم عنها، وألا يبتذل بها، فإذا رؤيت عليه كانت شانته له، وزاديه عليه، فكان معها، بمنزلة الرجل ذي الهيئة، يشمئز مما يهجنه، وينقبض عما يدنسه، وأصل الأنزواء: الانحراف مع تقبض وتجمع.
والقول الآخر: أن يكون المراد أهل المسجد، فأقيم المسجد في الذكر مقامهم، لما كان يشتمل عليهم وعلى ذلك قول الشاعر:
واستب بعدك - يا كليب - المجلس
والمراد: أهل المجلس، لأن الاستباب (أي أن يسب بعضهم بعضاً) لا يكون بين القاعات والجدران، وإنما يكون بين الإنسان والإنسان، فالمعنى أن أهل المسجد ينقبضون من النخامة، إذا رأوها فيه ذهاباً به عن الأدناس، وصيانة له عن الأدران (1).
وواضح من هذين الرأيين اللذين أوردهما الشريف الرضى: أنه على الرأي الأول: شبه المسجد بالرجل ذي الهيئة، لأنه جعله يشمئز مما يهجنه، وينقبض عما يدنسه ثم حذف المشبه به وأبقى لازمه وهو الاشمئزار والانقباض على سبيل الاستعارة المكنية وعلى الرأي الأخر: يكون قد سمى القوم مجلساً، لاشتماله عليهم، من تسمية الشيء باسم محله، على حد قوله تعالى: "وأسأل القرية، أي، أهلها، وهذا هو المجاز المرسل.
وألم ابن رشيق المتوفى سنة 456 هـ بما قاله ابن جنى في الخصائص، وما قاله الشريف الرضى في المجازات النبوية، فذكر أنهم خضوا به (أي بالمجاز)
(1) المجازات النبوية 146، 147
باباً بعينه وإن كان يرى أن المجاز يشمل التشبيه والاستعارة والكناية ثم عرفه ومثل له بقوله "أن يسمي الشيء باسم ما قاربه" أو كان منه بسبب، كما قال جرير:
إذا سقط السماء بأرض قوم
…
رعيناه وإن كانوا غضاباً
أراد المطر، لقربه من السماء (1).
وكأن ابن رشيق لما رأى ابن جنى يقول: لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة هي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، ثم رآه يفرد لهذا النوع من المجاز اللغوي باباً خاصاً، قال: إنهم خصوا به باباً بعينه، ثم حاول أن يثبت أن التشبيه والكناية من المجاز (2)، دون أن يلحظ أن ابن جنى بتخصيصه لهذا النوع باباً، قد قسمه إلى قسمين: قسم قائم على التشبيه، وقسم قائم على ملابسة من الملابسات غير التشبيه، وأن الشريف الرضى قد قسمه - أيضاً - متابعاً لابن جنى.
وكان صنيع ابن جنى، والشريف الرضى في التفريق بين قسمي المجاز اللغوي دافعاً لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ إلى أن يعيب على الآمدي إطلاقه اسم الاستعارة على (المجلس) في قول البحتري:
فكأن مجلسه المحجب محفل
…
وكأن خلوته الخفية مشهد
ثم يفرق التفريق النهائي بين القسمين، فيقول عن أبي القاسم الآمدي:
قال - في أثناء فصل يبحث فيه عن شيء اعترض به على البحتري في قوله:
فكأن مجلسه المحجب محفل
…
وكأن خلوته الخفية مشهد
(1) العمدة: 1/ 266
(2)
العمدة: 1/ 268
إن المكان لا يسمى مجلساً إلا وفيه قوم، ثم قال: ألا ترى، إلى قول المهلهل:(واستب بعدك - يا كليب - المجلس (1)) على الاستعارة فاطلق الاستعارة على وقوع المجلس هنا بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور، وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه، على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به، وتكثر ملابسته إياه.
ثم قال: وأي شيء يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتمعون فيه؟ إلا أنه لا يعتد بمثل هذا، فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة (2) "
ومن هنا سمى المتأخرون هذا النوع من المجاز: المجاز المرسل، أخذاً من قول عبد القاهر: فإن لك قد يتفق حيث ترسل العبارة.
ولما كان التفريق بين نوعي المجاز اللغوي مأخوذاً من نوع العلاقة التي ذكرها ابن جنى - في قوله: كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابساً له. فقد عرفه الخطيب بذكر هذه العلاقة، وهي الملابسة بغير التشبيه، فقال في تعريفه: هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه، وذكر من علاقاته:
1 -
تسمية الشر ص 160 باسم سببه، كاستعمالهم البد في النعمة، كقولك: لفلان على يد لا أنكرها.
2 -
تسمية الشيء باسم المسبب: كقولهم أمطرت السماء نباتاً
3 -
تسمية الشيء باسم جزئه، كاستعمال العين في الربيئه، لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة، لأن ما عداها
(1) الموازنة 357 والحيوان للجاحظ 3/ 128، ديوان المعاني 1/ 204 والصناعتين 203
(2)
أسرار البلاغة 371
لا يغني شيئاً، مع فقدها، فصارت كأنها الشخص، ومنها قول الله تعالى: قم الليل إلا قليلاً".
4 -
تسمية الشيء باسم كله: نحو قوله تعالى، يجعلون أصابعهم في آذانهم أي أي أنا ملهم.
5 -
ومنها: تسمية الشيء باسم ما كان عليه، كقوله تعالى وآتوا اليتامي أموالهم أي: الدين كانوا يتامى.
6 -
ومنها: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كقوله تعالى إني أراني أعصر خمراً".
7 -
تسمية الشيء باسم محله، كقوله تعالى "فليدع ناديه"
8 -
تسمية الشيء باسم آلته كقوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" (1).
(1) الإيضاح 157
(11 - الخصائص)