الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجاز بالحذف والزيادة
يذكر ابن جنى أن من المجاز: كثير من باب الشجاعة في اللغة: من الحذوف، والزيادات، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى والتحريف.
غير أنه قد نبه على ما جاء من باب الحذف مما يعده مجازاً، فقال: ألا ترى أنك إذا قلت: بنو فلان يطؤهم الطريق، ففيه من السعة: إخبار عما لا يصح وطؤه بما يصح وطؤه؛ فتقول على هذا: أخذنا على الطريق الواطئ لبني فلان، ومررنا بقوم موطوئين بالطريق وبالطريق: طأ بنا بني فلان، أي أدنا إليهم، وتقول: بني فلان بيته على سنن المارة، رغبة في طئة الطريق بأضيافه له؛ أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز؟ !
ووجه التشبيه: إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه؛ فشبهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم، فكأنه هم.
وأما التوكيد: فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم، وذلك أن الطريق مقيم ملازم؛ فأفعاله مقيمه معه، وثابتة بثباته وليس كذلك أهل الطريق؛ لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه؛ فاأفعالهم - أيضاً - كذلك، حاضرة وقتاً، وغائبة آخر؛ فأين هذا مما أفعاله ثابتة مستمرة؟ !
ولما كان هذا كلاماً، الغرض فيه المدح والثناء، اختاروا له أقوى اللفظين لأنه يفيد أقوى المعنيين (1).
(1) الخصائص 2/ 446
فقد رأيت أن ابن جنى يعد قولهم: (بنو فلان يطؤهم الطريق) من باب المجاز وأنه شبه الطريق بالكيه؛ لأنه هو المؤدي إليهم؛ وهو بهذا ينحو نحو الاستعارة بالكناية.
كما أنك قد رأيت أن ابن جنى قد وضع هذا المثال في عداد ما فيه مجاز طريقة الحذف؛ لأن هذا المجاز، في المثال حقيقته: بنو فلان يطؤهم السالكون في الطريق المؤدي إليهم.
وقد أضاف إن جنى إلى هذا المثال قول الله سبحانه: "وأسئل القرية التي كنا فيها"(1)، وذكر أن فيه المعاني الثلاثة: الاتساع، والتشبيه، والتوكيد.
أما الإتساع: فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة، سؤاله.
وأما التشبيه: فلأنها شبهت ممن يصح سؤاله لما كان بها، ومؤلفا لها.
وأما التوكيد: فلأنه في ظار اللفظ إحالة بالسؤال عن من ليس من عادته الإجابة، فكأنهم تضمنوا لأبيهم عليه السلام أنه إن سال الجمادات، والجبال أنبأته بصحة قولهم، وهذا تناه في تصحيح الخبر، أي: لو سألتها لانطقها الله بصدقنا؛ فكيف لو سألت من من عادته الجواب (2)؟ !
وهذه الآية الكريمة - أيضاً - بها مجاز طريقة الحذف، لأن
(1) يوسف 82
(2)
الخصائص 2/ 447
التقدير: وأسأل أهل القرية، ولكن ابن جنى - كما أسلفنا لك في المثال السابق - يميل إلى أن بها ما عرف عند المتأخرين بالاستعارة بالكناية.
والحق أن هذا النوع من المجاز، إنما هو مجاز مرسل علاقته المحلية لأن تقدير المثال: بنو فلان يطؤهم أهل الطريق، كما أن تقدير الآية الكريمة: واسأل أهل القرية (1).
وفي المجاز المرسل من المبالغة المقصودة من المثال، والآية الكريمة، ما يطمئن ابن جنى، ففي المثال ما يفيد كثرة التردد على هؤلاء القوم حتى شمل التردد الطريق نفسه، وفي الآية الكريمة: ما يفيد الطلب الإكثار من السؤال، حتى يعم السؤال القرية نفسها بأرضها، وسمائها، وبنائها.
والمجاز المرسل مصطلح لم يكن معروفاً في عصر ابن جنى، فقد أعلن عنه عبد القاهر - في الأسرار - إذ بين خطأ الآمدي، إذ قال في أثناء فصل بحث فيه عن شيء اعترض به على البحتري في قوله.
فكأن مجلسه المحجب محفل
…
وكأن خلوته الخفية مشهد
إن المكان لا يسمى مجلساً إلا وفيه قوم؛ ثم قال: ألا ترى إلى قول المهلهل: (واستب بعدك يا كليب المجلس) على الاستعارة؛ فأطلق الاستعارة على وقوع المجلس هنا بمعنى القوم الذين يجتمعون، وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه، بل على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به، وتكثر ملابسته إياه، وأي شيء يكون بين القوم
(1) الكشاف 2/ 337
ومكانهم الذي يجتمعون فيه؟ إلا أنه لا يعتد بمثل هذا القول، فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة (1).
فأخذ المتأخرون مصطلح المجاز المرسل، من قول عبد القاهر: فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة.
وقد اهتم الإمام عبد القاهر بما أثاره ابن جنى من المجاز الذي قد يأتي عن طريق الحذف، أو عن طريق الزيادة، فعقد فصلاً يبين فيه متى يكون الحذف أو الزيادة مجازاً (2):
فبين: أن الكلمة كما توصف بالمجاز، لنقلك لها عن معناها، فإنها توصف بالمجاز - أيضاً - لنقلها عن حكم كان لها، إلى حكم ليس هو بحقيقة فيها، ثم مثل يقول الله تعالى:"واسأل القرية" مبيناً أن الأصل هو: واسأل أهل القرية، وأن المضاف إليه قد اكتسى إعراب المضاف في الآية الكريمة.
فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل، وعلى الحقيقة، هو: الجر، والنصب فيها مجاز.
ثم أضاف إلى الآية الكريمة في هذا الحكم نفس المثال الذي أورده ابن جنى، وهو قولهم:(بنو فلان تطؤهم الطريق)، يريدون أهل الطريق، فالرفع في الطريق مجاز، لأنه منقول إليه عن المضاف المحذوف، الذي هو: الأهل؛ والذي يستحقه في أصله هو: الجر.
ثم ذكر عبد القاهر: أنه لا ينبغي أن يقال في وجه المجاز - هنا -
(1) أسرار البلاغة 371 (تحقيق هـ. رينز).
(2)
أسرار البلاغة 383 (تحقيق هـ. رينز).
إنه الحذف "لأن الحذف إذا تجرد عن تغيير حكم من أحكام ما بقى بعد الحذف لم يسم مجازاً. وحكم الزيادة - عند عبد القاهر - حكم الحذف، فإذا لم يحدث الزائد حكماً جديداً في الكلمة، فإنها لا تسمى مجازاً، وذلك كزيادة (ما) في قوله تعالى: "فبما رحمة من الله"، وذلك لأن حقيقة الزيادة في الكلمة هي: أن تعرى من معناها، ونذكر، ولا فائدة لها سوى الصلة، ويكون سقوطها، وثبوتها سواء.
ومحال أن يكون ذلك مجازاً، لأن المجاز هو: أن يراد بالكلمة غير ما وضعت له في الأصل أو يزاد فيها، أو يوهم شيء ليس من شأنها، كإيهامك بظاهر النصب في القرية: أن السؤال واقع عليها، والزائد الذي سقوطه كتبوته، لا يتصور فيه ذلك.
وإذا أحدث الزائد حكماً نزول به الكلمة عن أصلها: جاز - حيئنذ أن يوصف ذلك الحكم، أو ما وقع فيه بأنه مجاز، وذلك كقولك في نحو قول الله تعالى:"ليس كمثله شيء" إن الجر في المثل مجاز، لأن أصله النصب؛ والجر حكم عرض من أجل زيادة الكاف.
وقد أفاد ابن الأثير من باب الفرق بين الحقيقة والمجاز، في خصائص ابن جنى إفادة كبيرة:
وذلك لأنه لما رأى ابن جنى يقول: "إن المجاز يقع ويعدل إليه عن عن الحقيقة لمعان ثلاثة؛ وهي: الإتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف كانت الحقيقة ألبته"؛ أخذ أقسام المجاز، أو تقسيمه من عبارة ابن جنى فقسم المجاز إلى: توسع في الكلام، وتشبيه، ولكنه لما وجد ابن جنى قد مثل للمجاز بما فيه استعارة، كما في (قرعت ظنابيب الهوى (و (غمر الرداء) و (وجه كأن الشمس حلت رداءها)، أدرك خطأ تقسيمه، فقال متردداً: "وإن شئت قلت: إن المجاز ينقسم إلى: توسع
في الكلام، وتشبيه، واستعارة، ولا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثلاثة فأيها وجد كان مجازاً" (1).
وهكذا يقسم ابن الأثير المجاز تقسيماً مخالفاً لما عليه جمهور البلاغيين!
فقد جعل التوسع في الكلام قسماً من أقسام المجاز، وليس عند البلاغيين للمجاز قسم بهذا الاسم، ولكنهم عدوا ما أسماه ابن جنى توسعاً في الكلام قسماً من أقسام الاستعارة، وهو الاستعارة بالكناية، لأنهم رأوا ابن جنى يميل في تقدير أمثلته - كما أسلفنا - إلى أن يكون استعارة بالكناية، بينما آثر ابن الأثير مصطلح ابن جنى وهو: التوسع في الكلام، ثم قسمه قسمين آخرين أطلقه فيهما على ما قبح من أمثله الاستعارة بالكناية، وعلى ما حسن منها.
ثم جعل التشبيه - أيضاً - قسماً من أقسام المجاز، مع أن جمهور البلاغيين قد أخرجه من حيز المجاز، وأدخله في حيز الحقيقة، لأن دلالته مطابقية.
وعلى الرغم من كثرة ما نقل ابن الأثير من خصائص ابن جنى، فإنه يورد عبارته التي أخذ عنها أقسام المجاز، ليرد عليها، فيسقط منها: التوكيد، ليسلم له تقسيم المجاز إلى: توسع في الكلام، وتشبيه، واستعارة! ، فيقول:"وكنت تصفحت كتاب: (الخصائص) لأبي الفتح عثمان بن جنى، فوجدته قد ذكر في المجاز شيئاً يتطرق إليه النظر، وذلك أنه قال: لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة وهي: الاتساع، والتشبيه "والتوكيد، فإن عدمت الثلاثة، كانت الحقيقة البتة.
(1) المثل السائر 2/ 71
فمن ذلك قوله تعالى: "فأدخلناه في رحمتنا"(1) فهذا مجاز، وفيه الثلاثة المذكورة:
أما الاتساع: فهو: أنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً، وهو الرحمة.
وأما التشبيه: فإنه شبه الرحمة - وإن لم يصح دخولها - بما يصح دخوله.
وأما التوكيد: فهو: أنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة بما يدرك بالحاسة، تعالياً بالمخبر عنه، وتفخيماً له، إذا صير بمنزله ما يشاهد ويعاين" ثم يقول: هذا مجموع قول أبي الفتح رحمه الله من غير زيادة ولا نقص.
وأنت تشعر من قول ابن الأثير: "من غير زيادة ولا نقص" أنه يخفى وراءها شيئاً ما! أما الذي يخفيه ابن الأثير وراء هذه الكلمة فهو أمران:
أولهما: أنه وإن لم يزد على ما قاله ابن جنى؛ فلقد ترك مما قاله أمثلة أخرى، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس هو بحر، والأبيات الأخرى التي أضافها على الآية الكريمة، والحديث النبوي الشريف، ولكنه انتقى الآية الكريمة ليتأتى له الرد على ابن جنى بما سنورده لك، كما أنه قد ترك حرفاً واحداً هو الكاف من عبارة ابن جنى:(كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة)، لكي يتحقق له غرضه من رده!
والآخر: هو أنه يريد نقد ابن جنى ليسلم له التقسيم الذي وضعه، وأنه أتى بتقسيم لم يسبق إليه!
(1) المثل السائر 2/ 71