الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترى فيه الحذف أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبيناً، إذا لم تبين (1).
ثم ينشئ إلى موضوع حذف المفعول به في دلائل الإعجاز فينقله بعضه (2) تقريباً.
ومما يدلك على إفادة ابن الأثير من ابن جنى في موضوع الحذف: قوله في: حذف الموصوف والصفة، وإقامة كل منهما مقام الآخر:
ولا يكون أطراده في كل موضع، وأكثره يجيء في الشعر، وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور، لامتناع القياس في أطراده.
ثم يقول: والصفة تأتي في الكلام على ضربين:
1 - إما للتأكيد والتخصيص
.
2 - وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل
، لا من مقامات الإيجاز والاختصار، وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به. هذه مع ما ينضاف إليه من الالتباس، وأنه ضد البيان.
ألا ترى أنك، إذا قلت: مررت بطويل، لم يبن من هذا اللفظ الممرور به، إنسان هو رمح، أم ثوب، أو غير ذلك؟ !
وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به الحال، وإذا استبهم كان حذف غير لائق.
ومما يؤكد عندك ضعف حذفه، أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف حذف موصوفه، وذاك أن تكون الصفة جملة، نحو مررت برجل قام أبوه
(1) المثل السائر 2/ 268
(2)
المثل السائر 2/ 291 - 295
ولقيت غلاماً وجهه حسن: ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه، ولقيت وجهه حسن لم يجز (1)؟ !
وذلك هو نص عبارة ابن جنى في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في الخصائص (2).
ولكن ابن الأثير لم يشر إلى ابن جنى هنا، لأنه لم يجد مجالاً لنقده، مما يدلك على أن ابن الأثير لم يكن يذكر أحداً أخذ عنه من العلما، إلا لنقده، وبيان تفوقه عليه!
فلما كان الخطيب القزويني المتوفى سنة 739 هـ جعل الإيجاز قسيم الإطناب والمساواة، وجعله ضربين:
أحدهما: إيجاز القصر، وهو ما ليس بحذف، كقوله تعالى:"ولكم القصاص حياة".
والآخر: إيجاز الحذف وهو ما يكون بحذف، والمحذوف إما أن يكون جز جملة، وإما أن يكون جملة؛ وإما أن يكون أكثر من جملة، وجزء الجملة إما أن يكون مضافاً، كقوله تعالى:"واسأل القرية"، أي: أهلها وإما أن يكون موصوفاً، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
أي: أنا ابن رجل جلا.
وإما أن يكون صفة، نحو قوله تعالى:"وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً"، أي: كل سفينة صحيحة، أو صالحة، أو نحو ذلك بدليل ما قبله؛ أي قوله:"فأردت أن أعيبها".
وإما أن يكون شرطاً - كما سبق - وإما أن يكون جواب شرط، وهو ضربان:
(1) المثل السائر 2/ 300
(2)
الخصائص 2/ 366
أحدهما: أن يكون لمجرد الاختصار؛ كقوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيدكم وما خلفكم لعلكم ترحمون" أعرضوا؛ بدليل قوله بعده: "إلا كانوا عنها معرضين".
والثاني: أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن؛ كقوله تعالى:"ولو ترى إذ وقفوا على النار" وقوله: "ولو ترى إذ وقفو على ربهم".
وأما ما يكون جملة: فهو إما مسبب ذكر سببه، كقوله تعالى:"ليحق الحق ويبطل الباطل"؛ أي فعل مافعل.
وإما أن يكون سبباً ذكر مسببه: كقوله تعالى: "فتوبوا إلى بارئكم؛ فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم، ؛ أي فامتثلتم؛ فتاب عليكم
وإما ألا يكون سبباً ولا مسبباً كقوله تعالى: "فنعم الماهدون".
وأما ما يكون أكثر من جملة. فكقوله تعالى: "فقلنا أضربوه ببعضها؛ كذلك يحي الله الموتى"؛ أي فضربوه ببعضها، فحي؛ فقلنا كذلك يحى الله الموتى.
ثم رأى الخطيب أن الحذف على وجهين:
أحدهما: أن لا يقام شيء مقام المحذوف - كما سبق -.
والآخر: أن يقام مقامه ما يدل عليه، كقوله تعالى: فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، أي: فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم (1)
وهكذا وجد موضوع الحذف؛ الذي ذكره ابنى جنى في باب شجاعة العربية؛ منوهاً به بين الأساليب العربية؛ مكانه في البلاغة العربية.
(1) الإيضاح 110
فقد كانت أضر به التي بينها ابن جنى أساساص بنى عليه البلاغيون تقسيماتهم للإيجاز بالحذف؛ كما أن أمثلته التي ذكرها؛ جعلت معالم قاس عليها البلاغيون من بعده ما وجدوه من تراث العربية منظوماً كان أو منثوراً.
ولئن كان ابن جنى في تلك الأضرب قد تتبع معاني النحو فيما بين الكلم دون ذكر للأغراض التي سبق لأجلها الكلام؛ فلقد تتبع البلاغيون من بعده؛ كعبد القاهر الجرجاني "وابن الأثير؛ والخطيب القزويني؛ تلك المعاني على حسب الأغراض التي سيق لها الكلام فكانت خير مثال للنظم في رأي عبد القاهر الجرجاني: وهو تتبع معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يساق لها الكلام.