الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفي الشيء بإيجابه
أوود ابن جنى هذا الفن من فنون القول تحت ما أسماه: "توجه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين".
ومثل له بقولهم: (هذا أمر لا ينادي وليده) وذكر أن لفظه غير مختلف فيه ولكن اختلفوا في تفسيره.
فقال قوم: إن الإنسان يذهل عن ولده؛ لشدته؛ فيكون هذا كقوله تعالى: "يوم تزونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت"(1)؛ وقوله تعالى: "يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه"(2).
وقال قوم: أي هو أمر عظيم؛ فإنما ينادي فيه الرجال والجلة، لا الإماء والصبية.
وقال آخرون - وهم أصحاب المعاني-: أي: لا وليد فيه فينادي: وإنما فيه الكفاة، والنهضة:
ولعل ابن جنى يقصد البلاغيين بهذا القول الأخير.
وقد مثل له من الشعر بقول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدي بمناره
…
إذا ساقه العود الديا في جرجرا
أي: لا منار فيه فيهتدي به.
(1) الحج 2
(2)
عبس 24، 25
ويقول الآخر:
لا تفزع الأرنب أهواها
…
ولا ترى الذئب بها ينجحر
أي: لا أرنب بها، فتفزعها أهوالها.
وبينت الكتاب:
وقدر ككف القرد لا مستعيرها
…
يعار، ولا من يأتها يتدسم
أي: لا مستعير يستعيرها، فيعارها، لأنها - لصغرها ولؤمها - مأبية معيفه (1).
وقد أعاد ابن جنى هذا الفن من فنون القول، في باب آخر من خصائصه بعنوان "باب في الجمع بين الأشباه من حيث يغمض الاشتباه" مفترضاً أن يقول له قائل: من أين تجمع قول الله تعالى "ولم يكن له ولي من الذل" مع قول أمرئ القيس،
على لا حب لا يهتدى بمناره
…
إذا ساقه العود النياطي جرجرا
ويجيب ابن جنى على هذا السؤال بأن معنى قوله: "ولم يكن له ولي من الذل"(2)، لم يذل، فيحتاج إلى ولي من الذل، كما أن البيت معناه: لا منار به، فيهتدى به، ومثله قول الآخر:
لا تفزع الأرنب أهوالها
…
ولا ترى الضب بها ينجحر
(1) الخصائص 3/ 164
(2)
ختام سورة الإسراء
وعليه قول الله تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين"(1)، أي: لا يشفعون لهم، فينتفعوا بذلك، يدل عليه قوله عز اسمه: "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وإذا كان كذلك، فلا شفاعة إلا لمن ارتضى الله، وبهذا تعلم أنهم لو شفع لهم لم ينتفوا بتلك الشفاعة، ومنه قولهم:(هذا أمر، لا ينادى وليده)، أي لا وليد فيه فينادى.
ثم يفترض ابن جنى أن قائلاً قال: فإذا كان، لا منار به، ولا وليد فيه، ولا أرنب هناك، فما وجه إضافة هذه الأشياء إلى ما لا ملابسة بينها وبينه؟ !
ويجيب ابن جنى قائلاً: لا، بل هناك ملابسة، لأجلها صحت الإضافة وذلك: أن العرف أن يكون في الأرض الواسعة منار يهتدى به، وأرنب تحلها، فإذا شاهد الإنسان هذا البساط من الأرض خالياً من المنار، والأرنب ضرب بفكره إلى ما فقده منهما فصار ذلك القدر من الفكر وصلة بين الشيئين، وجامعاً لمعتاد الأمرين وكذلك إذا عظم الأمر واشتدا الخطب علم أنه لا يقوم له ولا يحضر فيه إلا الأجلاد وذوو البسالة، دون الولدان وذوى الفزاعة، فصار العلم بفقدان هذا الضرب من الناس وصلة فيه بينها وعذراً في تصاقبهما، وتداني حاليهما (2).
(1) المدثر 48
(2)
الخصائص 3/ 322