الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - السر في قوة التشبيه بأداته: (كأن):
يعرض ابن جنى لهذا الموضوع بفلسفة في النظم لا نجدها عند غيره ممن سبقه من البلاغيين بل لعلها كانت نور هداية لمن أتى بعدهم؛ في معرفة الكثير من أسرار النظم؛ واستنطاق ما أنبهم من خفايا التراكيب.
فهو يبدأ ببيان السر في أن العرب قد عنيت بألفاظها؛ فأولتها صدراً صالحاً من تثقيفها. وإصلاحها؛ وهو: أن الألفاظ أزمة للمعاني، وأدلة عليها، وموصلة إليها، ومحصلة للمراد منها.
وفي خلال أمثلته التي يوردها دليلاً على عنايتهم بإصلاح اللفظ؛ يذكر أن من إصلاحهم للفظ قولهم: (كأن زيداً عمرو)؛ ويذكر أن أصل هذا الكلام: (زيد كعمرو)؛ ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه؛ فقدموا حرفه إلى أول الكلام؛ عناية به، وإعلاماً أن عقد الكلام عليه، فلما تقدمت الكاف، وهي جارة، لم يجز إن تباشر (إن)؛ لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل؛ فوجب لذلك فتحها، فقالوا: كأن زيداً عمرواً (1).
إفادة عبد القاهر من تلك المسألة:
ولقد أفاد عبد القاهر الجرجاني من تلك المسألة البلاغية التي مثل بها ابن جنى، وجعلها دليلاً على عناية العرب بإصلاح اللفظ، إفادة كبيرة؛ فلقد أطلق على ما أسماه ابن جنى: إصلاح اللفظ. عبارة التوخي في نظم اللفظ، وترتيبه، وبين على هدى مما قاله ابن جنى؛ في (زيد كعمرو) و (كأن زيداً عمرو) - أنه لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى"
(1) الخصائص 1/ 317
حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد؛ فتقول:(زيد كالأسد)؛ ثم تريد هذا المعنى بعينه، فتقول:(كأن زيداً الأسد)، فتفيد تشبيهه - أيضاً - بالأسد، إلا أنك تريد في معنى تشبيهه به زيادة، لم تكن في الأول، وهي أن تجعله؛ من فرط شجاعته، وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصر عنه حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي!
ثم يستنتج عبد القاهر من هذا الفرق، الذي أتى به ابن جنى أيضاً، من قولهم:(زيد كعمرو) و (كأن زيداً عمرو)، أنه ليس إلا بما توحي النظم اللفظ وترتيبه - وهو ما سماه ابن جنى إصلاح اللفظ - حيث قدمت الكاف إلى صدر الكلام وركبت مع إن.
ثم يطلب منا بعد استنتاجه هذا، إن نجعله العبرة في الكلام كله، وأن نروض أنفسنا عليه قائلاً: وإذا لم يكن إلى الشك سبيل، أن ذلك كان بالنظم فاجعله العبرة في الكلام كله، ورض نفسك على تفهم ذلك، وتتبيعه" واجعل فيها: أنك تزاول منه أمراً، عظيماً، لا يقادر قدره، وتدخل في بحر عميق لا يدرك قعره (1).
ثم يأتي عبد القاهر بتلك المسألة - أيضاً - في موضع آخر، شاهداً على أنه إذا تغير النظم تغير المعنى، فيقول: فأما إذا تغير النظم، فلابد - حينئذ - من أن يتغير المعنى - على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن، أعني قولك:(إن زيداً كالأسد، وكأن زيداً الأسد) لأنه لم يتغير من اللفظ شيء، وإنما تغير
(1) دلائل الإعجاز 168، 169