الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فصاحة الكلام
1 - الخلو من ضعف التأليف:
مما يشترطه المتأخرون من البلاغيين في فصاحة الكلام، الخلو من ضعف التأليف وقد عنوا به، أن يكون الكلام جارياً على غير المشهور من قواعد النحو، وذلك كالاضمار قبل الذكر، لفظاً ومعنى، نحو ضرب غلامه زيداً (1).
فابن جنى له من هذا الباب شطره، إذ يعد المتأخرون ابن جنى ممن خالف في تلك المسألة التي أسلفناها.
وابن جنى يعرض المسألة في شيء غير قليل من التفصيل، ثم يعرض رأيه فيها مؤيداً رأيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً:
وقد أورد تلك المسألة التي مثل بها البلاغيون لضعف التأليف لجريانها على غير المشهور من آراء النحاة، في باب أسماه "نقض المراتب إذا عرض هناك عارض".
ثم ذكر أن من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو: ضرب غلامه زيداً وسبب هذا الامتناع إنما هو: إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول، وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى، ولهذا فإن عليك إذا أردت تصحيح المسألة، أن تؤخر الفاعل، فتقول: ضرب زيداً غلامه.
وعليه قول الله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه".
وأجمعوا، على أنه لا يجوز لك أن تقول:(ضرب غلامه زيداً) وذلك لتقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى.
(1) الإيضاح 5
وأما قول النابغة:
جزى ربه عني عدى بن حاتم
…
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فقد قالوا فيه: إن الهاء عائدة على مذكور متقدم، وكل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافاً إلى الفاعل، فيكون مقدماً عليه لفظاً ومعنى؛ يقول ابن جنى "وأما أنا فأجيز أن تكون الهاء في قوله:
جزى ربه عنى عدى بن حاتم
…
عائدة على (عدى) خلافاً على الجماعة
وهنا يقدر ابن جنى أن قائلاً قال: ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم، والمفعول رتبته التأخر، فقد وقع كل منهما الموقع الذي هو أولى به، فليس لك أن تعتقد في الفاعل - وقد وقع مقدماً - أن موضعه التأخير، وإنما المأخوذ به في ذلك: أن يعتقد، في الفاعل إذا وقع مؤخراً، أن موضعه التقديم، فإذا وقع مقدماً، فقد أخذ مأخذه، ورست به قدمه، وإذا كان كذلك، فقد وقع المضمر قبل مظهره لفظاً ومعنى، وهذا ما لا يجوزه القياس".
ويجيب ابن جنى بأنه قد شاع عنهم واطرد من مذاهبهم كثرة تقدم المفعول على الفاعل حتى دعا ذاك أبا علي إلى أن قال: إن تقدم المفعول على الفاعل قسم قائم برأسه، كما أن تقدم الفاعل قسم - أيضاً - قائم برأسه" وإن كان تقديم الفاعل أكثر، وقد جاء به الاستعمال مجيئاً واسعاً، نحو قول الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقول ذي الرمة:
أستحدث الركب من أشياعهم خبراً
…
أم عاود القلب من أطرابه طرب
وقول معفر بن حمار البارقي:
أجد الركب بعد غد خفوف
…
وأمست من لبانتك الألوف
وقول الله عز وجل "ألهاكم التكاثر".
إلى أن قال: والأمر في كثرة تقديم المفعول على الفاعل في القرآن، وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر؛ فلما كثر وشاع تقديم المفعول على الفاعل كان الموضع له؛ حتى إنه إذا أخر، فموضعه التقديم، فعلى ذلك كأنه قال:(جزى عدى بن حاتم ربه) ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدماً عليه مفعوله فجاز ذلك.
ثم قال: ولا تستنكر هذا الذي صورته لك، ولا يخف عليك؛ فإنه مما تقبله هذه اللغة، ولا تعافه، ولا تتبشعه (1).
ومما ذكره ابن جنى يتضح لك أن عامة النحويين لا يجيزون عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبه في مثل قولهم (ضرب غلامه زيداً) ولكن قول ابن جنى: "وأما أنا فأجيز" بعد قوله: "وأجمعوا على أنه لا يجوز"، يفيد أنه هو الذي خالف في تلك المسألة من بين النحويين، مع أن من المتأخرين من يذكر الأخفش وابن جنى (2).
كما يفهم من قوله - أيضاً - أن السر في جواز: "ضرب غلامه زيداً" عنده إنما هو كثرة تقديمهم المفعول على الفاعل؛ فصار الموضع له، فكأنه قد قدم وكأنه قد قال:(ضرب زيداً غلامه)؛ وهذا شبيه بباب: "غلبة الفروع على الأصول"؛ الذي عقده لجعل المشبه به مشبهاً، والمشبه مشبهاً به.
وسوف نتعرض له، في التشبيه المقلوب - إن شاء الله تعالى -
(1) الخصائص 1/ 297
(2)
حاشية الدسوقي (شروح التلخيص) 1/ 97
ويفصل ابن يعقوب المغربي مسألة الإضمار قبل الذكر، وبعده بما يلي:
1 -
إذا كان الغلام هو الضارب، وعاد منه الضمير على زيد، فقد ذكر ضمير زيد قبل ذكر لفظ زيد حقيقة وتقديراً؛ إلا أنه في رتبة التأخير، لكونه مفعولاً، وقبل ذكر معناه؛ ومع ذلك فليس في حكم المذكور، فهذا التأليف ضعيف يخل بالفصاحة.
2 -
وأما إن كان الإضمار بعد الذكر، لفظاً؛ حقيقة، كجاءني رجل فأكرمته أو تقديراً؛ كضرب غلامه زيد، على أن زيداً، فاعل، لأنه في تقدير التقديم، أو كان الإضمار، بعد ذكر ما يتضمن معناه، كقوله تعالى:"إعدلوا هو أقرب للتقوى" فإن الضمير عائد إلى العدل المفهوم من "اعدلوا" أو كان المعاد في حكم المذكور؛ وذلك بأن لا يتقدم ما يدل على معناه، ولا يتقدم لفظه صريحاً أو تقديراً، ولكن المعاد مؤخر مع وجود نكتة في الإضمار أو كالإبهام، ثم البيان، ليتمكن في ذهن السامع عند اقتضاء المقام ذلك، كضمير الشأن في نحو:(هو زيد قائم) وضمير رب في قوله:
ربه فتية دعوت إلى ما
…
يورث الحمد دائماً فأجابوا
فلا ضعف في ذلك (1).
(1) مواهب الفتاح (شروح التلخيص) 1/ 98