المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الألفاظ والمعاني عقد ابن جنى في كتابه "الخصائص" باباً للرد على - خصائص النظم في «خصائص العربية» لابن جني

[حسن إسماعيل عبد الرازق]

فهرس الكتاب

- ‌التمهيد:

- ‌(1) أبو الفتح عثمان بن جنى

- ‌لقاؤه بالمتنبي:

- ‌قوله عن المتنبي: شاعرنا:

- ‌تقدير المتنبي لابن جنى:

- ‌نماذج من شعر:

- ‌تاريخ ولادته وتاريخ وفاته:

- ‌تلاميذه:

- ‌كتب ابن جنى:

- ‌(2) الخصائص

- ‌(3) مواطن الإفصاح عن خصائص النظمفي "الخصائص

- ‌1 - إقامة الدليل على صحة القضايا اللغوية:

- ‌2 - إقامة الدليل على صحة القضايا النحوية:

- ‌3 - الدليل على صحة القضايا النقدية:

- ‌4 - إقامة الدليل على صحة التعبير ببعض الجمل من الناحية العقلية:

- ‌5 - الإفصاح عن فلسفة العرب في التعبير:

- ‌6 - الإفصاح عن السرفي تنوع طرقهم في التعبير:

- ‌7 - بيان اختلاف النظم في الجمل، مع جريانها على حسب قوانين النحو:

- ‌8 - الاستشهاد بخصائص النظم على صحة القضايا اللغوية:

- ‌خصائص النظمفي كتاب "الخصائص

- ‌من فصاحة الكلام

- ‌1 - الخلو من ضعف التأليف:

- ‌2 - الخلو من التعقيد اللفظي

- ‌درجات القبح بين الفروق والفصول:

- ‌أمثلة للفصول والتقديم والتأخير:

- ‌إفادة البلاغيين من هذا الباب

- ‌الألفاظ والمعاني

- ‌قوة اللفظ لقوة المعنى

- ‌وقد ألم ابن الأثير بكل ما قاله ابن جنى، ولكنه نبه إلى ما يلي:

- ‌الإيجاز والإطناب

- ‌الإيجاز بالحذف

- ‌أنواع الحذف:

- ‌1 - حذف الجملة:

- ‌القسم الأول: حذف الجملة الإنشائية: وقد أتى منه ما يلي:

- ‌والقسم الثاني: هو: حذف الجملة الخبرية

- ‌2 - حذف المفرد:

- ‌الضرب الأول: حذف الاسم:

- ‌1 - حذف المبتدأ:

- ‌2 - حذف الخبر:

- ‌3 - حذف المضاف:

- ‌4 - حذف المضاف إليه:

- ‌5 - حذف الموصوف:

- ‌6 - حذف الصفة

- ‌7 - حذف المفعول:

- ‌8 - حذف الظرف:

- ‌9 - حذف المعطوف:

- ‌10 - حذف المعطوف عليه:

- ‌11 - حذف المستثنى:

- ‌12 - حذف خبر إن مع النكرة:

- ‌13 - حذف أحد مفعولي ظننت:

- ‌14 - حذف خبر "كان

- ‌15 - حذف المنادى:

- ‌16 - حذف التمييز:

- ‌الضرب الثاني: حذف الفعل:

- ‌الضرب الثالث:حذف الحرف:

- ‌إفادة البلاغيين من موضوع "الحذف

- ‌وأما إيجاز الحذف: فذكر أنه على وجوه، وذكر منها:

- ‌1 - أن يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه

- ‌2 - أن يوقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، ويضمر للآخر فعله

- ‌3 - أن يأتي الكلام على أن له جواباً فيحذف الجواب اختصاراً لعلم المخاطب

- ‌4 - حذف جواب القسم:

- ‌5 - حذف (لا) من الكلام

- ‌6 - ومن الحذف أن تضمر غير مذكور

- ‌7 - حذف (من)

- ‌8 - ومنه: قول الله تعالى: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" وذكر قبل ذلك الإنسان ولم يذكر الجان ثم ذكره

- ‌ثم ذكر من الحذف الردئ:

- ‌ثم يقول: والصفة تأتي في الكلام على ضربين:

- ‌1 - إما للتأكيد والتخصيص

- ‌2 - وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل

- ‌الإطناب بالاعتراض

- ‌أنواع الاعتراض:

- ‌1 - الاعتراض بين الفعل وفاعله

- ‌2 - الاعتراض بين الفعل ومفعوله

- ‌3 - الاعتراض بين المفعول الأول والثاني

- ‌4 - الاعتراض بين المبتدأ والخبر:

- ‌5 - الاعتراض بين اسم إن وخبرها:

- ‌6 - الاعتراض بين القسم وجوابه:

- ‌7 - الاعتراض بين الصفة والموصوف:

- ‌إفادة البلاغيين من هذا الباب:

- ‌التشبيه

- ‌1 - السر في قوة التشبيه بأداته: (كأن):

- ‌إفادة عبد القاهر من تلك المسألة:

- ‌2 - التشبيه البليغ:

- ‌2 - التشبيه المقلوب:

- ‌3 - التجريد:

- ‌ومما يدلك على أن ابن الأثير قد نقل ما نسبه إلى أبي علي الفارسي من كتاب الخصائص ما يلي:

- ‌أولاً: أنه قد نقل قبل ذلك مما أسلفناه لك:

- ‌ثانياً: أنه لم يشر إلى ما قاله ابن جنى، ولم يجر له هنا ذكراً

- ‌ثالثاً: أن العبارات التي نسبها ابن الأثير لأبي علي الفارسي، إنما هي نفس عبارات ابن جنى

- ‌رد ابن الأثير على أبي علي الفارسي:

- ‌الرد على ابن الأثير:

- ‌المعاني المجازية للاستفهام

- ‌1 - التحقيق:

- ‌2 - التقرير:

- ‌3 - الإنكار:

- ‌4 - تجاهل العارف:

- ‌5 - التعجب:

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌موقف البلاغيين من هذا الباب:

- ‌الدلالة اللفظية والصناعية والمعنوية

- ‌الدلالات: هي اللفظية، والصناعية، والمعنوية

- ‌والألفاظ أدلة على إثبات معانيها:

- ‌الحقيقة والمجاز اللغويان

- ‌تعريفهما:

- ‌الفرق بين الحقيقة والمجاز:

- ‌وغير متعارف:

- ‌المجاز المرسل

- ‌إفادة البلاغيين من هذا الباب:

- ‌المجاز العقلي

- ‌إسناد الفعل إلى مصدره:

- ‌المجاز بالحذف والزيادة

- ‌نقد ابن الأثير لكلام ابن جنى:

- ‌الرد على ابن الأثير:

- ‌شيوع المجاز في اللغة العربية:

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌القسم الأول: التطوع بما لا يلزم في الشعر:

- ‌1 - التزام الشاعر بالحرف الذي قبل الروى:

- ‌2 - التزام الشاعر حرفين قبل الروى:

- ‌3 - التزام الشاعر تشديد حرف الروى:

- ‌4 - التزام الشاعر تصغير القوافي:

- ‌5 - التزام الشاعر بلام التعريف في آخر مصراع كل بيت:

- ‌القسم الثاني: التطوع بما لا يلزم في غير الشعر:

- ‌1 - التطوع بما لا يلزم في إجابة السؤال:

- ‌2 - التطوع المشام للتوكيد:

- ‌3 - التطوع بالحال المؤكدة:

- ‌إفادة البلاغيين من هذا الباب:

- ‌مسائل متفرقة

- ‌1 - القصر في تقديم النكرة على الفعل

- ‌إفادة عبد القاهر من تلك المسألة:

- ‌2 - الكناية بلفظ (مثل)

- ‌إفادة البلاغيين من هذه المسألة:

- ‌3 - من صور الالتفات: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:

- ‌إفادة ابن الأثير من هذه المسألة:

- ‌الرد على ابن الأثير:

- ‌4 - التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه:

- ‌5 - حذف المسند لوقوعه جواباً عند سؤال مقدر:

- ‌6 - أثر السجع في النفوس:

- ‌المصدر والمراجع

- ‌(المحتوى)

الفصل: ‌ ‌الألفاظ والمعاني عقد ابن جنى في كتابه "الخصائص" باباً للرد على

‌الألفاظ والمعاني

عقد ابن جنى في كتابه "الخصائص" باباً للرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني؛ ولكنه لم يسم من ادعى هذا الادعاء.

وفي فاتحة هذا الباب يذكر أنه من أشرف فصول العربية وأكرمها، وأعلاها وأنزهها وأنك إذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك، ويذهب بك في الاستحسان له كل مذهب.

وذلك: أن العرب؛ كما تعني بألفاظها؛ فتصلحها، وتهذبها، وتراعيها، وتلاحظ أحكامها؛ بالشعر تارة، وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلتزمها، وتتكلف استمرارها؛ فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدراً في نفوسها.

فعناية العرب بالألفاظ إنما تكون من أجل المعاني، لأن المعاني عندها أكرم وأفخم، وأجل قدراً من الألفاظ، ولما كانت الألفاظ عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها. ومراميها، أصلحوها، ورتبوها وبالغوا في تحبيرها، وتحسينها، ليكون ذلك أوقع في السمع، وأذهب بها في الدلالة على القصد.

والدليل على ذلك: أن المثل إذا كان مسجوعاً، لذ لسامعه؛ فحفظه؛ فإذا هو حفظه كان جديراً باستعماله، ولو لم يكن مسجوعاً ما أنست النفس به، ولا أنفقت للاستماع إليه،

ثم يعود ليؤكد ما قاله من فضل المعاني على الألفاظ؛ فيقول: فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها، فيقول: فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها، وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها، وأرهفوها؛ فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ،

ص: 55

بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها؛ وتشريف منها، ونظير ذلك: إصلاح الوعاء وتحصينه، وتزكيته، وتقديسه، وإنما المبغى بذلك منه الاحتياط للمدعى عليه، وجواره بما يعطر بشره، ولا يعر جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه، ويغض منه كدرة لفظه، وسوء العبارة عنه (1).

ويفهم من كلام ابن جنى ما يلي:

1 -

أن عناية العرب بالألفاظ؛ إنما هي عناية بالمعاني، لأن الألفاظ عنوان للمعاني، وطريق إلى إظهار الأغراض، والمقاصد؛ فهم إنما أصلحوا الألفاظ ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها، وتحسينها، لتكون أوقع في السمع، وأبلغ في الدلالة على القصد.

2 -

مظاهر عناية العرب بالألفاظ إنما تتجلى في الأشعار والخطب، والأسجاع.

3 -

الألفاظ خدم للمعاني، فإذا ما اعتنوا بها، كان ذلك تشريفاً للمعاني وتنويهاً بذكرها.

4 -

الألفاظ أوعية للمعاني، والعناية بالوعاء عناية بالمدعى عليه.

5 -

من المعاني ما يهجنه سوء التعبير عنه.

وابن جنى هنا متأثر بفكرة ابن قيبة المتوفى سنة 276 هـ التي قسم على أساسها الشعر إلى أربعة أضرب:

الأول: ما حسن لفظه، وجاد معناه.

(1) الخصائص لابن جنى 1/ 217

ص: 56

والثاني: ما حسن لفظه وحلا؛ فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.

والثالث: ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه.

والرابع: ما تأخر معناه، وتأخر لفظه (1).

والدليل على هذا: أنك تجده يورد اعتراضاً يتضمن الضرب الثاني من تلك الأضرب التي ذكرها ابن قتيبة في تقسيمه للشعر، بل إنه يورد نفس الأبيات التي اعترض عليها ابن قتيبة؛ فيقول: فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه، وزخرفوه، ووشوه، ودبحوه، ولسنا تجد مع ذلك تحته معنى شريفاً، بل لا نجده قصداً ولا مقارباً؛ ألا ترى إلى قوله (2):

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 70

(2)

بين البيتين بيت آخر هو:

وشدت على دهم المهاري رحالنا

ولم يبصر الغادي الذي هو رائح

وترى الأبيات لكثير عزة، وليزيد بن الطثرية، ولعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى الشعر والشعراء 1/ 70، ديوان كثير 1/ 79، نقد الشعر 10، ونوادر القالي 169، وذيل السمط 77، والوساطة 35، والصناعتين 42، وهر الآداب 2/ 56، المرتضى 2/ 110، 111 من ثمانية لعقبة، ومحاضرات الأدباء (1286) 1/ 56، المرتضى 2/ 110، 111 من ثمانية لعقبة، ومحاضرات الأدباء (1286) 1/ 56 والشطر الأخير من أبيات التلخيص: المطول 367، معاهد التنصيص 241 والدسوقي 2/ 422، أنوار الربيع 75، 437، اللسان 11/ 121 (مادة طرف) شرح شواهد الإيضاح 21

ص: 57

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطى الأباطح

فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه، وصقا له، وتلامح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه، إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل؛ ولهذا نظائر كثيرة، شريفة الألفاظ، رفيعتها، مشروفة المعاني خفيضتها (1).

ويرد ابن جنى على هذا الاعتراض قائلاً: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما أراد القوم منه؛ وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق.

وذلك أن في قوله: (كل حاجة): ما يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو الأهواء والمتعة، ما لا يفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم؛ ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه، والمعتاد فيه سواها؛ لأن منها: التلاقى، ومنها: التشاكي، ومنها: التخلي؛ إلى غير ذلك مما هو قال له، ومعقود الكون به، وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أوماً غليه وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت:

ومسح بالأركان من هو ماسح

أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها، من هذا النحو الذي هو: مسح الأركان، وما هو لاحق به، وجار في القربة من الله مجراه، أي: لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله من التعريض الجاري مجرى التصريح وأما البيت الثاني: فإن فيه:

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

(1) ردد أبو هلال العسكري هذا الكلام في الصناعتين 73

ص: 58

وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، وتعنو له معية الماضي الصليب؛ فقد شاع بينهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين، والفكاهة بجمع شمل الأليفين؛ فإذا كان قدر الحديث - مرسلاً - عندهم هذا، فكيف به إذا قيده بقوله:(بأطراف الحديث)؟

وذل أن في قوله: (بأطراف الأحاديث) وحياً خفياً، ورمزاً حلواً، ألا ترى أنه يرى بأطرافها: ما يتعاطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض، والتلويح، والإيماء، دون التصريح، وذلك أحلى وأدمث. وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً، وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما؛ وإن عذب موقعه، وأنق له مستمعه.

نعم، وفي قوله:

وسالت بأعناق المطى الأباطح

من الفصاحة ما لا خفاء به، والأمر في هذا أسير، وأعرف، وأشهر" (1).

ثم يشفع ابن جنى هذا الرد بدليل آخر على أن "العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبحها وتشيها، وتزخرفها؛ عناية بالمعاني التي وراءها. وتوصلاً إلى إدراك مطالبها، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكماً، وإن من البيان لسحراً"، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم، تلك الألفاظ التي جعلت مصايد وأشراكاً للقلوب، وسبباً

(1) الخصائص 1/ 220

ص: 59

وسلما إلى تحصيل المطلوب، عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني، والمخدوم - ولا شك - أشرف من الخادم" (1).

وقد أفاد الإمام عبد القاهر الجرجاني من رد ابن جنى على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ، وإغفالها المعاني، ويتجلى ذلك فيما يلي:

1 -

في فاتحة كتاب أسرار البلاغة، يبين أن الفضيلة لا ترجع إلى الألفاظ، لأنها لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب، والترتيب، فإذا ما رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً، أو يستجد نثراً، ثم يحمل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وحلو رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي؛ بل أمر يقع من المر في فؤاده. وفضل يقتدحه العقل من زناده (2).

أما استحسان اللفظ من حيث هو لفظ، فإنه لا يكاد يعدو نمطاً واحداً من الكلام، وهو: أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشياً غريباً، أو عامياً سخيفاً.

2 -

أفاد عبد القاهر من عبارة ابن جنى: "إن الألفاظ خدم للمعاني" فذكر أن من أقام الكلام ما يتوهم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة: أن الحسن والقبح فيها لا يتعدى اللفظ والجرس إلى ما يناجي فيه العقل النفس، ومنها: التجنيس، والسجع، فإنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعاً حميداً ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً؛ ولهذا ذم الاستكثار منه، والولوع به لأن المعاني

(1) نفس المصدر.

(2)

أسرار البلاغة 3، 4

ص: 60

لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، لأن الألفاظ خدم المعاني، والمصرفة في حكمها، فكانت هي المالكة سياستها، والمستحقة طاعتها، فمن نصر اللفظ على المعنى، كان كمن أزال الشيء على جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنة الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين (1).

3 -

أفاد عبد القاهر من عبارة ابن جنى "أن الألفاظ أوعية للمعاني" وهو يشرح معنى النظم، مبيناً أن القصد فيه إلى المعنى لا إلى اللفظ، قائلاً:"واعلم أن ما ترى أنه لابد منه، من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص، ليس هو الذي طلبته بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأول (أي المعنى) ضرورة، من حيث أن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها - لا محالة - تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب عليه أن يكون مثله أولاً في النطق"(2).

4 -

أفاد عبد القاهر من رد ابن جنى على ابن قتيبة في إدعائه أن قول الشاعر: (ولما قضينا من منى كل حاجة

الخ) جيداً للفظ فارغ من المعنى غير أنه قد تنبه إلى ما لم يتنبه إليه ابن جنى من الاستعارة اللطيفة في قوله: (وسالت بأعناق المطى الأباطح)، لأن ابن جنى لم يزد على أن قال:"نعم وفي قوله: (وسالت بأعناق المطى الأباطح) من الفصاحة مالا خفاء فيه، والأمر في هذا أسير، وأعرف، وأشهر"(3).

(1) أسرار البلاغة 8

(2)

دلائل الإعجاز 43

(3)

الخصائص 1/ 220

ص: 61

وقد تركز رد ابن جنى في أمرين:

أولهما: أن في قوله: (كل حاجة) تعريضاً، بالتلاقي، والتشاكي، والتخلي، أي طلب الخلوة بالحبيب، وهذا غرض الشاعر وقصده، ولكنه أومأ إليه إيماء، ثم صانع عنه، وغطاه بقوله:(ومسح بالأركان من هو ماسح).

والآخر: أن في قوله (بأطراف الأحاديث) وحيا خفيا، ورمزاً حلواً، لأن المراد بأطراف الأحاديث: ما يتعاطاه المحبون ويتناوله ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض، والتلويح، والإيماء، دون التصريح، لأن ذلك أحلى، وأدمث، وأغزل، وأنسب، من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً.

فغرض الشاعر - كما نرى - كان مركزاً - كما يرى ابن جنى - على التعريض بمتطلبات قلبه من التلاقي، والتشاكي، والخلوة بمن يحب، ثم بما ناله في طريق أوبته من متعة الأخذ بأطراف الأحاديث، من التعريض، والتلويح، والإيماء بما يكون أحلى، وأدمث، وأغزل وأنسب.

غير أن عبد القاهر لم يجعل غرض الشاعر مركزاً على التعريض بمتطلبات قلبه، وإن لم يهمل تلك الناحية العاطفية في شرحه لتلك الأبيات، وذلك حيث يقول (1): "وإذا وجدت ذلك أمراً بيناً، لا يعارضك فيه شك، ولا يملك معه امتراء، فانظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلاسة، ونسبوها إلى الدمائة، وقالوا: كأنها الماء جرياناً والهواء لطفا، والرياض حسناً، وكأنها الرحيق مزاجها

(1) أسرار البلاغة 27

ص: 62

التسنيم، وكأنها الديباح الخسرواني في مرامي الأبصار، ووشى اليمن منشوراً على أذرع التجار، كقوله:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطى الأباطح

ثم راجع فكرتك، واشحذ بصيرتك، وأحسن التأمل، ودع عنك النجوز في الرأي، ثم أنظر: هل تجد لاستحسانهم، وحمدهم، وثنائهم ومدحهم منصرفاً إلا، إلى استعارة، وقعت موقعها، وأصابت غرضا؟ ؛ أو حسن ترتيب، تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن؟ ! وإلا إلا سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد؟ !

وذلك أن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: (ولما قضينا من منى كل حاجة) فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبه بقوله:(ومسح بالأركان من هو ماسح) على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ثم قال:(أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)، فوصل بذكر مسح الأركان ملوليه من ذم الركاب، وركوب الركبان، ثم دل بلفظه الأطراف على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول، وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطرفين، من الإشارة والتلويح، والرمز، والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس. وقوة النشاط، وفضل الأغتباط، كما توجبه

ص: 63

ألفة الأصحاب، وأنسه الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة، ورجأ حسن الإياب، وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني، والتحايا من الخلان والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيراص من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه فصرح أولاً بما أومأ إليه، في الأخذ بأطراف الأحاديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطأة الظهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء، تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكد ما قبله، لأن الظهور إذا كانت وطيئة، وكان سيرها السير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الركبان، ومع ازدياد النشاط، يزداد الحديث طيباً ثم قال:"بأعناق المطى" ولم يقل بالمطى، لأن السرعة والبطء يظهران غالباً في أعناقها" (1).

وهكذا تجد من شرح الإمام عبد القاهر لتلك الأبيات أنه لم يجعل غرض الشاعر مركزاً على التعريض بمتطلبات قلبه - كما جعله ابن جنى-، ففسر حاجات الشاعر في قوله:(ولما قضينا من منى كل حاجة) بأنها: قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها.

بينما فسرها ابن جنى بأنها تعريض بالتلافي، والتشاكي، والتخلي أي: طلب الخلوة بالحبيب.

وأما "أطراف الأحاديث"، فقد فسرها بواحد من أمرين:

أولهما: الدلالة على الصفة التي يختص بها ارفاق، في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث.

(1) أسرار البلاغة 29.

ص: 64

والآخر: ما هو عادة المتطرفين، من الإشارة، والتلويح، والرمز، والإيماء.

ومما يؤيد وجهة نظر ابن جنى من أن غرض الشاعر، إنما هو التعريض بقضاء مآرب قلبه؛ قوله:

ولم يبصر الغادي الذي هو رائح

ثم قوله قلوباً بالأحاديث واشتفت

بذاك صدور، منضجات قرائح

ولم نخش ريب الدهر في كل حالة

ولا راعنا منه سنيح، وبارح

على أن كلا من الإمامين: عبد القاهر، وابن جنى، يقصد بحديثه عن الأبيات السابقة أن العناية بالألفاظ فيها، إنما هي عناية بالمعنى، لأن الألفاظ خدم للمعاني وقد أنبأت الألفاظ - في الأبيات - عن معاني شريفة، وضحها كل من الإمامين.

وقد أوحى ذكر التعريض، والإشارة، والتلويح والرمز، والإيماء، للإمام أبي يعقوب السكاكي المتوفى سنة 636 هـ. أن يقسم الكناية إلى تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء، أو إشارة، فإن كانت عرضية، فالمناسب أن تسمي تعريضاً، وإلا فإن كان بينها وبين المكنى عنه مسافة متباعدة لكثرة الوسائط - كما في كثرة الرماد وأشباهه - فالمناسب أن تسمى تلويحاً، لأن التلويح هو أن تشير إلى غيرك عن بعد، وإلا فإن كان فيها نوع خفاء، فالمناسب أن تسمى رمزاً، لأن الرمز هو أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية، وإلا فالمناسب أن تسمى إيماء، أو إشارة (1)

(1) المفتاح 173 والإيضاح 188

(5 - الخصائص)

ص: 65

وقد نقل ابن الأثير المتوفى سنة 637 هـ كل ما قاله ابن جنى عن البيتين اللذين أسلفنا الحديث عنهما، نقلاً يكاد يكون حرفياً، دون أن يرجعه إلى قائله، بل إنه ليورد الاعتراض الذي أتى به ابن جنى ثم يقول: فالجواب عن ذلك أنا نقول، ثم يورد كل ما قاله ابن جنى تقريبا (1)! !

كما أن ابن منظور المتوفى سنة 711 هـ يقول معلقاً على البيتين: قال ابن سيده: عنى بأطراف الأحاديث: مختارها، وهو: ما يتعاطاه المحبون ويفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض، والتلويح، والإيماء دون التصريح، وذلك أحلى وأخف، وأغزل وأنسب، من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً (2). وذلك نص ما قاله ابن جنى في تفسير؛ لمعنى (أطراف الأحاديث).

(1) المثل السائر 2/ 66

(2)

لسان العرب مادة (طرف)

ص: 66