الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة]
[ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر لوجهين]
[الأول دخول سائر الأعياد والمواسم المبتدعة في مسمى البدع المحدثات]
فصل ومن المنكرات في هذا الباب: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات (1) المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه. وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين:
أحدهما: أن فيها مشابهة الكفار. والثاني: أنها من البدع.
فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر، وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين:
أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات (2) فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعين السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (3) وفي رواية للنسائي (4) «وكل ضلالة في
(1) المنكرات: سقطت من (أط) .
(2)
في (د) : والمحدثات.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، الحديث رقم (867) ، (3 / 592)، وللحديث بقية منها: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) . . إلخ.
(4)
في (أ) : وفي رواية النسائي.
النار» (1) .
وفيما رواه أيضا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) . وفي لفظ في الصحيحين: «من أحدث في أمرنا (هذا) ما ليس منه فهو رد» (3) .
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه (5) من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (6) .
(1) لم أجدها في السنن الصغرى والمطبوعة، فلعلها في السنن الكبرى.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، الحديث رقم (1718) ، (18) من أحاديث الباب (3 / 1343، 1344) .
(3)
صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، الحديث رقم (2697) ، (5 / 301) من فتح الباري، وصحيح مسلم، الحديث بالرقم السابق (1718) ، (17) وجعلت (هذا) بين قوسين لأنها لا توجد في النسخ المخطوطة فأثبتها من رواية الصحيحين المشار إليها هنا، وتوجد في المطبوعة كذلك.
(4)
هو الصحابي الجليل: العرباض بن سارية السلمي، أبو نجيح، من أوائل الصحابة إسلامًا، ومن أهل الفقه، وممن نزل فيهم قوله تعالى:" ولَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ " نزل حمص بعد الفتوح، توفي سنة (75هـ) . انظر: الإصابة (2 / 473) ، (ت5501) .
(5)
أنه: سقطت من (ب ط) .
(6)
سنن أبي داود، كتاب السنّة، باب لزوم السنّة، الحديث رقم (4607) ، (5 / 13) ، وسنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنّة، الحديث رقم (2676)، وقال الترمذي:" هذا حديث حسن صحيح "(5 / 44، 45) ، وسنن ابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنّة الخلفاء الراشدين، الحديث رقم (42) ، (1 / 15، 16) ، ومسند أحمد (4 / 126، 127) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك من أكثر من طريق، قال في أحدها:" هذا حديث صحيح ليس له علة "، وقال في آخر:" هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علة ". المستدرك (1 / 95 ـ97) .
وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا، قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (1) فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله.
نعم: قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده، لكن (2) لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا، وقد قال سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] (3) .
قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله ما عبدوهم قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم» (4) .
فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب؛ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب، ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه لاجتهاده، ومثابا أيضا على
(1) سورة الشورى: من الآية 21.
(2)
في (ب) : ولكن.
(3)
سورة التوبة: الآية 31.
(4)
مرت الإشارة إلى الحديث (ص78) .
الاجتهاد (1) فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائما. ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه، أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له، أو عرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل (2) أو نحو ذلك.
وأيضا، فإن الله عاب على المشركين شيئين:
أحدهما أنهم أشركوا به (3) ما لم ينزل به سلطانا.
والثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله عليهم.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه مسلم، عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله تعالى: إني خلقت (4) عبادي حنفاء فاجتالتهم (5) الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (6) .
قال سبحانه {سَيَقُولُ (7) الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]
(1) في (د) : على اجتهاده.
(2)
في (ب) : أو لشغل.
(3)
في (ب ج د) : بالله.
(4)
في المطبوعة: جعلت.
(5)
في (ب) : فاجتالهم الشيطان، وحرم عليهم ما أحللت لهم، وأمرهم. . الحديث. ومعنى اجتالتهم: أي حولتهم، وحرفتهم عن الحق.
(6)
صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة، الحديث رقم (2865) ، (4 / 2197) ، والحديث طويل، وجاء فيه ما أورده المؤلف، مع اختلاف يسير في الألفاظ، قوله:" وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا. . " الحديث.
(7)
في (أ) : وقال الذين أشركوا. . إلخ. وهذا صدر آية النحل 35. والآية التي ساقها المؤلف آية الأنعام. وهذا خلط من الناسخ.
(1)
فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن (2) المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة، وأن فعلها خير من تركها.
ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبدوا به الله في زعمهم كما أحدثته (3) النصارى من أنواع العبادات المحدثة.
وأصل الضلال في أهل الأرض (4) إنما نشأ من هذين:
إما اتخاذ دين لم يشرعه الله.
أو تحريم ما لم يحرمه الله.
ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى:
عبادات يتخذونها دينا، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة (5) .
وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم (6) .
فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله.
والأصل في العادات: أن لا (7) يحظر منها إلا ما حظره الله.
وهذه المواسم المحدثة إنما نهى (8) عنها لما حدث
(1) سورة الأنعام: من الآية 148.
(2)
في (أ) : قال المشركون.
(3)
في (ط) : أحدثه.
(4)
في أهل الأرض: ساقطة من (ب) .
(5)
والآخرة: سقطت من (أ) .
(6)
وإلى عادات. . إلخ: سقطت من (أ) .
(7)
في (أ) : أن يحظر.
(8)
في (أ) : نهى الله.
فيها (1) من الدين الذي يتقرب به المتقربون (2) كما سنذكره إن شاء الله.
واعلم أن هذه القاعدة، وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة، وقبيحة؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح:" نعمت البدعة هذه "(3) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست بمكروهة، أو هي حسنة؛ للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس.
وربما يضم إلى ذلك مَنْ لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع، إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده (4) بمثابة من إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. وما أكثر (5) ما قد يحتج بعض من يتميز (6) من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها.
والغرض أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على
(1) في (ط) : لما حدث في الدين.
(2)
المتقربون: سقطت من (أط) والمطبوعة.
(3)
أخرجه البخاري في قصة جمع عمر للناس على إمام واحد في صلاة التراويح، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، الحديث رقم (2010) من فتح الباري (4 / 250) .
(4)
في (ب) : يعتاد. وفي (ج) : يعتاده.
(5)
في (ب) : ومن أكثر ما يحتج. وفي (د) : وبأكثر ما قد يحتج.
(6)
كذا في جميع النسخ التي بين يدي (يتميز) .
حسن بعض البدع، إما من الأدلة (1) الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين (2) أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان:
أحدهما: أن يقولوا إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح، بل قد يكون حسنا، فهذا مما قد يقوله بعضهم.
المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة (3) هذه بدعة حسنة؛ لأن (4) فيها من المصلحة كيت وكيت، وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجواب: أما القول إن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل (5) لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
وأما المعارضات، فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه.
وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص، فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك
(1) في (ب) : الدلالة.
(2)
في (أ) : التي يعتمد عليها الجاهلون.
(3)
في المطبوعة: سيئة.
(4)
في (أ) : لا فيها. أي أن نون (لأن) سقطت، وفي (ب) : لكن فيها.
(5)
في (ب) : لا يحل.
العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي، ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم، ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعارض به.
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها، ولم تنكرها (1) فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟
وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في (2) عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى؟ ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله (3) أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين.
(1) في (أ) : ولم تنكر.
(2)
في (ب) : من عصر مالك.
(3)
وهذه هي حال سائر أصحاب الطرق الصوفية التي ابتليت بها أكثر بلاد المسلمين، فإنهم بجهلهم عملوا من العبادات ما لم يأذن به الله، وابتدعوا عوائد وأورادًا وطقوسًا ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى تعمد رفض ما جاء عن الله ورسوله، بدعوى أن شيوخهم يتلقون عن الله مباشرة، أو عن رسول الله بعد موته في المنام، بل واليقظة! ومن هنا زلت أقدامهم عن الحق، والعياذ بالله.
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم: أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم و (1) الدين له فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها (2) ليس مستندا (3) إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل.
وأيضا، فلا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة " على البدعة التي نهى عنها بخصوصها؛ لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح (4) محرم، سواء كان بدعة، أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في (5) الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، وما نهى عنه فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير،
(1) في (أد ج) : أو الدين.
(2)
لها: ساقطة من (ب) .
(3)
في المطبوعة: أسقط قوله: إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وكتب بدلها: آخر من الأدلة الشرعية.
(4)
في المطبوعة: قد أبيح.
(5)
في (أ) : من الدين.
لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله:«كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة، ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة. . وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء:
أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإنما علم أنه منهي عنه بخصوصه، فقد علم حكمه (1) بذلك النهي، وما لم يعلم لا يندرج في هذا الحديث، فلا يبقى في هذا الحديث فائدة! مع كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب به في الجمع، ويعده من جوامع الكلم.
الثاني: أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير، فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى، تعليق له بما لا تأثير له، كسائر الصفات العديمة التأثير.
الثالث: أن الخطاب بمثل هذا، إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر- وهو كونه منهيا عنه- كتمان لما يجب بيانه، وبيان لما لم (2) يقصد ظاهره، فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص، إذ ليس كل بدعة عنها (3) نهي (4) خاص، وليس كل ما فيه (5) نهي خاص بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض، لا يسوغ للمتكلم، إلا أن يكون مدلسا، كما لو قال:(الأسود) ، وعنى به الفرس، أو: الفرس، وعنى به الأسود.
(1) في (ط) : حكمة ذلك النهي.
(2)
لم: سقطت من (ط) .
(3)
في المطبوعة: جاء عنها.
(4)
من هنا حتى قوله: فالتكلم (سطر تقريبًا) : ساقط من (أ) .
(5)
في المطبوعة: جاء فيه.
الرابع: (1) أن قوله «كل بدعة ضلالة» ، وإياكم ومحدثات الأمور، إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص، كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على ما لا يكاد يحيط به أحد، ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة، ومثل هذا لا يجوز بحال.
الخامس: أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص، كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع، فإنك لو (2) تأملت البدع التي نهى (3) عنها بأعيانها، وما لم ينه (4) عنها بأعيانها، وجدت هذا الضرب هو الأكثر، واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة.
فهذه الوجوه وغيرها: توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد، لا يجوز حمل الحديث عليه، سواء أراد المتأول أن (5) يعضد التأويل بدليل صارف، أو لم يعضد، فإن على المتأول (6) بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه، من ذلك الحديث، ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك.
وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث. فهذا الجواب عن مقامهم الأول.
وأما مقامهم الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح، فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع، لكن أكثر ما يقال: إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم، وإلا فالأصل أن كل بدعة
(1) في (ب) : والرابع.
(2)
في (ب) : إذا تأملت.
(3)
نهى: ساقطة من (ط) .
(4)
في (ب د) : التي لم ينه عنها.
(5)
في (أ) : أول. وهو تحريف.
(6)
في (أ) : فإن على التأويل.
ضلالة، فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن، وهو بدعة: إما أنه ليس ببدعة، وإما أنه مخصوص، فقد سلمت دلالة الحديث. وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه، فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة، أو أمور يجوز أن تكون حسنة، ويجوز أن لا تكون حسنة، فلا تصلح المعارضة بها، بل يجاب عنها بالجواب المركب، وهو: إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة، أو يكون مخصوصا، وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم.
وإذا عرفت أن (1) الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين، فعلى التقديرين: الدلالة من الحديث باقية، لا ترد بما ذكروه (2) ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:«كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول (3) أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة: إن هذا العمل المعين مثلا ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود، وهذا الجواب فيه نظر، فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده (5) بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
فأما صلاة التراويح، فليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقول
(1) في (ب) : بأن الجواب.
(2)
في (أ) : بما ذكره.
(3)
في (ب د) : إلى المشاقة أقرب.
(4)
في المطبوعة: من نص رسول الله.
(5)
في (أط) : مقصده.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال:«إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه» (1) ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا (2) وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات (3) وقال:«إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» (4) كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح (5) رواه أهل السنن. وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال (6) الانفراد، وفي قوله هذا ترغيب
(1) أخرجه أحمد في المسند، انظر: الفتح الرباني (9 / 244) ؛ وابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، الحديث رقم (1328) ، (1 / 421) ، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصيام، الباب (235) ، الحديث رقم (2201) ، (3 / 335) ، وفي إسناد هذا الحديث، النضر بن شيبان، ضعيف. انظر: الفتح الرباني (9 / 244)، وقال فيه ابن خزيمة: فهذه اللفظة معناها صحيح من كتاب الله عز وجل، وسنّة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا بهذا الإسناد، فإني خائف أن يكون هذا الإسناد وهمًا، أخاف أن يكون أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئًا، وهذا الخبر لم يروه عن أبي سلمة أحد أعلمه غير النضر بن شيبان (3 / 335) من صحيح ابن خزيمة.
(2)
بل ثلاثًا: سقطت من (ط) .
(3)
من هنا إلى قوله: وكان الناس يصلونها (بعد أربعة أسطر تقريبًا) : سقطت من (ط) .
(4)
انظر: سنن الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، الحديث رقم (806) ، (3 / 169)، وقال الترمذي فيه:" هذا حديث حسن صحيح "، وانظر: سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، الحديث رقم (1327) ، (1 / 4201) ، وصحيح ابن خزيمة، كتاب الصيام، باب (240) ، الحديث رقم (2206) ، (3 / 337، 338)، ولفظه:" إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة " الحديث. وفسروا الفلاح في الحديث بالسحور.
(5)
نفس التعليق السابق.
(6)
حال: سقطت من (أ) .
لقيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعات (1) في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم ويقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم.
وأما قول عمر: " نعمت البدعة هذه "(2) فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا: قول الصاحب (3) ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة، فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم، يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف، على إحدى (4) الروايتين، فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة، أما غيرها فلا.
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك: بدعة، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية، لا تسمية شرعية، وذلك أن (5) البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق.
وأما البدعة الشرعية: فما (6) لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه (7) بعد موته أو دل عليه مطلقا، ولم يعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة، الذي أخرجه أبو بكر
(1) في المطبوعة: جماعة.
(2)
هذه: سقطت من (أ) .
(3)
يعني: الصحابي.
(4)
في (أ) : أحد.
(5)
في (ب) :؛ لأن.
(6)
في (ب) : فكل ما لم. وكذلك في المطبوعة.
(7)
في (أ) : أو إيجاب.
-رضي الله عنه فإذا عمل (1) ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ (2) كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي (3) عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة:" إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين محدث لا يعرف "(4) .
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة: ليس بدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة. وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة» (5) لم يرد به كل (6) عمل مبتدأ، فإن (7) دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد: ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان كذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى؛ وقد قال لهم في الليلة الثالثة،
(1) في المطبوعة: فإذا عمل أحد ذلك العمل.
(2)
في المطبوعة: مبتدع.
(3)
النجاشي: لقب يلقب به ملوك الحبشة، كما يقال لملك الفرس: كسرى، ولملك الروم: قيصر، ونجاشي الحبشة المعني هنا هو: أصحمة بن بحر، وكان ملكًا صالحًا، لبيبًا ذكيًا، وعالمًا عادلا، شهد له الرسول عليه السلام بالإسلام والصلاح، وصلى عليه حين مات، وهو الذي آوى المسلمين في هجرتهم للحبشة وأكرمهم، ودفع عنهم أذى قريش. توفي رحمه الله سنة تسع من الهجرة، وقيل قبل ذلك، انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2 / 29، 30) .
(4)
انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2 / 18) .
(5)
ضلالة: ساقطة من (أط) .
(6)
كل: سقطت من (ب) .
(7)
في (د) : فإنه.
أو الرابعة (1) لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة"(2) فعلّل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.
فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل؛ فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم (3) يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض.
وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير (4) الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وعلى آله
(1) أو الرابعة: سقطت من (أ) .
(2)
أخرجه البخاري مع اختلاف يسير في كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، الحديث رقم (7290) ، (13 / 264) فتح الباري، وفي كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، الحديث رقم (2012) ، (4 / 250، 251) فتح الباري، وفي كتاب الجمعة، باب (29) ، الحديث رقم (924) فتح الباري، وفي مواضع أخرى أيضًا، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، الحديث رقم (761) ، (1 / 524) ، وأخرجه أحمد في المسند (5 / 182) .
(3)
في المطبوعة: وإن لم.
(4)
في (ب) : فيعين.
وسلم، فعمل المسلمون (1) بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة. وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهما من أرض العرب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه فقال:«أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» (2) وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم، وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم، فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود (3)"كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم". وكما جاءوا إلى علي (4) رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا: "كتابك بخطك"(5) فامتنع من ذلك؛ لأن
(1) في (ط) : المسلمين.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه بفظ: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، الحديث رقم (1767) ، (3 / 1388) ، ونحوه الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، الحديث رقم (1607)، (4 / 156) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في كتاب الخراج، باب في إخراج اليهود من جزيرة العرب، الحديث رقم (3030) ، (3 / 424)، وفي لفظ الترمذي وأبي داود:"أترك"، بدل:"أدع". وانظر مسند أحمد (3 / 345)، كما أخرج أحمد أيضًا عن أبي عبيدة بن الجراح قال: إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم قال: (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) المسند (1 / 196) .
(3)
في (أط) : اليهودي.
(4)
في (د) : إلى عثمان.
(5)
أخرج نحو هذا القاسم بن سلام، أبو عبيد، في كتاب الأموال، بسنده عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، وفيه قولهم لعلي:(وكتابك بيدك) ، كتاب الأموال (ص98) .
ذلك الفعل (1) كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان محدثا بعده، ومغيرا لما فعله هو صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه» (2) فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن (3) يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية، كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ترك قبول العطاء من أولي الأمر محدثا، لكن لما أحدثوا هم (4) أُحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي (5) سيفا وقوله له: «قاتل به المشركين، فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره» (6) فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على
(1) في المطبوعة زاد: من عمر.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الخراج والإمارة، باب كراهية الاقتراض في آخر الزمان، الحديث رقم (2958) ، (3 / 363)، ولفظه:(يا أيها الناس خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحفت قريش على الملك وكان عن دين أحدكم فدعوه) ومثله عند الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم (4239) ، (4 / 281)، وقال محققه:(وهو ضعيف) . وفي سنده عند أبي داود مجهول. وأخرجه البخاري في الكبير وذكره السيوطي في الجامع الصغير، وقال: صحيح (1 / 600) ، رقم (3893) .
(3)
في (ط) : لم. وهو تحريف.
(4)
في المطبوعة زاد: ما أحدثوه.
(5)
هو الصحابي الجليل: أهبان بن صيفي الغفاري، من بني حرام بن غفار، وكنيته أبو مسلم، سكن البصرة. انظر: أسد الغابة (1 / 138) .
(6)
جاء ذلك في قصة علي بن أبي طالب مع أهبان، ذكرها أحمد في المسند (5 / 69) ، (6 / 393) ، وذكر ابن حجر في الإصابة (1 / 138) طرفًا من هذه القصة، وأسانيده عند أحمد جيدة، وليس في القصة قوله:(قاتل به المشركين) .
عهد (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هو بأمره صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط، لكن لما قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوا (2) ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (3) وقد علم أن الزكاة من حقها (4) فلم تعصم (5) من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (6) وهذا باب واسع.
والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم (7) يرونه مصلحة إذ لو (8) اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه
(1) في (ب) : على عهده، لكن. . إلخ. أي: إن عبارة (رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطت.
(2)
في (ب ج د) : فإذا قالوها. وفي المطبوعة: فإذا فعلوا ذلك.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب (8) ، الحديث رقم (21) و (34) من كتاب الإيمان (1 / 52)، وجاء فيه:(ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك. .)، بدل:(وأن محمدًا رسول الله) . وأخرجه أحمد في المسند في قصة إعطائه عليًا الراية يوم خيبر، قال علي رضي الله عنه: يا رسول الله علام أقاتل؟ قال: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم ـ فإذا فعلوا ذلك. .) . الحديث. المسند (2 / 384) في مسند أبي هريرة.
(4)
في المطبوعة: من حق لا إله إلا الله.
(5)
في المطبوعة: فلم يعصم مجرد قولها.
(6)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (17) ، الحديث رقم (25) من فتح الباري (1 / 75) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب (8) ، الحديث رقم (22) ، (1 / 53) .
(7)
في (أ) : إلا أنهم.
(8)
في (أ) : إذا اعتقدوه.
عقل ولا دين فما رآه الناس (1) مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث (2) بعد النبي صلى الله عليه وسلم من (3) غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن "كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته.
وأما ما لم يحدث سبب (4) يحوج إليه أو (5) كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا، لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة.
ثم هنا للفقهاء طريقان: أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.
والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لم (6) يؤمر به: وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان:
منهم من لا يثبت الحكم، إن لم يدخل في لفظ (7) كلام الشارع، أو فعله، أو إقراره، وهم نفاة القياس.
(1) في المطبوعة: المسلمون.
(2)
في (ب د) : أحدث.
(3)
في المطبوعة: لكن تركه النبي عليه السلام من غير تفريط منا.
(4)
في (د) : بسبب.
(5)
في (أ) : لو.
(6)
في المطبوعة: ما لم.
(7)
في المطبوعة: تحت دليل من كلام الشارع.
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون (1) .
فأما ما (2) كان المقتضي لفعله موجودا لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل (3) فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير واحد من الصحابة:«إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون» (4) .
فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41](5) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33](6)
(1) في (أب ط) : القياسون. والقياسيون هم: القائلون بالقياس في الاستدلال واستنباط الأحكام من الأئمة والفقهاء، ويعرِّف الأصوليون القياس بأنه: رد فرع إلى أصله بعلة جامعة. وذلك كرد النبيذ إلى الخمر بعلة الإسكار. انظر: شرح الكوكب المنير للفتوحي (ص272) .
(2)
في (ط) : فأما إن كان.
(3)
كذا في النسخ المخطوطة، وفي المطبوعة: وإنما أدخله فيه من نسب. . إلخ.
(4)
ذكر الحاكم في المستدرك نحو هذا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. المستدرك (4 / 420) ، وذكره نحوه البغوي في شرح السنّة (1 / 317) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعًا:(إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم)، ثم قال:(يزيد ضعيف ولم يترك)(2 / 52) وللحديث شواهد صحيحة.
(5)
سورة الأحزاب: من الآية 41.
(6)
سورة فصلت: من الآية 33. وفي (أ) : أكمل الآية.
أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على (1) حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيا، وزوال المانع، سنة، كما أن فعله سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن ينصب مكانًا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة.
ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيرا. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد (2) كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل (3) عموم وكل قياس.
ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، فإنه لما فعله بعض الأمراء (4) أنكره المسلمون لأنه
(1) في (أ) : عن.
(2)
في (ب د) : فقد.
(3)
كل: سقطت من (ط) .
(4)
الذي فعل ذلك هو: مروان بن الحكم، كما جاء في صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، الحديث رقم (956) ، (2 / 448، 449) من فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب العيدين، الحديث رقم (889) ، (2 / 605) .
بدعة، واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضون حتى يسمعوا، أو أكثرهم.
فيقال له: سبب هذا تفريطك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم، وأنت قصدك إقامة رياستك، أو إن قصدت صلاح دينهم، فلا (1) تعلمهم ما ينفعهم، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى، بل الطريق في (2) ذلك أن تتوب إلى الله، وتتبع سنة نبيه، وقد استقام الأمر، وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك، لا عن عملهم.
وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة، فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» (3) وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم، وبينت أن الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل (4) للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث.
وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله -لما احتاجوا إلى
(1) في المطبوعة: فلست. ومعناه: أنك بفعلك هذا لا تعلمهم ما ينفعهم؛ لأن ما علمتهم ـ وهو: تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين ـ معصية، لأنها بدعة خالفت بها السنّة، كما أن تفريطك ابتداءً معصية.
(2)
في (ب) : في هذا.
(3)
الحديث مرّ تخريجه. انظر: فهرس الأحاديث.
(4)
فضل: سقطت من (أ) .
المكوس (1) الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم.
وكذلك العلماء: إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله، وما فيه من الهدى، الذي هو العلم النافع والعمل الصالح، وأقاموا حكمة الله التي بعث (2) بها رسوله صلى الله عليه وسلم -وهي سنته- لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس، ولميزوا (3) حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق، بوصف الشهادة التي (4) جعلها الله لهذه الأمة، حيث يقول عز وجل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143](5) ولاستغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون، من الحجج الفاسدة، التي يزعم الكلاميون (6) أنهم ينصرون بها أصل الدين، ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون (7) أنهم يتمون (8) به فروع (9) الدين، وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا، فذلك له أصل في كتاب الله
(1) المكوس: هي الضرائب. خاصة تلك التي تأخذها الدول على البضائع الواردة من خارجها، وهي أموال مسلمين، وتسمى اليوم (الجمارك) .
(2)
في (أ) : بعث الله بها.
(3)
في (ب) : ليميزوا.
(4)
في (أب ط) : الذي جعله الله.
(5)
سورة البقرة: من الآية 143.
(6)
الكلاميون: هم أهل الكلام والفلسفة الذين يخوضون في العقيدة وأمور الغيب وأسماء الله وصفاته بكلام يخترعونه من عندهم لم ينزله الله ولم يؤثر عن أنبيائه، كالجهمية والمعتزلة وبعض الأشاعرة والفلاسفة وأكثر الصوفية.
(7)
في (أط) : القياسون: وقد عرفتهم من قبل. ولعل المؤلف هنا ذم أولئك الذين يتوسعون بالأخذ بالقياس ويستهينون بالنصوص من الفقهاء ونحوهم.
(8)
في (ب) : متمون.
(9)
في (ط) : فروج.