الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرسلات، وفوق الجبل مسجد يقال له (مسجد الكبش) ونحو ذلك. لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك.
وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به؛ فالأمر فيه أظهر إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام: أن هذا ليس من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي (1) شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعاء وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرا له؛ بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد (2) غيره هناك تحريا لفضله، فبدعة غير مشروعة.
[المساجد التي تشد إليها الرحال]
وأصل هذا: أن المساجد التي تشد إليها الرحال، هي المساجد الثلاثة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (3) وقد روي هذا من وجوه أخرى، وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم، فتُلُقِّي بالقبول عنه.
(1) الذي: سقطت من (د) .
(2)
مسجد: سقطت من (ج د) .
(3)
مر تخريج الحديث، انظر: فهرس الأحاديث.
فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف، من الأعمال الصالحة. وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه، فإن في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد (1) قباء كل سبت ماشيا وراكبا» (2) وكان ابن عمر يفعله. وفي لفظ لمسلم: «فيصلي فيه ركعتين» (3) وذكره البخاري بغير إسناد (4) .
وذلك أن الله تعالى نهاه عن القيام في مسجد الضرار فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ - أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 107 - 110](5) .
(1) في (ب) : يأتي قباء.
(2)
صحيح البخاري، كتاب فصل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب من أتي مسجد قباء كل سبت، الحديث رقم (1193) ، (3 / 69) من فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء، الحديث رقم (1399) ، (2 / 1016، 1017) .
(3)
صحيح مسلم، الباب والكتاب والحديث السابقين (2 / 1016) .
(4)
انظر: فتح الباري (3 / 69) ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب (4) ، تابع الحديث رقم (1194) .
(5)
سورة التوبة: الآيات 107 -110.
وكان مسجد الضرار قد بني لأبي عامر الفاسق، الذي كان يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان المشركون يعظمونه، فلما جاء الإسلام حصل له من الحسد ما أوجب مخالفته للنبي صلى الله عليه وسلم (1) فقام طائفة من المنافقين يبنون هذا المسجد، وقصدوا أن يبنوه لأبي عامر هذا، والقصة مشهورة في ذلك (2) فلم يبنوه لأجل فعل ما أمر الله به ورسوله، بل لغير ذلك.
فدخل في معنى ذلك: من بنى أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة، من المشاهد وغيرها، لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله، ما يقوى بها شبهها، كمسجد (3) الضرار، فلما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وكان مسجد قباء أسس على التقوى، ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء، كما ثبت في الصحيح عنه: أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «مسجدي هذا» (4) فكلا المسجدين أسس على التقوى، ولكن اختص (5) مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي مسجد قباء (6) يوم السبت.
(1) في المطبوعة زاد: وفراره إلى الكافرين.
(2)
انظر: البداية والنهاية (5 / 21) ؛ وتفسير ابن جرير (11 / 17 - 20) .
(3)
في (د) : لمسجد.
(4)
انظر: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي، الحديث رقم (1398) ، (2 / 1015) .
(5)
في (ج د) : مسجده اختص.
(6)
من هنا حتى قوله: كعمرة (سطرا تقريبا) : سقط من (ج د) .
وفي السنن عن أسيد بن ظهير (1) الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الصلاة في مسجد قباء كعمرة» رواه ابن ماجه، والترمذي وقال:" حديث حسن غريب "(2) .
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (4) . قال بعض العلماء: قوله: " من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء " تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر (5) فيه، ثم يأتيه فيقصده (6) كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها.
(1) في المطبوعة: أسيد بن حضير. وهو خطأ، فهو كما أثبته في النسخ المخطوطة والترمذي وأحمد وابن ماجه وغيرهم، وهو: أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري، صحابي، أخو عباد بن بشر لأمه، توفي في خلافة مروان. انظر: تهذيب التهذيب (1 / 349) ، (ت635) .
(2)
سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، الحديث رقم (324) ، (2 / 145، 146)، وقال أبو عيسى الترمذي:"حديث أسيد حديث حسن غريب، ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من حديث أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر"، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 487)، وقال:"صحيح الإسناد" وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة في مسجد قباء، الحديث رقم (1411) ، (1 / 452) .
(3)
هو: سهل بن جعفر بن واهب الأنصاري الأوسي، صحابي جليل، من أهل بدر استخلفه علي على البصرة، ومات في خلافته. انظر: تقريب التقريب (1 / 336) .
(4)
مسند أحمد (3 / 487) ، وسنن ابن ماجه أيضا، الكتاب والباب السابقين، الحديث رقم (1412) ، الجزء 1، وسن النسائي (2 / 37) في فضل مسجد قباء والصلاة فيه وإسناده صحيح.
(5)
في (ط) : يطهر.
(6)
في (أ) : يقصد.
وأما المساجد الثلاثة: فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها، ولكن لو نذر ذلك، هل يجب بالنذر؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما (1) أنه لا يجب بالنذر إلا إتيان المسجد الحرام خاصة، وهذا أحد قولي الشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة، وبناه على أصله في أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك (2) وأحمد وغيرهما (3) أنه يجب إتيان المساجد الثلاثة بالنذر، لكن إن أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول، فإذا نذر إتيان مسجد المدينة، ومسجد إيلياء؛ أغناه إتيان المسجد الحرام. وإن نذر إتيان مسجد إيلياء؛ أغناه إتيان أحد مسجدي الحرمين.
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (4) وهذا يعم كل طاعة، سواء كان جنسها واجبا، أو لم يكن (5) وإتيان الأفضل إجراء (6) للحديث الوارد في ذلك.
وليس هذا موضع تفصيل هذه المسائل، بل المقصود: أنه لا يشرع السفر (7) إلى مسجد غير الثلاثة، ولو نذر ذلك؛ لم يجب عليه (8) فعله بالنذر باتفاق الأئمة.
(1) في (ب) : أحدها.
(2)
مالك: سقطت من (أط) .
(3)
في (أط) : وغيره.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب فيما لا يملك وفي معصية، الحديث رقم (6700) ، (11 / 585) فتح الباري.
(5)
من هنا حتى قوله: وليس هذا موضوع (سطر تقريبا) : سقط من (ج د) .
(6)
في (أب) : آخر.
(7)
السفر: سقطت من (ط) .
(8)
عليه: سقطت من (د) .
وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين مشهورين.
وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد (1) ولم يخصها النبي صلى الله عليه وسلم بإتيان، ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن، إلا قباء خاصة.
وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثا: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه» . قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم غليظ، إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها، فأعرف الإجابة " (2) وفي إسناد هذا الحديث: كثير بن زيد (3) وفيه كلام، يوثقه ابن معين تارة، ويضعفه أخرى.
وهذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا، كما نقل عن جابر. ولم ينقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان، بل تحرى الزمان، فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها النبي (4) صلى الله عليه وسلم وبنيت بإذنه، ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصه من غير سفر إليه، إلا مسجد قباء؛ فكيف بما سواها؟
(1) في المطبوعة زاد: العامة.
(2)
مسند أحمد (3 / 332) وقد تكلم المؤلف عن إسناده.
(3)
في (ج د) : بن يزيد. والصحيح: بن زيد، وهو: كثير بن زيد الأسلمي، ثم السهمي - مولاهم - أبو محمد المدني، يقال له: ابن صافنة، وهي أمه، صدوق فيه لين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي، وضعفه النسائي، توفي سنة (158 هـ) .
انظر: تهذيب التهذيب (8 / 413، 415) ، (ت 743) .
(4)
في (ط) : رسول الله.