الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم]
والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكًا من أعلم الناس بمثل هذه الأمور، فإنه مقيم بالمدينة، يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم، ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء، ويذكر أنه لم يفعله السلف. وقد أجدب الناس على عهد عمر (1) رضي الله عنه، فاستسقى بالعباس.
ففي صحيح البخاري، عن أنس: " أن عمر استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقِنا، فيُسقون (2) .
فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به.
ولهذا (3) قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكون من أهل (4) بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي (5) وقال اللهم إنا (6) نستسقي بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع (7)
(1) في (أط) : ابن الخطاب.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، الحديث رقم (1010) ، (2 / 394) من فتح الباري.
(3)
ولهذا: سقطت من (د) .
(4)
في (ط) : من أهل بيت رسول الله.
(5)
هو: يزيد بن الأسود الجرشي أبو الأسود، ذكره بعضهم من الصحابة، ولا يثبت ذلك، وهو في عداد الشاميين، من العباد، وكان أدرك الجاهلية والإسلام.
انظر: الإصابة (3 / 673) ، (ت9393) .
(6)
إنا: سقطت من (أط) .
(7)
في (ط) : (زوج. . فزوج) وهو تحريف.
يدك فرفع (1) يديه ودعا، ودعا الناس حتى أمطروا (2) .
ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره يستسقي (3) عنده ولا به، والعلماء استحبوا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (4) هذا مع ما في النسائي وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله وكّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام» (5) .
وفي سنن أبي داود وغيره عنه، أنه قال «أكثروا من الصلاة علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي "، فقالوا يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -أي بليت -فقال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» (6) . فالصلاة عليه -بأبي هو وأمي- والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله، وقد ثبت في الصحيح (7) أنه قال «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها (8) عشرا» (9) .
(1) في (ط) : (زوج. . فزوج) وهو تحريف.
(2)
في المطبوعة زاد: وذهب الناس.
ذكر ابن حجر هذه القصة في الإصابة (3 / 673) : " وأخرجه أبو زرعة ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما بسند صحيح".
(3)
في (أط ب) : فيستسقي.
(4)
الحديث مر. انظر: فهرس الأحاديث.
(5)
الحديث مر. انظر: فهرس الأحاديث.
(6)
الحديث مر. انظر: فهرس الأحاديث.
(7)
في (ب) : عنه أنه.
(8)
بها: ساقطة من (أط د) .
(9)
الحديث مرّ. انظر: فهرس الأحاديث.
والمشروع لنا عند زيارة قبور (1) الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين، هو من جنس المشروع عند جنائزهم.
فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له؛ (2) فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له (3) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح والسنن والمسند (4) " أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول قائلهم:«السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. ويرحم الله المستقدمين منا (5) ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» (6) .
فهذا دعاء خاص للميت، كما في دعاء الصلاة على الجنازة الدعاء العام والخاص (7) «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك (8) تعلم متقلبنا
(1) قبور: ساقطة من (أ) .
(2)
ما بين الرقمين: ساقطة من (د) .
(3)
ما بين الرقمين: ساقطة من (د) .
(4)
والمسند: ساقطة من (ط) .
(5)
منا: ساقطة من (ط) .
(6)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث رقم (974، 975) . وسنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، حديث رقم (1053) ، (3 / 369) . وسنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب مما يقول إذا زار القبور أو مر بها، حديث رقم (3237) ، (3 / 558، 559) . وسنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الحوض، حديث رقم (4306) ، (2 / 1439) . ومسند أحمد (2 / 300، 375، 408) ، (6 / 71، 76، 111، 180، 221) . وسنن النسائي (4 / 93، 94) .
(7)
في (ط) زاد: في أول الدعاء: " اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. . " إلخ الدعاء، وهو خلط من الناسخ.
(8)
قوله: إنك تعلم متقلبنا ومثوانا: ساقطة من (أط) .
ومثوانا» (1) أي (2) ثم يخص الميت بالدعاء.
قال الله تعالى في حق المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84](3) الآية.
فلما نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم - لأجل كفرهم - دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلى عليه ويقام على قبره. ولهذا في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره، ثم يقول: " سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (4) .
فأما أن (5) يقصد بالزيارة: سؤال الميت، أو الإقسام به على الله، أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك بعد ذلك. بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت، حديث رقم (1024) ، (3 / 343، 344)، وليس فيه قوله:" إنك تعلم متقلبنا ومثوانا "، وقال الترمذي في هذا الحديث:" حديث ولد إبراهيم حديث حسن صحيح "(3 / 344) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، حديث رقم (3201) ، (3 / 539) ، وفيه زيادة، وابن ماجه في كتاب الجنائز، الباب (23) ، الحديث (1498)، (1 / 480) . وأحمد في المسند. انظر: الفتح الرباني (7 / 235، 236) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 358)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وذكر له شاهدا صحيحا على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في التلخيص (1 / 358) .
(2)
في (أط) : لم يخص.
(3)
سورة التوبة: الآية 84.
(4)
الحديث مر. انظر: فهرس الاحاديث، وطرفه "استغفروا لأخيكم. . ".
(5)
في (ج د) : قصد.
وقال القاضي عياض: (كره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عن بعضهم أنه علله بلعنه صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، قال (1) وهذا يرده قوله (2)«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (3) . وعن بعضهم أن (4) الزائر أفضل من المزور، قال: وهذا مردود بما جاء من زيارة أهل الجنة لربهم (5) .
قال: والأولى أن يقال في ذلك: إنه إنما كرهه مالك لإضافة الزيارة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه، لقوله «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (6) فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بأولئك؛ قطعًا للذريعة وحسمًا للباب (7) كتاب (الشفا) للقاضي عياض (2 / 82، 83) ، وقد ذكره المؤلف مختصرا. .
قلت (8) غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ: (زرنا) في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على (9) استعمال لفظ زيارة القبور في (10) الزيارة
(1) أي: القاضي عياض.
(2)
في المطبوعة: كنت.
(3)
الحديث مر. انظر: فهرس الاحاديث.
(4)
في المطبوعة زاد: أن ذلك لما قيل. وهو يوافق عبارة القاضي قي كتاب (الشفا)(2 / 83) .
(5)
في المطبوعة زاد أيضا: ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة، وقد ورد في حديث زيارة أهل الجنة. . إلخ. وهو من كلام القاضي في (الشفا)(2 / 83) .
(6)
الحديث مرّ. انظر: فهرس الأحاديث.
(7)
في (ب ج د) : للمادة.
(8)
في (ب) زاد: وقد.
(9)
على: ساقطة من (أب) .
في (ط) : (انتهى إلى لفظ)، بدل:(على استعمال لفظ) .
(10)
في (أ) : أي لفظ.
البدعية الشركية لا في الزيارة الشرعية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئًا، لا أهل الصحيح ولا السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند (1) كالإمام أحمد وغيره.
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأَجَلُّ حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني، وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره، كقوله:«من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» (2) و «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» (3) و «من حج ولم يزرني فقد جفاني» (4) ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقا، بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (5) وفي الصحيح عنه أنه قال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» (6) فهذه زيارة لأجل (7) تذكرة الآخرة، ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك.
(1) في (ب) : في السنة.
(2)
قال النووي في المجموع شرح المهذب في هذا: " وهذا باطل ليس هو مرويا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة"(8 / 481) .
(3)
أثبت الأئمة أن هذين لا يصحان أيضا. فانظر: الفوائد المجموعة للشوكاني (ص117، 118) ؛ والمقاصد الحسنة (ص427 - 428) ؛ وكشف الخفا (2 / 346، 347، 348) .
(4)
نفس المصدر السابق.
(5)
الحديث مرّ. انظر: فهرس الأحاديث، وطرفه:" إني كنت نهيتكم".
(6)
الحديث مر. انظر: فهرس الأحاديث.
(7)
في (أ) : لأجل أن تذكر.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين.
وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا، قالت عائشة:" ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا "(1) .
وفي الصحيح أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال:«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح (2) بنوا على قبره مسجدا، وصوّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وهذه في الصحيح (3) .
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (4) .
وفي السنن عنه أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» (5) وفي الموطأ وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (6) .
(1) الحديث مرّ. انظر: فهرس الأحاديث.
(2)
في هامش (ب) : أو العبد الصالح.
(3)
الحديث مرّ. انظر: فهرس الأحاديث.
(4)
انظر الحديث في فهرس الأحاديث.
(5)
الحديث مرّ بمعناه بألفاظ مختلفة، في (1 / 337 -339) ، و (ص 170) من هذا الجزء.
(6)
انظر الحديث في فهرس الأحاديث.
وفي المسند، وصحيح أبي حاتم، عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» (1) .
ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي - وكذلك عن أصحابه.
فهذا الذي ينهى (2) عنه: من اتخاذ القبور مساجد، مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى، والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني (3) . والزيارة المبتدعة من جنس الأول (4) فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دل عليه النص.
واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور، بل (5) اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور، أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم، وقد (6)
(1) مسند أحمد (1 / 405، 435، 454) في مسند عبد الله بن مسعود.
(2)
في (أط) : نهى.
(3)
في (ب ج د) : من جنس الصلاة على الجنازة، وهي تفسر معنى قوله:(الثاني) وهو: السلام على الموتى والدعاء لهم.
(4)
أي: اتخاذ القبور مساجد.
(5)
في (أ) : بل قد.
(6)
في (ج د) : فقد.
صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل (1) وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع.
والمقصود هنا: أن هذا ليس بواجب ولا مستحب، باتفاقهم، بل هو (2) مكروه باتفاقهم. والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة الصلاة في المقبرة علتين:
إحداهما: نجاسة التراب باختلاطه بصديد الموتى، وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة، وهذه العلة في صحتها نزاع، لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور، وهي من مسائل الاستحالة (3) وأكثر علماء المسلمين يقولون إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر (4) وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد.
وقد ثبت في الصحيح: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان حائطًا لبني النجار، وكان (5) قبورًا من قبور المشركين، ونخلا وخربًا (6) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطعت، وبالخرب فسويت، وبالقبور فنبشت (7) وجعل النخل في صف القبلة (8) .
(1) في (أ) : بل بإبطال.
(2)
بل هو مكروه باتفاقهم: ساقطة من (ج د) .
(3)
الاستحالة هي: تحول الشيء من حقيقة إلى حقيقة أخرى، ومن مادة إلى مادة أخرى كتحول الأجساد إلى تراب.
(4)
هم: الذين يأخذون بظاهر النصوص في الاستدلال، ولا يقولون بالقياس.
(5)
في المطبوعة: وكان فيه من قبور المشركين ونخل وخرب.
(6)
في (أب ط) : ونخل وخرب.
(7)
في (أ) : فنشرت.
(8)
انظر صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب (48) ، حديث رقم (427) ، (1 / 523) من فتح الباري. وصحيح مسلم، كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي، حديث رقم (524) ، (1 / 373) .
فلو كان (1) تراب قبور المشركين نجسا (2) ؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل ذلك التراب، فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره، والعلة الثانية ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور؛ لما يفضي إليه ذلك من الشرك وهذه العلة صحيحة باتفاقهم.
والمعللون بالأولى، كالشافعي وغيره، عللوا بهذه أيضًا، وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة، وكذلك الأئمة: من أصحاب أحمد ومالك، كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد، وغيره وعللوا بهذه الثانية أيضًا، وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى.
وقد قال تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23](3) ذكر ابن عباس وغيره من السلف: " أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " قد ذكر هذا البخاري في صحيحه (4) وأهل التفسير: كابن جرير وغيره (5) وأصحاب قصص الأنبياء كوثيمة (6) وغيره.
ويبين صحة هذه العلة أنه صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم
(1) زاد في المطبوعة: تراب القبور نجس لكان.
(2)
في المطبوعة زاد: لكان تراب قبور المشركين نجسا. وغير في العبارة الأولى.
(3)
سورة نوح: الآية 23.
(4)
انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة نوح، باب (1) ، الأثر رقم (4920)(8 / 667) من فتح الباري.
(5)
تفسير ابن جرير (29 / 62) .
(6)
هو: أبو يزيد، وثيمة بن موسى بن الفرات الوشاء الفارسي الفسوي، كان يتجر بالوشي، رحل إلى البصرة ومصر والأندلس، ثم إلى مصر، وتوفي بها سنة (237هـ)، وله كتاب في أخبار الردة. انظر: وفيات الأعيان (6 / 12، 13) ، (ت 769)، وفي المخطوطة (ط) قال: وشيمة وهو خطأ كما تبين كتب التراجم.
أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها نجسا، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد» (1) . وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا» (2) فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ، فسد الذريعة، وحسم المادة، بأن لا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله (3) . وكذلك نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله (4) ؛ لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها (5) .
وكلا الأمرين قد وقع، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع (6) الأدعية والتسبيحات (7) ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها، ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه.
وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين؛ حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه:" السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم "(8) على مذهب المشركين من الهند والصابئة، والمشركين من العرب وغيرهم، مثل طمطم (9)
(1) انظر فهرس الأحاديث.
(2)
انظر فهرس الأحاديث.
(3)
ولا يدعوإلا الله: ساقطة من (ج د ط) .
(4)
ولا يدعو إلا الله: سقطت من المطبوعة.
(5)
في المطبوعة: إلى دعاء المقبورين والصلاة لهم.
(6)
في (ط) : من الأدعية.
(7)
في المطبوعات: والتعزيمات.
(8)
صنف هذا الكتاب: الفخر الرازي. انظر: (الأعلام) للزركلي (6 / 312) . وانظر: تعليق محمد حامد الفقي على المطبوعة (ص405) .
(9)
لم أجد له ترجمة.
الهندي، وملكوشا (1) البابلي (2) وابن وحشية (3) وأبي معشر البلخي (4) وثابت بن قرة (5) وأمثالهم ممن دخل في هذا (6) الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى أهل (7) الكتاب. كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51 - 52] (8) وقد قال غير واحد من السلف: " الجبت: السحر، والطاغوت: الأوثان "، وبعضهم قال:"الشيطان" وكلاهما حق (9) .
هؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر (10) والشرك الذي هو عبادة
(1) في (أط) : مكلوشا.
(2)
لم أجد له ذكرا.
(3)
هو: أحمد بن علي بن المختار بن عبد الكريم بن جرثيا، الكلداني، الصوفي، دجال يدعي السحر والطلاسم. انظر:(الفهرست) لابن النديم (433) ؛ (والأعلام) للزركلي (1 / 170، 171) .
(4)
هو: جعفر بن محمد البلخي، من مشاهير علماء الفلك والنجوم، وله فيها مؤلفات كثيرة، توفي سنة (247) ، وكانت ولادته (206هـ) .
انظر: (الفهرست) لابن النديم (ص386) ؛ و (الأعلام) للزركلي (2 / 127) .
(5)
هو: ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن كرايا، ولد سنة (221 هـ) ، وكان صيرفيا بحارا، واشتغل بالهندسة والطب وعلم الفلك والنجوم والفلسفة، وقربه المعتضد، وهو صابئ مشرك، توفي سنة (288هـ) .
انظر: (الفهرست) لابن النديم (ص 380) ؛ و (الأعلام) للزركلي (2 / 98) .
(6)
هذا: سقطت من (د) .
(7)
أهل: سقطت من (أج د ط)، وفي المطبوعة: أهل الإسلام.
(8)
سورة النساء: الآيتان 51، 52.
(9)
انظر: تفسير ابن جرير (5 / 83، 84) .
(10)
في (ط) : وبين الشرك.
الطاغوت، كما يجمعون بين السحر ودعوة الكواكب، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام - بل ودين جميع الرسل - أنه شرك محرم، بل هذا من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه، ومخاطبة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه كانت في نحو هذا الشرك.
وكذلك قوله تعالى {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ - فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 75 - 83](1) . فإن إبراهيم عليه السلام سلك هذه السبيل لأن قومه كانوا يتخذون الكواكب أربابا، يدعونها ويسألونها، ولم يكونوا هم ولا أحد من العقلاء يعتقد (2) أن كوكبا من الكواكب خلق السماوات والأرض، وإنما كانوا يدعونها من دون الله على مذهب
(1) سورة الأنعام: الآيات 75- 83. وفي المطبوعة: لم يسرد الآيات إنما ذكر أول الآية 75 من سورة الأنعام، ثم قال: إلى قوله: " إن ربك عليم حكيم"، وقد أخطأ في لفظ الآية، والصحيح "حكيم عليم" سورة الأنعام: الآية 83.
(2)
في (ج د) : يعتقدون.
هؤلاء المشركين، ولهذا قال الخليل عليه السلام {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] (1) وقال الخليل (2){إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27](3) .
والخليل صلوات الله عليه، أنكر شركهم بالكواكب (4) العلوية، وشركهم (5) بالأوثان، التي هي تماثيل وطلاسم لتلك (6) أو هي أمثال (7) لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وكسر (8) الأصنام، كما قال تعالى عنه:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58](9) .
والمقصود هنا: أن الشرك (10) وقع كثيرا، وكذلك الشرك بأهل القبور بمثل (11) دعائهم، والتضرع إليهم، والرغبة إليهم، ونحو ذلك.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن الصلاة التي تتضمن (12) الدعاء لله وحده خالصا عند القبور؛ لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع (13) الشرك من الرغبة إليهم، سواء طلب منهم قضاء الحاجات، وتفريج
(1) سورة الشعراء: الآيات 75- 77.
(2)
الخليل: سقطت من (ب) .
(3)
سورة الزخرف: الآيتان 26، 27.
(4)
في المطبوعة: بعبادة الكواكب.
(5)
في المطبوعة: بعبادة الأوثان.
(6)
في المطبوعة: لتلك الكواكب.
(7)
في المطبوعة: تماثيل.
(8)
في (أط) : وذكر الأصنام.
(9)
سورة الأنبياء: الآية 58.
(10)
في المطبوعة: أن الشرك بعبادة الكواكب.
(11)
في المطبوعة: المقبورين من دعائهم.
(12)
(أط) : تضمن.
(13)
في (أ) : نوع من الشرك.
الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله تعالى؟ بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم؛ لنهي عن ذلك ولو لم يكن عند قبره (1) كما لا يقسم بمخلوق مطلقا، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد (2) باتفاق الأئمة.
وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين: أصحهما: أنه نهي تحريم (3) .
ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد (4) وبعض أصحابه، كابن عقيل طرد الخلاف (5) في الحلف بسائر الأنبياء، لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم: أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق البته، ولا يقسم بمخلوق البته، وهذا هو الصواب (6) .
والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مبني على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في (منسك المروزي) ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به. فكذلك هذا (7) .
وأما غيره: فما علمت بين الأئمة (8) فيه نزاعا بل قد صرح العلماء بالنهي
(1) في (ب) زاد: يعني الإقسام به.
(2)
في (أط) : معتقد.
(3)
انظر: المغني والشرح الكبير (11 / 162، 164، 209) ؛ وبداية المجتهد (2 / 499، 500) ؛ ومجموع الفتاوى للمؤلف (33 / 62، 68، 125، 126) ، و (35 / 243) ، و (1 / 204) .
(4)
من هنا حتى قوله: لكن القول (سطر تقريبا) : سقط من (أط) .
(5)
في (ب) : طردا للخلاف.
(6)
انظر: المغني والشرح الكبير (11 / 209) ؛ ومجموع الفتاوى (35 / 243) .
(7)
في (ب) : زاد: يعني الإقسام. وهو تفسير لمرجع الإشارة.
(8)
في (أ) وفي المطبوعة: الأمة.
عن ذلك، واتفقوا على أن الله يُسأل (1) ويقسم عليه بأسمائه وصفاته، كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن:«اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان (2) بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام» (3) .
وفي الحديث الآخر (4) " (5)«اللهم إني أسألك بأنك أنت (6) الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» (7) وفي الحديث الآخر (8)«أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» (9) فهذه الأدعية
(1) في المطبوعة: أن الله تعالى هو الذي يسأل وحده.
(2)
في (أ) : أنت المنان وفي المطبوعة: أنت الله الحنان المنان.
(3)
انظر: سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، الحديث رقم (3858) ، (2 / 1268) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه "(1 / 504) . وأخرجه من طريق أخرى وسكت عنه (1
4) .
(4)
في (أ) : الأخير.
(5)
في (ب) : أسقط الحديث وذكر الذي بعده.
(6)
أنت: سقطت من (أ) .
(7)
انظر: سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، الحديث رقم (3857) ، (1 / 1267- 1268) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك في الكتاب والباب السابقين، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وذكر له شاهدًا أيضا على شرط مسلم (1 / 504) .
(8)
في (أ) : الأخير.
(9)
أخرجه أحمد في المسند (1 / 391، 452) في مسند عبد الله بن مسعود، والحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، باب دعاء دفع الكرب، وقال:" هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه عن أبيه "(1 / 509، 510) .
ونحوها مشروعة باتفاق العلماء. وأما إذا قال: " أسألك بمعاقد (1) العز من عرشك " فهذا فيه نزاع، رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به. ونقل عن أبي حنيفة كراهته.
قال أبو الحسين (2) القدوري (3) في (شرح الكرخي) : قال بشر بن الوليد (4) سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعقد العز من عرشك، أو بحق خلقك (5) . قال أبو يوسف: بمعقد (6) العز من عرشه (7) هو الله، فلا أكره هذا، وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره.
قالوا جميعًا: فالمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا (8) ولكن معقد (9) العز من
(1) في (ج د) : بمقاعد.
(2)
في المطبوعة: أبو الحسن. والصحيح ما أثبته.
(3)
هو: أحمد بن محمد بن أحمد القدوري، من أكابر فقهاء الحنفية، ولد سنة (362هـ) ، وكان ثقة صدوقا، انتهت إليه رياسة الحنفية في زمنه، توفي سنة (428هـ) .
انظر: الفوائد البهية (ص 30، 31) ؛ واللباب (3 / 19، 20) .
(4)
هو: بشر بن الوليد بن خالد الكندي، القاضي، الحنفي، من أصحاب أبي يوسف، وكان صالحا عابدا واسع الفقه، ثقة. توفي سنة (238هـ) .
انظر: الفوائد البهية (ص 54، 55) ؛ ولسان الميزان (2 / 35) ، (ت120) .
(5)
في (أ) : أو بحق فلان.
في المطبوعة زاد: وهو قول لأبي يوسف.
(6)
في (ج د) : بمقعد.
(7)
في: (أ) : من عرشي. وفي (ط) : من عرشك.
(8)
في المطبوعة زاد: عليه.
(9)
في (ج د) : مقعد.
عرشك (1) هل هو سؤال بمخلوق أو خالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه:" أسألك بمعاقد (2) العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة " فجوزه لذلك.
وقد نازع في هذا بعض الناس، وقالوا: في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي» (3) .
وقد قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1](4) على قراءة حمزة وغيره ممن خفض (الأرحام)، وقالوا: تفسيرها: أي يتساءلون به وبالأرحام، كما يقال: سألتك بالله وبالرحم. ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار، فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار، وإلا فقد سمع من الكلام العربي - نثره ونظمه - العطف بدون ذلك كما حكى سيبويه:" ما فيها غيره وفرسه "(5) ولا ضرورة هنا، كما يدعى مثل ذلك
(1) من هنا حتى قوله: منتهى الرحمة (سطران تقريبا) : ساقطة من (ط) .
(2)
في: (ج د) : بمقاعد.
(3)
أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد، باب المشي إلى الصلاة، الحديث رقم (778) ، (1 / 256)، وكتب المعلق (محمد فؤاد عبد الباقي) :" قال في الزوائد: هذا إسناده مسلسل بالضعفاء، عطية وهو العوفي وفضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفق، كلهم ضعفاء. لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده"(1 / 256)، وأحمد في المسند (3 / 21) كما أشار المؤلف إلى أن الحديث فيه عطية العوفي وفية ضعف. انظر: قول المؤلف فيه (2 / 323) .
(4)
سورة النساء: من الآية 1.
(5)
بعضهم يذكرها عن قطرب: انظر (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)(ص 506) .
في الشعر، ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر قال:" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " فيسقون (1) .
وفي النسائي والترمذي وغيرهما: حديث الأعمى الذي صححه الترمذي وغيرهما: " أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره فأمره أن يتوضأ فيصلي (2) ركعتين ويقول: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها (3) اللهم فشفعه في» (4) فدعا الله، فرد الله (5) عليه بصره.
والجواب عن هذا أن يقال:
أولا: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين، كما قال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (6) وكما قال تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54](7) وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم (8) قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حقه عليهم أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله
(1) مر، انظر: فهرس الأحاديث.
(2)
في (ط ب) : ويصلي.
(3)
كذا في المطبوعة والمخطوطات، وفي الترمذي:"لتقضى لي "؛ وفي ابن ماجه: " لتقضى"؛ وفي المسند: " فتقضى لي".
(4)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب (119) ، (5 / 569)، وقال:" هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه "، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة، الحديث رقم (1385) ، (1 / 441)، ثم قال: " قال أبو إسحاق: هذا حديث صحيح (1 / 442) ، وأحمد في المسند (4 / 138) .
(5)
في (ب ط) : فرد عليه بصره.
(6)
سورة الروم: من الآية 47.
(7)
سورة الأنعام: من الآية 54.
(8)
في (أط) : لما قال لمعاذ.
إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حقهم عليه أن لا يعذبهم» (1) فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق (2) .
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وبقوله في الحديث (3) الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما» (4) والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.
وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية (5) وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء (6) ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه (7) لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون (8) للمخلوق على المخلوق؛
(1) صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل، الحديث رقم (5967) ،، (1 / 397- 398) فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (10) ، (1 / 58، 59) ، الحديث رقم (30) .
(2)
من هنا حتى قوله: لا أن العبد نفسه يستحق (تسعة سطور تقريبا) : سقطت من (أط) .
(3)
في المطبوعة في الحديث القدسي الصحيح.
(4)
جاء ذلك في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في كتاب البر، باب تحريم الظلم، الحديث رقم (2577) ، (4 / 1994) .
(5)
انظر: (شرح الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار (ص 123، 314- 317، 345، 645- 647) ، والفرق بين الفرق (ص116) .
(6)
في المطبوعة: وربه ومليكه.
(7)
في المطبوعة: كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه.
(8)
في (ط) : كما يستحقه المخلوق فإن الله.
فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح. ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم (1) أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره؛ فهو جاهل في ذلك.
وإذا كان كذلك: لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوضة، ولا من باب (2) ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه (3) يتعالى عن ذلك.
وإذا سئل بما جعله سببا للمطلوب من (4) الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته، وأنه يجعل لهم مخرجا، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهة عنده، فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا.
وأما إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب: فإما أن يكون إقساما عليه به (5) فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم، وبكلماته التامة، ورحمته لهم (6) أن يمنعهم، ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم، ما لا يقبله من دعاء غيرهم. فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان، وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته،
(1) ونحوهم: ساقطة من (ج د ط) .
(2)
في (ب) : ولا مما أوجبه.
(3)
في _ب ج د) : سبحانه هو. بزيادة: هو.
(4)
في المطبوعة: من التقوى والأعمال الصالحة.
(5)
في (ط) : ولا.
(6)
في المطبوعة زاد: أن ينصرهم ولا يخذلهم.