الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة، لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب.
[التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة]
وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله (1) وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها، كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم (2) فهذا مما لا نزاع فيه، بل هذا من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35](3) وقوله سبحانه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57](4) فإن ابتغاء الوسيلة إليه، هو: طلب من يتوسل به، أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له، والاستعاذة به، رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار.
ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، الدعاء بمعنى العبادة، أو الدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما يستلزم (5) الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده (6) طلب حاجته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب: من الرزق والنصر والعافية مطلقا، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته، والتنعم
(1) في (ط) : ورسوله. هو تحريف من الناسخ.
(2)
قد فصل المؤلف هذه المسألة في كتاب مستقل وهو كتاب: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. مطبوع، فليراجع فإنه مفيدا جدا.
(3)
سورة المائدة: من الآية 35.
(4)
سورة الإسراء: من الآية 57.
(5)
في (أط) : مستلزم.
(6)
في (أ) : مقصود.
بذكره ودعائه، ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته. وهذا من رحمة الله بعباده، يسوقهم (1) بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية.
وقد يفعل العبد ما أمر به ابتداء لأجل العبادة لله، والطاعة له، ولما عنده من محبته والإنابة إليه، وخشيته، وامتثال أمره، وإن كان (2) ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية، وقد قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](3) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره: «الدعاء هو العبادة» ، ثم قرأ قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](4) . وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين: " ادعوني " أي اعبدوني وأطيعوا أمري؛ أستجيب دعاءكم. وقيل: سلوني أعطكم، وكلا المعنيين (5) حق (6) .
وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النزول: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. حتى يطلع
(1) في (أ) : يشوقهم.
(2)
كان: سقط من (أ) .
(3)
سورة غافر: من الآية 60.
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء، الحديث رقم (1479) ، (2 / 161) ؛ والترمذي في كتاب الدعاء، باب ما جاء في فضل الدعاء، الحديث رقم (3372)، وقال:" هذا حديث صحيح"(5 / 456) ؛ وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، الحديث رقم (3828) ، 2 / 1258) .
(5)
في المطبوعة: النوعين.
(6)
انظر: (فتح القدير) للشوكاني (4 / 498) ؛ وتفسير ابن جرير (2 / 93، 94) ، (24 / 51، 52) .
الفجر» (1) فذكر أولا: إجابته الدعاء، ثم ذكر: إعطاء السائل، والمغفرة للمستغفر، فهذا جلب المنفعة، وهذا دفع المضرة، وكلاهما مقصود الداعي المجاب.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186](2) .
وقد روي: أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية (3) فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به، كما قال بعضهم: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم، وليؤمنوا بي (4) إني (5) أجيب دعوتهم. قالوا: وبهذين السببين تحصل إجابة الدعوة: بكمال الطاعة لألوهيته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه؛ حصل مقصوده من الدعاء، وأجيب دعاؤه، كما قال تعالى {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] (6) أي: يستجيب لهم، يقال: استجابه واستجاب له.
فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركا وفاسقا، فإنه سبحانه هو القائل:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12](7) وهو القائل سبحانه:
(1) صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة في آخر الليل، الحديث رقم (1145) ، (3 / 29) من فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل وحديث رقم (758) ، (1 / 521- 523) .
(2)
سورة البقرة: الآية 186.
(3)
ذكره ابن جرير في تفسيره (2 / 92) بسنده من أكثر من طريق.
(4)
بي: ساقطة من (أ) .
(5)
في المطبوعة: وليؤمنوا بي إذا دعوتهم.
(6)
سورة الشورى: من الآية 26.
(7)
سورة يونس: الآية 12.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67](1) وهو القائل سبحانه {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41](2) .
ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته، وأنه يجيب دعاء المضطر، إذا لم يكونوا مخلصين له الدين، في عبادته، ولا مطيعين له ولرسوله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق.
وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126](4) . قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126](5) فليس كل من متعه الله برزق ونصر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك، يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق.
وقد ذكروا أن بعض الكفار من (6) النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد
(1) سورة الإسراء: الآية 67.
(2)
سورة الأنعام: الآيتان 40، 41.
(3)
سورة الإسراء: الآيات 18 - 20.
(4)
سورة البقرة: الآية 126.
(5)
سورة البقرة: الآية 126.
(6)
في (أب) : والنصارى. وفي (ط) : ومن النصارى.
ماؤهم العذب، فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم، فاشتور (1) ولاة أمر المسلمين، وقالوا: بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم، فقام أولئك (2) فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم، فاضطرب بعض العامة، فقال الملك لبعض العارفين: أدرك الناس فأمر بنصب منبر له وقال: اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6](3) وقد دعوك مضطرين، وأنت تجيب المضطر إذا دعاك، فأسقيتهم؛ لما تكفلت به من رزقهم، ولما دعوك مضطرين لا لأنك تحبهم، ولا تحب دينهم، والآن فنريد أن ترينا آية يثبت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين. فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم، أو نحو هذا (4) .
ومن هذا الباب: من قد يدعو دعاء يعتدي (5) فيه، إما بطلب ما لا يصلح، أو بالدعاء الذي فيه معصية الله، شرك أو غيره، فإذا حصل بعض غرضه؛ ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح، بمنزلة من أُملي له، وأُمد بالمال والبنين، يظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات.
قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56](6) وقال تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44](7) وقال تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178](8)
(1) أي تشاوروا.
(2)
في (ط) : أولئك النصارى.
(3)
سورة هود: من الآية 6.
(4)
لم أجد هذه القصة في المصادر التي اطلعت عليها.
(5)
في (ط) : اعتدى.
(6)
سورة المؤمنون: الآيتان 55، 56.
(7)
سورة الأنعام: الآية 44.
(8)
سورة آل عمران: الآية 178.
والإملاء: إطالة العمر، وما في ضمنه من رزق ونصر. وقال تعالى:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45](1) .
وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع:
وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55](2) والمقصود هنا (3) أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله، فيثاب (4) العبد عليه في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سببا لضرر دينه، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله سبحانه وتعداه من حدوده، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء (5) الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته.
ومن هذا (6) الباب: استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم، في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه: " إنا كنا إذا أجدبنا (7) توسلنا إليك
(1) سورة القلم: الآيتان 44، 45.
(2)
سورة الأعراف: الآية 55.
(3)
هنا: ساقطة من (ط) .
(4)
في (ج د) : يثاب.
(5)
في المطبوعة: وبدعاء أحياء الأنبياء.
(6)
هذا: سقطت من (أ) .
(7)
أجدبنا: سقطت من (أط) .
بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل (1) إليك بعم نبينا " (2) معناه: نتوسل إليك بدعائه وشفاعته، وسؤاله ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله (3) بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك (4)(5) ويقولون: إنا (6) نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا:«إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض» (7) .
فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه؛ لفعلوا ذلك به بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به (8) أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء، ولا غيره.
وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول الشفاعة، وأن قوله:
(1) من هنا قوله: بدعاء عمه (سطر تقريبا) : ساقط من (أ) .
(2)
الأثر مر. انظر: فهرس الأحاديث، وطرفه هو:"اللهم إنا".
(3)
في المطبوعة: مما يفعله المبتدعون.
(4)
في (ب) : عبدك.
(5)
في (ط) : أو يقولون.
(6)
إنا: ساقطة من (أب ط) .
(7)
قال عنه المؤلف في مجموع الفتاوى، كتاب التوسل والوسيلة (1 / 319) :"وهذا حديث كذب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث".
(8)
به: سقطت من (أ) .
" أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد (1) نبي الرحمة " أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر:" كنا نتوسل إليك بنبينا " فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:" يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في (2) فطلب (3) من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله: " يا محمد يا نبي الله " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب الشهود (4) بالقلب: كما يقول المصلي: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.
فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به، فيكون التسبب: إما لمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا لشيء منه، ولا شيء من السائل (5) بل بذاته (6) أو بمجرد الإقسام به على الله.
فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بشيء (7) قد
(1) في (ب) : زاد: أي بدعاء نبيك. محمد: سقطت من (ب ط) .
(2)
الحديث مر (ص 309) من هذا الجزء.
(3)
في (ب) : وطلب.
(4)
في (ج د) : المشهود. وفي المطبوعة: لشهوده.
(5)
في (أ) : المسايل.
(6)
في (أ9: بل بذاته لمجرد الإقسام.
(7)
بشيء: سقطت من (أج د) .
يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم " فقالوا: ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وإنها طلبت مني مائة دينار، فلما أتيتها بها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتركت الذهب وانصرفت، فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء.
وقال الآخر: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (1) قبلهما أهلا ولا مالا (2) فناء بي (3) طلب الشجر يوما، فلم أرح (4) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا (5) فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج (6) عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت الصخرة (7) غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
(1) أغبق: من الغبوق، وهو الشرب بالعشي، وتغبق: حلب بالعشي. انظر: القاموس المحيط، فصل الغين، باب القاف (3 / 280) .
(2)
في (ج د) : ولا ولدا بدل: ولا مالا. وفي البخاري أو مالا.
(3)
في (أ) : فناء في طلب المشي. وهو خلط من الناسخ.
(4)
في (ب) : أرح. ومعنى لم أرح: أي لم أرجع بالعشي، فالروح هو: ما بعد الزوال. مختار الصحاح، مادة (ر وح)(ص262) .
(5)
في (ج د) : أو ولدا.
(6)
في المطبوعة: فافرج. وفي البخاري: كما أثبته.
(7)
الصخرة: سقطت من المطبوعة، ووضع بدلها: عنهم.
وقال الثالث: اللهم إني (1) استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره (2) حتى كثرت منه (3) الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد لي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت (4) أنا لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه (5) فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون " (6) .
فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى (7) الله تعالى، ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](8) وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به، من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.
ومن هذا: يذكر عن الفضيل بن عياض (9) أنه أصابه عسر البول فقال:
(1) أني: ساقطة من (أ) .
(2)
في المطبوعة: أجرته. وفي البخاري: كما أثبته.
(3)
في (ب ط) والمطبوعة: منها.
(4)
فقلت: سقطت من (أ) .
(5)
في (ب) : ولم.
(6)
صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب من استأجر أجيرا فترك أجره. .، الحديث رقم (2272) ، (4449) فتح الباري، ومسند أحمد (1 / 116) ، (3 / 142- 143) .
(7)
إلى الله: ساقطة من (ط) .
(8)
سورة غافر: من الآية 60.
(9)
هو: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي، الزاهد العابد، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما، توفي سنة (187 هـ) . انظر: وفيات الأعيان (4 / 47 - 50) ، (ت531) ؛ وتقريب التهذيب (2 / 113) ، (ت67) .
بحبي (1) إياك إلا فرجت عني " ففرج عنه (2) . وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: " اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك " (3) وسألت الله أن يحيي ولدها. وأمثال ذلك.
وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193 - 194](4) .
فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وفعل ما يحبه، والعبودية والطاعة، هو من جنس فعل ذلك؛ رجاء لرحمة الله، وخوفا من عذابه، وسؤال الله بأسمائه وصفاته كقوله:«أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السماوات والأرض» ، و «بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» (5) ونحو ذلك يكون من باب التسبب، فإن كون المحمود المنان يقتضي منته على عباده، وإحسانه الذي يحمده عليه.
وكونه (6) الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد يقتضي (7) توحده في صمديته (8) فيكون هو السيد المقصود، الذي يصمد الناس إليه في كل حوائجهم، المستغني عما سواه، وكل ما سواه مفتقرون إليه (9) لا غنى بهم عنه، وهذا سبب
(1) في (أب ط) : لك.
(2)
ذكره أبو نعيم في (حلية الأولياء) بسنده (8 / 109) .
(3)
ذكره القاضي عياض في كتاب (الشفا) عن أنس (1 / 268) .
(4)
سورة آل عمران: من الآيتان 193، 194.
(5)
الحديث مر (ص 306) من هذا الجزء.
(6)
في (أ) : ولكونه.
(7)
في (أط) : يقضي.
(8)
في (ب ج د) : صمدانيته.
(9)
في (أط) : وكل مفتقرين إليه.
لقضاء المطلوبات (1) وقد يتضمن معنى ذلك: الإقسام عليه بأسمائه وصفاته.
وأما قوله في حديث أبي سعيد: «أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا» (2) فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته: هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله.
فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (3) والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (4) قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، فأورد بعض الناس لفظ (المعافاة) فقال جمهور أهل السنة: المعافاة من الأفعال، وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون: إن أفعال الله قائمة به، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وعلى هذا جمهور أصحاب أحمد (5) والشافعي ومالك،
(1) في (أط) : المطالب. وفي (ب) : المطلوب.
(2)
الحديث مر (ص 308) من هذا الجزء.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب (42) ، الحديث رقم (486) ، (1 / 352) عن عائشة.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب (16) ، الحديث رقم (2708) ، (4 / 2080- 2081) .
(5)
في المطبوعة: وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد ومالك.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقول عامة (1) أهل الحديث، والصوفية، وطوائف من أهل الكلام والفلسفة.
وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية (2) نقضا. فإن أهل الإثبات، من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية: من الكلابية (3) والأشعرية (4) والكرامية (5) وغيرهم، استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق، فإن
(1) في المطبوعة: أصحاب أهل الحديث.
(2)
الجهيمة هم: أتباع الجهم بن صفوان، وهي فرقة معطلة تنكر أسماء الله وصفاته، وتزعم أن الإنسان مجبور على أفعاله، وأن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط، وغير ذلك من الضلالات.
انظر: (الملل والنحل) للشهرستاني، بهامش (الفصل)(1 / 127 - 130) .
(3)
الكلابية هم: أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان، والكلابية يثبتون الأسماء والصفات لكن على طريقة أهل الكلام، لذلك يعدهم أهل السنة من متكلمة أهل الإثبات، ويوافقون أهل السنة في كثير من مسائل العقيدة، بل إنهم في مسائل القدر والأسماء والأحكام أقرب إلى أهل السنة من الأشاعرة. انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (3 / 103) ، (4 / 12، 14، 147، 156، 174) .
(4)
الأشعرية هم: أتباع أبي الحسن الأشعري الذين هم على مذهبه - قبل أن يرجع إلى معتقد أهل السنة - وهم في الجملة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا، ويؤولون بقية الصفات بتأويلات عقلية بالرغم من ورود النصوص فيها من الكتاب والسنة، كالوجه واليد وغيرهما من الصفات التي ثبتت لله تعالى كما يليق بجلاله، أثبتها لنفسه في كتابه وفي صحيح سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأشاعرة يوافقون أهل السنة في غالب أصول الاعتقاد، عدا الصفات وبعض الأمور التي لا يتسع المقام لذكرها، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري رجع إلى معتقد أهل السنة - كما بين في كتاب الإبانة - إلا أن اعتقاده الأول لا يزال متبوعا.
انظر: (الملل والنحل) بهامش (الفصل)(1 / 138 - 158) .
(5)
الكرامية هم: أتباع محمد بن كرام، والكرامية يعتقدون أن الله تعالى جسم، وأنه تعالى محل للحوادث، وأن له ثقل، وأنه خالق رازق بلا خلق ولا رزق. . إلخ. ولهم في الإيمان قول منكر حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا. انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (3 / 103) .
وانظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 202 - 214) . وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (2 / 11- 22) بهامش الفصل لابن حزم.
الصفة إذا قامت بمحل؛ عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، واتصف به ذلك المحل لا غيره، فإذا خلق الله لمحل علما أو قدرة أو حركة، أو نحو ذلك؛ كان هو العالم به (1) القادر به، المتحرك به، ولم يجز أن يقال: إن الرب المتحرك بتلك الحركة، ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين، بل بما قام به من العلم والقدرة. قالوا: فلو كان قد خلق كلاما في غيره، كالشجرة التي نادى منها (2) موسى؛ لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] ولكان ما يخلقه الله من: إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال في (3) وغير ذلك، كلاما له كالقرآن والتوراة والإنجيل، بل كان كل كلام في الوجود كلامه؛ لأنه خالق كل شيء، وهذا قد التزمه مثل صاحب (الفصوص)(4) وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية الاتحادية (5) .
(1) من هنا حتى قوله: القادر بالعلم (سطر) : سقط من (أ) .
(2)
في (أ) : فيها. وفي (ط) : تحتها.
(3)
(ب) : وتأويل. والجبال: ساقطة من (ط) .
تأويب الجبال: تسبيحها. انظر: مختار الصحاح، مادة (أوب) ، (ص32) .
(4)
هو: محي الدين بن عربي، محمد بن علي الطائي، الأندلسي، فيلسوف، متكلم، ملحد، رأس في الضلالة، من دعاة وحدة الوجود، بل هو قدوتهم، نسأل الله السلامة، توفي سنة 638 هـ بدمشق.
(5)
الحلولية: هم الذين يعتقدون أن الله تعالى بذاته حل في مخلوقاته كما يحل الماء في الإناء، وأنه تعالى بذاته في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وأما الاتحاد: فهو القول بأن الله تعالى متحد بمخلوقاته وممتزج بها كما يمتزج الماء بالطين، وأن وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات، أي أن الوجود واحد. والقول بالحلول والاتحاد مآلهما واحد، وهذه عقيدة غلاة الصوفية والفلاسفة، كابن عربي وابن سبعين والحلاج والتلمساني وغيرهم. انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (2 / 111 - 480) .
فأوردت المعتزلة صفات الأفعال: كالعدل والإحسان، فإنه يقال: إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره، وإحسان خلقه في غيره، فأشكل ذلك على من يقول: ليس لله فعل قائم به، بل فعله هو المفعول المنفصل عنه، وليس خلقه إلا مخلوقه. وأما من طرد القاعدة وقال أيضا: إن الأفعال قائمة به، ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه، وفرق بين الخلق والمخلوق، فاطرد دليله واستقام.
والمقصود هنا (1) أن استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته، - مع أنه لا يستعاذ بمخلوق - كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق. ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، كما ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (2) وفي لفظ للترمذي: «من حلف بغير الله فقد أشرك» قال الترمذي: " حديث حسن "(3) ومع هذا، فالحلف (4) بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف به، لم يدخل في الحلف بغير الله؛ لأن لفظ (الغير) قد يراد به المباين المنفصل، ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله، أنها غيره، ولم يطلقوا عليه أنها ليست غيره؛ لأن لفظ (5)(الغير) فيه إجمال، قد يراد
(1) في (أ) : هذا.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، الحديث رقم (6646) ، (11 / 530) فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، الحديث رقم (1646) ، (3 / 1267) .
(3)
سنن الترمذي، كتاب النذور والأيمان، الحديث رقم (1535) ، (4 / 110) .
(4)
في (أ) : فالحلف به بعزة الله.
(5)
لفظ: سقطت من (أ) .
به: (1) المباين المنفصل؛ فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلا في لفظ: الغير. وقد يراد به: ما يمكن تصوره، دون تصور ما هو غير له؛ فيكون غيرا بهذا الاصطلاح.
ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى: (الغير) والنزاع في ذلك لفظي، ولكن بسبب ذلك حصلت في مسائل الصفات من الشبهات ما لا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات، كما قد بُسط في غير هذا الموضع (2) .
ولهذا يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى اسم (الله) يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى (الذات) فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال: صفات الله زائدة عليه سبحانه، وإن قيل: الصفات زائدة على الذات؛ لأن المراد أنها هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات المجردة (3) والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، فليس اسم الله متناولا لذات مجردة عن الصفات أصلا، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد رحمه الله في مناظرته للجهمية: لا نقول: الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره: هو إله واحد (4) .
وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع.
وأما قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ:(تساءلون به والأرحام)(5) فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم
(1) من هنا حتى قوله: ما يمكن تصوره (سطر تقريبا) : ساقطة من (أ) .
(2)
انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (6 / 185 - 212) .
(3)
المجردة: ساقطة من (أط) .
(4)
انظر: الرد على الجهمية والزنادقة، تصحيح إسماعيل الأنصاري، (ص 49) .
(5)
أي بخفض (الأرحام) عطفا على الضمير في (به) .
توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته: من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل (1) بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم، والصلاة عليهم.
ومن هذا الباب: ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه (2) قال: " كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه "(3) أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث:«إن من أبر البر أن يصل الرجل (4) أهل ود أبيه بعد أن يولي» (5) وقوله: «إن من برهما بعد موتهما: الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما» (6) .
(1) في (ب ج د) : كالمتوسل.
(2)
أنه: ساقطة من (ب ج د) .
(3)
وابن جعفر هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولد بالحبشة، وله صحبة، مات سنة (80 هـ) . انظر: تقريب التهذيب (1 / 406) .
(4)
الرجل: ساقطة من (أ) .
(5)
أخرجه مسلم من طرق في كتاب البر والصلة، باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، الحديث رقم (2552) ، (4 / 1979) .
(6)
انظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في بر الوالدين، الحديث رقم (5142) ، (5 / 352) ، وسنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب: صل من كان أبوك يصل، الحديث رقم (3664) ، ومسند أحمد (3 / 498) .
ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه؛ لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. لكن بين المعنيين فرق، فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب (1) ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان يسأل ما به، لكان باطلا (2) .
وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم (3) للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل:«إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» ، (4) وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع، والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه.
فإن كان (5) ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل، حَسُنَ السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم.
وأما بمجرد (6) الأنبياء والصالحين، ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم، ورعايته لحقوقهم التي أنعم الله بها، فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا
(1) في (ج) : التسبب.
(2)
في المطبوعة: وإلا كان يسأل ما به باطلا.
(3)
في (أ) : بالقسم.
(4)
صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، الحديث رقم (2703) ، (5 / 306) من فتح الباري، وصحيح مسلم، كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان، الحديث رقم (1675) ، (3 / 1302) .
(5)
كان: سقطت من (أب ط) .
(6)
في المطبوعة: وأما بمجرد ذوات الأنبياء.