المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ما دون هذا بأن يكون خلقًا له أولى، إذ هو - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في مفهوم العيد والحذر من التشبه بالكفار في أعيادهم]

- ‌[فصل في أعياد الكفار]

- ‌[بعض ما يفعله الناس من المسلمين من البدع في ذلك]

- ‌[النهي عن فعل ما يعين الكفار في أعيادهم]

- ‌[بيع الدار ونحوها للذمي وإجارتها له]

- ‌[ابتياع الذمي أرض العشر من مسلم]

- ‌[استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع للكنيسة]

- ‌[قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم]

- ‌[ذبيحتهم يوم عيدهم وأنواع ذبائح أهل الكتاب]

- ‌[ما ذبح على النصب]

- ‌[ذبائح الجن المزعزمة]

- ‌[عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب]

- ‌[فصل في صوم أيام عيد الكفار]

- ‌[فصل في صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين]

- ‌[فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة]

- ‌[ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر لوجهين]

- ‌[الأول دخول سائر الأعياد والمواسم المبتدعة في مسمى البدع المحدثات]

- ‌[الثاني اشتمالها الفساد في الدين]

- ‌[فصل في الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[أنواع الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[فصل في الأعياد المكانية المبتدعة]

- ‌[فصل في أنواع الأعياد المكانية]

- ‌[النوع الأول مكان لا خصوص له في الشريعة]

- ‌[بعض الأمكنة والقبور التي ابتدعها الناس]

- ‌[فصل في النوع الثاني من الأمكنة]

- ‌[النوع الثاني ما له خصيصة لا تقتضي اتخاذه عيدا]

- ‌[إطلاق العيد على المكان الذي يقصد الاجتماع فيه]

- ‌[ما يتصل بالقبور من زيارتها والصلاة عندها واتخاذها مساجد والبناء عليها]

- ‌[أنواع من المحرمات]

- ‌[الدعاء عند القبور]

- ‌[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور]

- ‌[أثر العبادة والدعاء عند القبور ليس دليلا على استحسانها]

- ‌[أنواع الشرك]

- ‌[الدعاء بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر]

- ‌[تفنيد ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر]

- ‌[بعض بدع القبور]

- ‌[فصل في عدم جواز سائر العبادات عند القبور]

- ‌[فصل في العكوف عند القبور ومجاورتها وسدانتها]

- ‌[فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها]

- ‌[أقوال العلماء وبيان القول الصحيح وأدلته]

- ‌[الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها]

- ‌[الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم]

- ‌[التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة]

- ‌[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم]

- ‌[المساجد التي تشد إليها الرحال]

- ‌[فصل في المسجد الأقصى]

- ‌[فصل في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد]

- ‌[أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك]

- ‌[أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب]

- ‌[أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع]

- ‌[غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك]

- ‌[الخاتمة]

الفصل: ما دون هذا بأن يكون خلقًا له أولى، إذ هو

ما دون هذا بأن يكون خلقًا له أولى، إذ هو منفعل (1) عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام، خالق للمسبب لا محالة.

[أنواع الشرك]

وجماع الأمر: أن الشرك نوعان: * شرك في ربوبيته: بأن يجعل لغيره معه تدبيرًا ما، كما قال سبحانه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22](2) فبين سبحانه أنهم لا يملكون ذرة (3) استقلالا، ولا يشركونه في شيء من ذلك. ولا يعينونه على ملكه، ومن لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا، فقد انقطعت علاقته (4) .

* وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فكما أن إثبات المخلوقات أسبابًا لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استغاثة. كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة، من شرك أو غيره أسبابا، لا يقدح في توحيد الألوهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن نستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذا كان الله يسخط ذلك، ويعاقب العبد عليه، وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه، ولا نسعتين إلا إياه.

وعامة آيات القرآن تثبت (5) هذا الأصل (6) حتى إنه سبحانه قطع أثر

(1) في المطبوعة: حاصل.

(2)

سورة سبأ: الآية 22.

(3)

في المطبوعة: مثقال ذرة.

(4)

في (ط) : علائقه.

(5)

في (ج د ط) : لتثبيت.

(6)

في المطبوعة زاد: الأصيل.

ص: 226

الشفاعة بدون إذنه، كقوله سبحانه:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255](1) وكقوله سبحانه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51](2) وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70](3) وقوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] الآية (4) .

وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94](5) وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان (6) .

وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4](7) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3](8) وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44](9) . وسورة الزمر أصل عظيم في هذا.

(1) سورة البقرة: من الآية 255.

(2)

سورة الأنعام: الآية 51.

(3)

سورة الأنعام: من الآية 70.

(4)

سورة الأنعام: من الآية 71.

(5)

سورة الأنعام: الآية 94.

(6)

في المطبوعة زاد: والتوحيد.

(7)

سورة السجدة: من الآية 4.

(8)

سورة الزمر: من الآية 3.

(9)

سورة الزمر: الآيتان 43، 44.

ص: 227

ومن هذا قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ - يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ - يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13](1) .

وكذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41](2) .

والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول. وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء، مع كونه قد يؤثر، إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببًا أو جزءًا من السبب، في حصول طلبته.

والناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات فزعم (3) قوم من المبطلين، متفلسفة ومتصوفة، أنه لا فائدة فيه أصلًا، فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية، إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا (4) حاجة إلى الدعاء، أو لا تكون اقتضته، وحينئذ فلا (5) ينفع الدعاء.

وقال قوم ممن تكلم (6) في العلم: بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب، وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق.

(1) سورة الحج: الآيات 11 - 13.

(2)

سورة العنكبوت: الآية 41.

(3)

في (أ) : يزعم.

(4)

في (ط) : لا حاجة.

(5)

في (ب ط) : لا ينفع.

(6)

في (أج د) : يتكلم.

ص: 228

والصواب: ما عليه الجمهور - من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب، أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة. وسواء سمي سببًا أو جزءًا من السبب أو شرطًا، فالمقصود هنا واحد، فإذا (1) أراد الله بعبد خيرًا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببًا للخير الذي قضاه له، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل (2) هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه "(3) .

كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدًا، أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد الله أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب، فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات، بأسبابها المقدرة لها، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعليم.

فمبدأ الأمور من الله، وتمامها على الله، لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب، أو في ملكوت الرب، بل الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وجاعل دعاء عبده سببًا لما يريده سبحانه من القضاء، كما «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله (4) أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها (5) هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله» (6) .

(1) في (أط) : وإذ.

(2)

في (أ) : أهمل، وهو تحريف من الناسخ.

(3)

لم أجده في المراجع التي اطلعت عليها.

(4)

يا رسول الله ساقطة من (ب ج د) .

(5)

أي ما يتخذ من أسباب للوقاية من المرض والعدو ونحوه.

(6)

أخرجه الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". انظر: سنن الترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية، حديث رقم (2065) ، (4 / 399، 400)، ومرة قال: عن أبي خزامة (4 / 400) ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا له شفاء، حديث رقم (3437) ، (2 / 1137) ، عن أبي خزامة أيضا. وأخرجه أحمد في المسند (3 / 421) ، عن أبي خزامة عن أبيه أيضا.

ص: 229

وعنه صلى الله عليه وسلم قال (1)«إن الدعاء والبلاء ليلتقيان (2) فيعتلجان بين السماء والأرض» (3) فهذا في الدعاء الذي يكون سببًا في حصول المطلوب (4)(5) .

وأعلى من هذا ما جاء به الكتاب والسنة، أن رضا الله وفرحه، وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحة، كما جاءت به النصوص، وكذلك غضبه ومقته. وقد بسطنا الكلام في (6) هذا الباب، وما للناس فيه من المقالات والاضطراب (7) .

فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببًا، فقد تقدم الكلام عليه.

فأما غالب الأدعية التي ليست مشروعة لا تكون هي السبب في

(1) قال: سقطت من (ب ج د) .

(2)

في (ج د) : يلتقيان.

(3)

أخرجه الحاكم بلفظ: " وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة "، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك (1 / 123) ، كتاب الدعاء، وأشار إليه المؤلف في مجموع الفتاوى (25 / 191، 192) ، دون تخريج.

(4)

للاستزادة من هذا الموضوع: راجع شرح العقيدة الطحاوية (ص 406 - 411) ، تحقيق أحمد شاكر.

(5)

من هنا حتى قوله: فما فرض من الأدعية (أربعة سطور تقريبا) : سقط من (ط) .

(6)

في (أ) : من هذا الباب.

(7)

انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (3 / 133، 138) و (5 / 351 - 356) و (6 / 88 - 105) و (8 / 378) وغيرها.

في المطبوعة زاد: في غير هذا الموضع.

ص: 230

حصول المطلوب، ولا جزءًا منه، ولا يعلم ذلك، بل يتوهم وهما كاذبًا (1) كالنذر سواء. فإن في الصحيح عن ابن عمر " عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» (2) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك (3) من البخيل، ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» (4) .

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن النذر لا يأتي بخير، وأنه ليس من الأسباب الجالبة للخير، أو الدافعة لشر أصلًا، وإنما يوافق القدر موافقة كما توافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ ما لم يكن يخرجه من قبل ذلك. ومع هذا فأنت ترى الذين يحكون أنهم وقعوا في شدائد، فنذروا نذورًا (5) تكشف شدائدهم، أكثر - أو قريبًا - من الذين يزعمون أنهم دعوا عند القبور، أو غيرها، فقضيت حوائجهم، بل من كثرة اغترار المضلين (6) بذلك؛ صارت النذور المحرمة في الشرع مآكل لكثير من السدنة والمجاورين، والعاكفين عند (7) بعض المساجد أو غيرها، ويأخذون من الأموال شيئًا كثيرًا، وأولئك الناذرون يقول أحدهم: مرضت فنذرت. ويقول آخر: خرج علي المحاربون فنذرت (8) ويقول الآخر:

(1) في المطبوعة: بل لا يتوهم إلا وهما كاذبا.

(2)

الحديث مر. انظر: فهرس الأحاديث.

(3)

في (ب) : ذلك.

(4)

صحيح مسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا، تابع الحديث رقم (1640 - 7) ، (3 / 1262) .

(5)

في المطبوعة: نذرا.

(6)

في (أط د) : المبطلين، وفي المطبوعة: الضالين المضلين.

(7)

في المطبوعة: العاكفين على القبور.

(8)

قوله: ويقول آخر: خرج علي المحاربون فنذرت: سقط من (أج د) .

ص: 231

ركبت البحر فنذرت (1) . ويقول الآخر: حبست فنذرت. ويقول الآخر: أصابتني فاقة فنذرت.

وقد قام بنفوسهم، أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم، ودفع مرهوبهم. وقد أخبر الصادق المصدوق أن نذر طاعة الله - فضلًا عن معصيته - ليس سببًا لحصول الخير (2) وإنما الخير الذي يحصل للناذر يوافقه (3) موافقة كما يوافق سائر الأسباب، فما هذه الأدعية غير المشروعة، في حصول المطلوب (4) بأكثر من هذه النذور في حصول المطلوب. بل تجد كثيرًا من الناس يقول: إن المكان الفلاني، أو المشهد الفلاني، أو القبر (5) الفلاني، يقبل النذر، بمعنى أنهم نذروا له نذرًا إن قضيت حاجتهم، وقضيت (6) . كما يقول القائلون: الدعاء عند المشهد الفلاني، أو القبر الفلاني، مستجاب، بمعنى أنهم دعوا هناك مرة، فرأوا أثر الإجابة. بل إذا كان المبطلون يضيفون (7) قضاء حوائجهم (8) إلى خصوص نذر المعصية (9) مع أن جنس النذر لا أثر له في ذلك، لم يبعد منهم إذا أضافوا

(1) قوله: ويقول آخر: ركبت النحر فنذرت: سقط من (ط) .

(2)

في (أج د) : سببا للخير، وفي (د) : لحصول خير.

(3)

يوافقه: ساقطة من (ط) .

(4)

من هنا حتى قوله: بل تجد (نصف سطر تقريبا) : سقط من (أ) .

(5)

أو القبر الفلاني: ساقطة من (ط) .

(6)

وقضيت: ساقطة من (ب) .

(7)

في (ب) : يضفون.

(8)

في (أط) : حاجاتهم.

(9)

في الورقة (161) من المخطوطة (ط) وجدت تهميشا هذا نصه: " يقول داود الطبيب: هذه البدعة إنما أصلها اليهود، فإنهم ينذرون في كل شيء أصابهم، حتى إذا قيل لأحدهم: صل أو صم أو تصدق، يقول: لا، ولكن أنذر للمكان الفلاني أو للعجوز الفلانية، وما أشبه ذلك. وبعض جهال المسلمين يعينهم على ذلك، حتى إني أعرف شيخا من مشايخ المسلمين المشهورون ينذر زيتا للكنيسة التي لهم، ويزعمون أنها للخضر عليه السلام بقرية (جوبر) ، ويقول: جربت ذلك فوجدته ناجحا، فهذا الجاهل مما كان يعينهم في أمر دينهم ". تمت.

ص: 232

حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع، لأن جنس الدعاء هنا مؤثر، فالإضافة إليه ممكنة، بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر.

والغرض أن يعرف أن الشيطان إذا زين لهم نسبة الأثر إلى ما لا يؤثر نوعًا ولا وصفًا، فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزين لهم. ثم كما لم يكن ذلك الاعتقاد منهم صحيحًا، فكذلك هذا، إذ كلاهما مخالف للشرع.

ومما يوضح ذلك: أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر كان هو السبب، أو بعض السبب في حصول المطلوب لا بد له من دلالة، ولا دليل على ذلك في الغالب إلا الاقتران أحيانًا، أعني: وجودهما جميعًا، وإن تراخي أحدهما عن الآخر مكانًا أو زمانًا مع الانتقاض (1)(2) أضعاف أضعاف الاقتران، ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه، ليس دليلًا على الغلبة (3) باتفاق العقلاء، إذا كان هناك سبب آخر صالح، إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم الغلبة (4) .

فإن قيل: إن التخلف بفوات شرط، أو لوجود مانع.

قيل: بل الاقتران لوجود سبب آخر، وهذا هو الراجح، فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات، بأنواع من الأسباب، لا يحصيها

(1) في (ط) : مع انتقاض.

(2)

من هنا حتى قوله: ليس دليلا (سطر تقريبا) ، سقط من (ج د) .

(3)

في المطبوعة: العلة، وهو أصح للسياق، ويدل عليه ما بعده، لكن ما أثبته أجمعت عليه النسخ المخطوطة ويقوم به المعنى.

(4)

في المطبوعة: العلية، وهو كما أسلفت في الهامش السابق.

ص: 233

إلا هو، وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع، إلا نادرًا، فإذا رأيناه قد أحدث (1) شيئًا وكان الدعاء المبتدع قد وجد، كان إحالة حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله، أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببًا.

ثم الاقتران: إن كان دليلًا على العلة، فالانتقاض دليل على عدمها.

وهنا افترق الناس ثلاث فرق: مغضوب عليهم، وضالون، والذين أنعم الله عليهم.

فالمغضوب عليهم، يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة، ويقولون: الدعاء المشروع قد يؤثر، وقد (2) لا يؤثر ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام.

والضالون: يتوهمون من كل ما يتخيل سببًا، وإن كان يدخل في دين اليهود والنصارى والمجوس، وغيرهم. والمتكايسون (3) من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية، وقوى نفسانية، وأسباب طبيعية، يدورون حولها، لا يعدلون عنها.

فأما المهتدون، فهم لا ينكرون ما خلقه (4) الله من القوى والطبائع في جميع الأجسام والأرواح، إذ الجميع خلق الله، لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من

(1) في المطبوعة: كان شيئا.

(2)

وقد لا يؤثر: ساقطة من (أ) .

(3)

أي الذين يزعمون الكيس: وهو العقل والغلبة بقوة الحجة العقيلة، والكيس ضد الحمق.

انظر: القاموس المحيط، فصل الكاف، باب السين (2 / 257) .

(4)

في (ب) : ما خلق الله.

ص: 234

قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير، ومن أنه كل يوم هو في شأن، ومن أن إجابته لعبده المؤمن (1) خارجة عن قوة نفسه، وتصرف جسمه وروحه (2) وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه، لإظهار صدقهم، (3) ولإكرامهم بذلك. ونحو ذلك من حكمه.

وكذلك يخرقها لأوليائه: تارة لتأييد دينه بذلك، وتارة تعجيلًا لبعض ثوابهم في الدنيا، وتارة إنعامًا عليهم بجلب نعمة، أو دفع نقمة، ولغير ذلك، ويؤمنون بأن الله يرد بما أمرهم (4) به، من الأعمال الصالحة، والدعوات المشروعة - (5) ما جعله في قوى الأجسام والأنفس (6) ولا يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية، أو الشرعية على فسادها، ولا يعملون بما حرمته الشريعة، (7) وإن ظن أن له تأثيرًا (8) .

(1) في (ب) : إجابة خارجة.

(2)

أي نفس العبد وجسمه وروحه.

(3)

من هنا حتى قوله: ثوابهم في الدنيا (سطر ونصف تقريبا) : ساقطة من (ط) .

(4)

في المطبوعة: يرد ما أمرهم.

(5)

في المطبوعة: إلى ما جعله.

(6)

معناه - والله أعلم -: أن الله تعالى يرد عن العبد المؤمن ما فيه ضرر عليه صادر عن القوى التي هي الأجسام، والطبائع التي هي الأنفس، بسبب دعائه وأعماله الصالحة.

(7)

من هنا حتى قوله: كما له طرق (سطر تقريبا) : سقط من (ط) .

(8)

في المطبوعة تقديم وتأخير خالفت به جميع النسخ المخطوطة، على النحو التالي بعد قوله:" وإن ظن أن له تأثيرا "، جاءت العبارات:" وبالجملة: فالعلم بأن هذا هو السبب " إلى قوله: " من باب النهي عليه كما تقدم "، مقدار نصف صفحة تقريبا، والتي ستأتي بعد صفحتين، بعد قوله:" حتى لا يميزوا بين الحق والباطل "، وما أثبته هو ما أجمعت عليه النسخ المخطوطة، كما أنه أقرب لمناسبة السياق.

ص: 235

وأما العلم بغلبة (1) السبب: فله طرق في الأمور الشرعية، كما له طرق في الأمور الطبيعية منها: الاضطرار (2)«فإن الناس لما عطشوا وجاعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ غير مرة ماء قليلًا، فوضع يده الكريمة (3) فيه حتى فار الماء من بين أصابعه (4) ووضع يده الكريمة في الطعام، وبرك فيه حتى كثر كثرة خارجة عن العادة» (5) فإن العلم بهذا الاقتران المعين، يوجب العلم بأن كثرة الماء والطعام كانت بسببه صلى الله عليه وسلم، علمًا ضروريًّا، كما يعلم أن الرجل إذا ضُرب بالسيف ضربة شديدة صرعته فمات، أن الموت كان منها، بل (6) أوكد، فإن العلم بأن كثرة الماء والطعام ليس له سبب معتاد في مثل ذلك أصلًا، مع أن (7) العلم بهذه المقارنة، يوجب علمًا ضروريًا بذلك.

وكذلك لما «دعا صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك أن يكثر الله ماله وولده» ، فكان نخله يحمل في السنة مرتين، خلاف عادة بلده، ورأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة (8) فإن مثل هذا الحادث يعلم أنه كان بسبب ذلك الدعاء.

(1) هنا اتفقت جميع النسخ، حتى المطبوعة، على العبارة المثبتة، وهذا مرجح، لما أثبته من النسخ المخطوطة قبل قليل.

(2)

في (ب) : بالإضرار.

(3)

قوله: الكريمة فيه: سقط من (ط) .

(4)

جاء ذلك في أحاديث متفق عليها. انظر: الأحاديث (169، 195، 200) من فتح الباري، والحديث رقم (2279) في صحيح مسلم.

(5)

انظر: الحديث رقم (2484، 2618) من فتح الباري، والحديث رقم (27) من مسلم، وهذه شواهد لما ساقه المؤلف، وإلا فالأحاديث الواردة في ذلك كثيرة في الصحيحين وغيرهما.

(6)

بل: ساقطة من (ب) .

(7)

أن: ساقطة من (أج د ط) .

(8)

جاء ذلك في الصحيحين. انظر: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (61) ، حديث رقم (1982)، (4 / 228) من فتح الباري. وانظر: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أنس، حديث رقم (2480) ، (4 / 1928) .

ص: 236

ومن رأى طفلًا يبكي بكاء شديدًا، فألقمته أمه الثدي فسكن، علم يقينًا أن سكونه (1) كان لأجل اللبن (2) .

والاحتمالات، وإن تطرقت إلى النوع، فإنها قد لا تتطرق إلى الشخص المعين. وكذلك الأدعية، فإن المؤمن يدعو بدعاء فيرى المدعو بعينه مع عدم الأسباب المقتضية له، أو يفعل فعلًا كذلك فيجده كذلك (3) كالعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما قال: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، اسقنا، فمطروا في يوم شديد الحر، مطرًا لم يجاوز عسكرهم (4) . وقال: احملنا فمشوا على النهر الكبير مشيًا لم يبل أسافل أقدام دوابهم (5) وأيوب السختياني (6) لما ركض الجبل لصاحبه ركضة، نبعت له عين ماء فشرب، ثم غارت (7) .

فدعاء الله وحده لا شريك له، دل الوحي المنزل، والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته، ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله. فتجد أكثر المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية (8) في حقهم، فأحدث الله لهم

(1) كذا في (ج د) : سكونه. وفي بقية النسخ: سكوته.

(2)

أي السبب: رضاعه من اللبن. وفي المطبوعة: قال: كان لأجل ارتضاعه اللبن. وهو تفسير للعبارة.

(3)

كذلك: ساقطة من (أط) .

(4)

ساق ابن كثير هذه القصة مسندة من عدة طرق عن أناس من الصحابة وغيرهم شهدوا هذه الواقعة، منهم: أنس بن مالك. انظر: البداية والنهاية (6 / 259، 260) .

(5)

نفس المرجع السابق.

(6)

هو: أيوب بن أبي تيمية، كيسان السختياني، أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد. توفي سنة (131 هـ) ، وأخرجه له الستة.

انظر: تقريب التهذيب (1 / 89) ، (ت 688) .

(7)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3 / 5) .

(8)

في (ط) : منفعة.

ص: 237

تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه، على وجه يوجب العلم تارة، والظن الغالب أخرى - أن الدعاء كان هو السبب في هذا، وتجد هذا ثابتًا عند ذوي (1) العقول والبصائر، الذين يعرفون جنس الأدلة، وشروطها، واطرادها.

وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة، فعامته إنما نجد اعتقاده، عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره، ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد، وإنما يتفق (2) في أهل الظلمات، من الكفار والمنافقين، أو ذوي (3) الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي حتى لا يميزوا بين الحق والباطل.

وبالجملة: فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض (4) السبب، أو شرط السبب، في هذا الأمر الحادث، قد يعلم كثيرًا، وقد يظن كثيرًا، وقد يتوهم كثيرًا وهمًا ليس له مستند صحيح، إلا ضعف العقل.

ويكفيك أن كل ما يظن أنه سبب لحصول المطالب (5) مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره، لا بد فيه من أحد أمرين:

إما أن لا (6) يكون سببًا صحيحًا، كدعاء من لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئًا. وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه.

فأما ما كان سببًا صحيحًا منفعته أكثر من مضرته، فلا ينهى عنه الشرع (7) بحال. وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه

(1) في (ط) : ذي.

(2)

في المطبوعة: يقع.

(3)

في (أ) : لذوي.

(4)

في (أ) : أو خص السبب. وهو تحريف لـ (بعض) .

(5)

في (ج د) : المصائب.

(6)

لا: سقطت من (ب) .

(7)

في (ب) : في الشرع.

ص: 238