الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسنة رسوله، فهمه من فهمه، وحرمه من حرمه.
وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي بعث الله به (1) رسوله، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية، والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه: كالتغيير ونحوه، من السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد، لفّقها بعض الناس. أو في قدره: كزيادات من التعبدات، أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها، وإن كان كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء (2) معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد.
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح، وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده، بل قد يكون صدّيقا عظيما، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا، وعمله كله سنة، إذ كان يكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا باب واسع.
والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها، لا يتسع له هذا الكتاب، وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح، الذي ذكرناه (3) والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع، مما يجب العمل بها.
[الثاني اشتمالها الفساد في الدين]
والوجه الثاني (4) في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين. واعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد.
(1) في (أب ط) : بعث به الرسول.
(2)
في المطبوعة زاد: قد يكون.
(3)
يعني رحمه الله حديث مسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث) إلى قوله: (وكل بدعة ضلالة) ، الذي أورده في أول الفصل، ثم أخذ في الرد على الشبه والمعارضات التي أثارها المخالفون.
(4)
الوجه الأول مر (ص82) .
والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فننبه على بعض مفاسدها، فمن ذلك:
أن من أحدث عملا في يوم: كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك (1) الجمعة، التي يسميها الجاهلون:"صلاة الرغائب"(2) مثلا. وما يتبع ذلك، من إحداث أطعمة وزينة، وتوسيع في النفقة، ونحو ذلك؛ فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب. وذلك لأنه لا بد (3) أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله وبعده مثلا، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجمع، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا، وسائر الليالي عموما، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع.
وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم، ونص على تأثيره فهو من المعاني المناسبة المؤثرة، فإن مجرد المناسبة مع الاقتران، يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم (4) كثير من الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم. ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفي بمجرد المناسبة، حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم، وهو قول كثير من الفقهاء أيضا، من أصحابنا وغيرهم. وهؤلاء إذا رأوا الحكم المنصوص فيه معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر، عللوا ذلك الحكم المنصوص به.
(1) تلك: ساقطة من (ط) .
(2)
سيأتي الكلام عنها عندما يتعرض لها المؤلف مع غيرها من البدع الزمانية التي استحدثها الناس (ص121) .
(3)
في (ب) : وذلك ولا بد.
(4)
في (ب) : وهو.
وهنا قول ثالث قاله كثير من الفقهاء من أصحابنا، وغيرهم أيضا. وهو: أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به، ولا يكتفى بكونه علل به (1) نظيره أو نوعه.
وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة: أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم، ودل على علته، كما قال (2) في الهرة:«إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (3) فهذه العلة تسمى المنصوصة، أو المومى إليها، علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث، وإن اختلفوا: هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى؟
ومثاله في كلام الناس، ما لو قال السيد لغلامه: لا تدخل داري فلانا، فإنه مبتدع، أو فإنه أسود، ونحو ذلك، فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا، أو من كان أسود، وهو نظير أن يقول: لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود. ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الأيمان، فلو قال: لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي (4) حنث بما كانت منته مثل منته، وهو يمنه (5) ونحو ذلك.
(1) في (أ) : علل نظيره.
(2)
في (ب) : كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، الحديث رقم (75) ، (1 / 60) ، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، الحديث رقم (92) ، (1 / 153، 154)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة، الحديث رقم (367) ، (1 / 131) ، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الوضوء باب الرخصة في الوضوء بسؤر الهرة، الحديث رقم (104) ، (1 / 55)، وقال المعلق (الأعظمي) :(إسناده صحيح) .
(4)
في المطبوعة زاد: فلان.
(5)
في المطبوعة: وهو ثمنه.
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته، لكن قد ذكر علة نظيره، أو نوعه. مثل: أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها. وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة، فهل (1) يعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر -مثلا-؟ كما أن ولاية المال كذلك، أم نقول: بل قد يكون للنكاح علة أخرى، وهي البكارة، -مثلا-؟ فهذه العلة هي المؤثرة، أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص، وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم. فالفريقان الأولان يقولان بها، وهو في الحقيقة إثبات للعلة (2) بالقياس، فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان، كذلك يؤثر في هذا المكان.
والفريق الثالث لا يقول بها، إلا بدلالة خاصة، لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة. ومن هذا النوع: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يستام (3) الرجل على سوم أخيه، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه (4) . فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين، كما علل به في قوله: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك
(1) في (أ) : فهلا.
(2)
في (ج د) : العلة.
(3)
في المطبوعة: يسوم.
(4)
ورد في ذلك أحاديث كثيرة، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه. .) الحديث رقم (2140) من فتح الباري (4 / 353) . وجاء النهي عن هذه الأمور في أحاديث في صحيح مسلم. انظر: الحديث رقم (1412) عن ابن عمر، الحديث رقم (1515) ، عن أبي هريرة (3 / 1154، 1155) ، وكلها بروايات وألفاظ متعددة.
قطعتم أرحامكم» (1) وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه، ما لا يظهر في الأول، فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا.
والسبر دليل خاص على العلة، ونظيره من كلام الناس أن يقول: لا تعط هذا الفقير؛ فإنه مبتدع، ثم يسأله فقير آخر مبتدع، فيقول: لا تعطه، وقد (2) يكون ذلك الفقير عدوًا له (3) فهل يحكم بأن العلة هي البدعة، أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة؟ .
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم، ورأينا فيه وصفا مناسبا له، لكن الشارع لم يذكر تلك العلة، ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر، فهذا هو الوصف المناسب الغريب؛ لأنه لا نظير له في الشرع، ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه. فيجوز اتباعه الفريق الأول. ونفاه الآخران، وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه، كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه. والأول إدراك لعلته بنفس كلامه. ومع هذا: فقد تعلم علة الحكم المعين بالسبر (4) وبدلالات أخرى.
(1) أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، صدر هذا الحديث:(لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، الحديث رقم (1408) ، رقم (37) من كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (2 / 1029) من طرق وألفاظ متعددة.
(2)
وقد: سقطت من (أب ط) .
(3)
من هنا حتى قوله: ورأينا فيه وصفًا مناسبًا (سطر ونصف تقريبًا) : سقطت من (ط) .
(4)
في المطبوعة: بالصبر. ولعله خطأ مطبعي. والسبر: قال في القاموس المحيط: (السبر امتحان غور الجرح، وغيره)، فالسبر هو: الاختبار والمتابعة. والأصوليون يعرفون السبر والتقسيم بقولهم: (حصر الأوصاف وإبطال ما لا يصلح) . انظر: القاموس المحيط، فصل السين، باب الراء (2 / 45) ، وشرح الكوكب المنير (ص308) .
فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع، المؤثرة في موضع آخر. وذلك:"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام، وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص". فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تخصوا (1) ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (2) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا يومًا قبله أو (3) بعده» (4) وهذا لفظ البخاري.
وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا. قال: فأفطري» (5) .
وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر (6) قال: "سألت جابر بن
(1) في مسلم: لا تختصوا.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، الحديث تابع رقم (1144) ، ورقم (148) من كتاب الصيام (2 / 801) .
(3)
في المطبوعة: أو يومًا بعده. لكنه في البخاري كما أثبته من النسخ الأخرى.
(4)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، الحديث رقم (1985)، (4 / 232) من فتح الباري. وانظر: صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، الحديث رقم (1144) ، (2 / 801) .
(5)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، الحديث رقم (1986) ، (4 / 232) من فتح الباري.
(6)
هو: محمد بن عباد بن جعفر بن رفاعة بن أمية، المخزومي، المكي، ثقة أخرج له الستة، من الطبقة الثالثة. انظر: تقريب التهذيب (2 / 174) ، (ت347) .
عبد الله، وهو يطوف بالبيت: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم ورب هذا البيت"؛ وهذا (1) لفظ مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده» رواه الإمام أحمد (2) .
ومثل هذا ما (3) أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم (4) أو يومين، إلا أن يكون رجل كان (5) يصوم صومه (6) فليصم ذلك اليوم» (7) . اللفظ للبخاري (8) . أي يصوم عادته.
فوجه الدلالة: أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام:
* قسم شرع تخصيصه بالصيام: إما إيجابًا كرمضان، وإما استحبابًا: كيوم عرفة وعاشوراء.
* وقسم نهى عن صومه مطلقًا: كيوم العيدين.
(1) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، الحديث رقم (1143) ، (2 / 801)، وانظر: صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، الحديث رقم (1984) ، (4 / 232) من فتح الباري.
(2)
مسند الإمام أحمد (1 / 288) .
(3)
ما: ساقطة من (أ) .
(4)
في (أ) : بصوم ولا يومين، وهو خلط من الناسخ.
(5)
كان: سقطت من (د) .
(6)
هذا لفظ البخاري (صومه) . وفي (ب د) وفي المطبوعة: صومًا.
(7)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، الحديث رقم (1914) ، (4 / 127 ـ 128) من فتح الباري.
(8)
في المطبوعة: قال: لفظ البخاري: (يصوم عادته) وهذا خطأ في سياق العبارة. والصحيح ما أثبته.
* وقسم إنما نهي عن تخصيصه: كيوم الجمعة، وسرر (1) شعبان.
فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره، فإذا خصص بالفعل نهي عن ذلك، سواء قصد الصائم التخصيص أو (2) لم يقصده، وسواء اعتقد الرجحان، أو لم يعتقده.
ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره، لكان إما أن ينهى عنه مطلقًا: كيوم العيد، أو لا ينهى عنه كيوم عرفة (3) وعاشوراء (4) وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات (5) وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة.
فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص ما لا خصيصة له، كما أشعر به لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن نفس الفعل المنهي عنه، أو المأمور به، قد يشتمل على حكمة الأمر أو النهي، كما في قوله:«خالفوا المشركين» (6) .
فلفظ النهي عن الاختصاص لوقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص. فإذا كان يوم الجمعة يومًا فاضلًا، يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة ما لا يستحب في غيره-كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره (7) ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره، لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التخصيص دفعًا لهذه المفسدة، التي لا تنشأ إلا من التخصيص.
(1) سرر شعبان: أواخره أو آخر ليلة منه. انظر: مختار الصحاح، مادة (سرر) ، (ص295) .
(2)
من هنا حتى قوله: (دون غيره) بعد سطرين تقريبًا، سقط من (أ) .
(3)
يوم عرفة: سقطت من (ج ط) .
(4)
وعاشوراء: سقطت من (أ) والمطبوعة.
(5)
في (ب) : الآفات.
(6)
الحديث مر: انظر: فهرس الأحاديث.
(7)
في (أ) : زاد: كان. وهو خلط من الناسخ.
وكذلك تلقي رمضان، قد يتوهم أن فيه فضلًا، لما فيه من الاحتياط للصوم، ولا فضل فيه في الشرع، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقيه لذلك.
وهذا المعنى موجود في مسألتنا، فإن الناس قد (1) يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة. ومتى كان تخصيص الوقت بصوم، أو بصلاة، قد يقترن باعتقاد فضل ذلك، ولا فضل فيه، نهي عن التخصيص، إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص.
ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا (2) أخصها، فلا بد أن يكون باعثه: إما موافقة (3) غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب.
فالداعي (4) إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك الاعتقاد الفاسد (5) أو باعثًا آخر غير ديني، وذلك الاعتقاد ضلال. فإنا قد علمنا يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، لم يذكروا في فضل هذا اليوم والليلة ولا في فضل صومه بخصوصه، وفضل قيامها بخصوصها حرفًا واحدًا. وأن الحديث المأثور فيها موضوع، وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة، ولا يجوز -والحال هذه- أن يكون لها فضل، لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه ولا التابعون، ولا سائر الأئمة، امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله ما لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعون وسائر الأئمة.
(1) قد: سقطت من (أد ط) .
(2)
في (ج) : فإذا خصها.
(3)
في المطبوعة: تقليد.
(4)
في (أ) : كالداعي.
(5)
في (أب) : الاعتقاد فاسدًا.
وإن علموه امتنع، مع توفر دواعيهم على العمل الصالح، وتعليم (1) الخلق، والنصيحة لهم-: أن لا يعلموا أحدًا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم. فإذا كان هذا الفضل المدعى، مستلزمًا لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله، أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم، أن لا يكتموه ولا يتركوه، وكل واحد من اللازمين منتف: إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع- علم انتفاء الملزوم، وهو الفضل المدعى.
العمل المبتدع -كالأعياد المحدثة- يستلزم لاعتقاد ضلال وفعل ما لا يجوز ثم هذا العمل المبتدع مستلزم: إما لاعتقاد هو ضلال في الدين، أو عمل دين لغير الله سبحانه، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، أو التدين لغير الله- لا يجوز.
فهذه البدع -وأمثالها- مستلزمة قطعًا، أو ظاهرًا لفعل ما لا يجوز. فأقل أحوال المستلزم -إن لم يكن محرمًا- أن يكون مكروهًا، وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة. ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب: من التعظيم، والإجلال، وتلك الأحوال أيضًا باطلة، ليست من دين الله.
ولو فرض أن الرجل قد يقول: أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه، من التعظيم والإجلال، والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد، ولو أنه وهم، أو ظن أن هذا أمر ضروري، فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنع مع ذلك أن تعظمه، ولكن قد تقوم بها خواطر متقابلة. فهو من (2) حيث اعتقاده أنه بدعة، يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه. ومن حيث شعوره بما روى فيه، أو بفعل الناس له، أو بأن فلانًا وفلانًا (3) فعلوه، أو بما يظهر له فيه من المنفعة- يقوم بقلبه
(1) في (أ) : وتعلم.
(2)
من: ساقطة من (أ) .
(3)
في (أب) : زاد: وفلانًا. ثالثة.
عظمته (1) . فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله. وأنها تورث القلب نفاقًا، ولو كان نفاقًا خفيفًا.
ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل، أو عبد الله بن أبي (2) لرياسته وماله ونسبه، وإحسانه إليهم، وسلطانه عليهم، فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه، أو أمر بإهانته أو قتله، فمن لم يخلص إيمانه، وإلا يبقى (3) في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح، واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة (4) .
فمن تدبر هذا، علم يقينًا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر.
وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع، من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع -إذا جاز أن يتوهم لها مزية- كالصلاة عند القبور، أو الذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقدًا للمزية، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية، فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضًا.
فإن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم -مثلًا- فعلها قوم من أولي العلم والفضل، الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه: من طهارة قلبه ورقته، وزوال آصار الذنوب عنه، وإجابة دعائه، ونحو ذلك، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام، كقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10](5)
(1) في المطبوعة: بفعله وتعظيمه.
(2)
هو: عبد الله بن أبي ابن سلول، رأس المنافقين. مرت ترجمته. انظر: فهرس الأعلام.
(3)
في (ب) : فلا بد أن يبقى في قلبه منازعة.
(4)
الكاذبة سقطت من (ط) .
(5)
سورة العلق: الآيتان 9، 10.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة نور» (1) " (2) ونحو ذلك.
قلنا: لا ريب أن من فعلها متأولًا مجتهدًا أو مقلدًا كان له أجر على حسن قصده، وعلى عمله، من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدع مغفورًا له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين، وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها، إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه: كالصوم والذكر، والقراءة، والركوع، والسجود، وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه، وما اشتملت عليه من المكروه، انتفى موجبه بعفو الله عنه (3) لاجتهاد صاحبها (4) أو تقليده، وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة.
لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها، والاعتياض عنها بالمشروع، الذي لا بدعة فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضًا فوائد، وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما، مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لا بد أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء. ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم، أو نروي كلماتهم، لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة. فنحن نستدل
(1) في المطبوعة زاد: وبرهان. ولعلها زيادة من النساخ، فلم أجد الحديث بهذه الزيادة وإنما بلفظ:(الصلاة نور، والصدقة برهان) .
(2)
جاء ذلك في حديث رواه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، الحديث رقم (223) ، (1 / 203) ، وأحمد في المسند (5 / 343) . وأخرجه غيرهما أيضًا.
(3)
عنه: ساقطة من (أ) والمطبوعة.
(4)
في (ب) : صاحبه.
بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي.
وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض (1) ؛ لاجتهاد أو غيره، كما يزول إثم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يقتدى بمن استحلها، وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها. وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع (2) مشتملة على مفاسد اعتقادية، أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة.
ثم يقال على سبيل التفصيل: إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين (3) فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقدًا لكراهتها، وأنكرها قوم (4) إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها، فليسوا دونهم (5) . ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها. ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء (6) .
وأما ما فيها من المنفعة، فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع (7) الراجحة:
(1) في (ج) : لعارض.
(2)
في (ب ج د) : البدعة.
(3)
ودين: ساقطة من (أط) والمطبوعة.
(4)
في المطبوعة زاد: كذلك وهؤلاء التاركون والمنكرون.
(5)
في المطبوعة زاد: وغيَّر في العبارات هنا فقال: فليسوا دونهم في الفضل، ولو فرضوا دونهم في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إذن إلى الله والرسول. . إلخ.
(6)
في المطبوعة زاد: التاركين المنكرين: والإشارة في هؤلاء: إلى الذين كرهوا وأنكروا البدع في العبادات وغيرها.
(7)
البدع: ساقطة من (أ) .
منها: مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية: أن القلوب تستعذبها (1) وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة يحافظ عليها (2) ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس.
ومنها: أن الخاصة والعامة تنقص -بسببها- عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها، ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه (3) عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يفته هذا كله، فلا بد أن يفوته كماله.
ومنها: ما في ذلك من مصير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا (4) . وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشاء (5) زرع الجاهلية.
ومنها: اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل: تأخير الفطور، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة، والمبادرة إلى تعجيلها، والسجود بعد السلام لغير سهو، وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل
(1) في (ب د) : تستعد لها.
(2)
قوله: عليها ما لا يحافظ: سقطت من (ط) .
(3)
الإشارة إلى البدع التي هي موضوع الكلام هنا.
(4)
في المطبوعة زاد: وما يترتب على ذلك.
(5)
الانتشاء: من النشوة وهو النشاط. لذلك يقال للسكران إذا سكر: انتشى. وانتشى بالشيء: عاوده مرة بعد أخرى. انظر: القاموس المحيط، فصل النون، باب الواو والياء (4 / 398)، فالمقصود بانتشاء زرع الجاهلية: نشاطه وعودته بنشوة وقوة بعد ما انكمش بظهور الإسلام.
لها (1) إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته.
ومنها: مسارقة (2) الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري (3) رحمه الله: ما ترك أحد شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ومنها: ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين، النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه.
والكلام في ذم البدع لما كان مقررًا في هذا الموضع (4) لم نطل النفس في تقريره، بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم.
* * *
(1) في (ب ط) : له.
(2)
المسارقة هي: طلب الغفلة. قال في القاموس المحيط: (وهو يسارق النظر إليه، أي: يطلب غفلة لينظر إليه، وانسرق: فتر وضعف. وعنهم: خنس ليذهب) . القاموس المحيط، فصل السين، باب القاف (3 / 253) . والمقصود بمسارقة الطبع هنا: طلبه غفلة من القلب حين يغفل أو يضعف إيمانه، لأن الطبع ميال للانحلال ما لم يعتصم بتقوى الله ورجاء ثوابه وخوف عقابه.
(3)
هو: الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري، أبو عثمان، الصابوني الشافعي، حافظ واعظ مفسر، من أئمة السنّة، توفي سنة (449هـ)، وعمره (77) سنة. انظر: شذرات الذهب (3 / 282) ، والبداية والنهاية (12 / 76) .
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (11 / 445ـ 475) ، (20 / 103 ـ105) .