الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها]
[أقوال العلماء وبيان القول الصحيح وأدلته]
فصل فأما مقامات الأنبياء والصالحين، وهي الأمكنة التي (1) قاموا فيها، أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد؛ (2) فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين:
أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة، إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الأصطوانة (3) وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير (4) من ذلك، كما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سلكها اتفاقا لا قصدا. قال (5) سندي الخواتيمي: سألنا أبا عبد الله عن الرجل
(1) في (ب) : التي أقاموا فيها أو أقاموا، وهو تكرار للعبارة وأظنه من الناسخ.
(2)
من هنا حتى قوله: قال سندي (ستة سطور تقريبا) : سقطت من (أط) .
(3)
هي السارية، ويقال: إنها السارية المتوسطة من الروضة الشريفة. انظر: فتح الباري (1 / 577) .
(4)
في (ب) : بالتيسير.
(5)
في (أط) : فقال.
يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى. وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فليس بذلك بأس، أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا، وأكثروا فيه ".
وكذلك نقل عنه (1) أحمد بن القاسم: أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة، وغيرها، يذهب إليها؟ فقال:" أما على «حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا» ، وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه: كان (2) يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رئي أنه يصب في موضع ماء، فيسأل عن ذلك. فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب هاهنا ماء، قال: أما على هذا فلا بأس ". قال: ورخص فيه، ثم قال: " ولكن قد أفرط الناس جدا، وأكثروا (3) في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواهما الخلال في كتاب الأدب (4) .
فقد فصل أبو عبد الله رحمه الله في المشاهد، وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين، من غير أن تكون مساجد لهم، كمواضع بالمدينة (5) بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا، والكثير الذي يتخذونه عيدا، كما تقدم. وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة، فإنه قد روى البخاري في صحيحه، عن موسى بن عقبة قال: " رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم
(1) في (ب) : نقل عن أحمد بن القاسم.
(2)
كان: سقطت من (أط) .
(3)
في (أب ط) : وكثر في هذا المعنى.
(4)
لم أجد هذا الكتاب.
(5)
في (ط) : المدينة.
يصلي في تلك الأمكنة " قال موسى: " وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة " (1) فهذا كما رخص فيه أحمد رضي الله عنه.
وأما ما كرهه: فروى سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد، " عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا (2) هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض " (3) فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا.
وفي رواية عنه: " أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل،
(1) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حديث رقم (483) ، (1 / 567) من فتح الباري.
(2)
هكذا: ساقطة من (ط) .
(3)
لم أجده في القسم المطبوع من سنن سعيد بن منصور، وقد أشار ابن حجر في فتح الباري (1 / 569) أن ذلك ثابت عن عمر، وذكر القصة.
كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف، باب ما يقرأ في الصبح في السفر، عن معمر، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، ثم ذكر الأثر بتمامه مع اختلاف يسير في الألفاظ (1 / 118، 119) ، رقم (2734) .
ومن لا فليمض ولا يتعمدها " (1) .
وروى محمد بن وضاح (2) وغيره: أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم (3) لأن الناس كانوا يذهبون تحتها. فخاف عمر الفتنة عليهم (4) .
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد - فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة، ما عدا قباء وأحدا. ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها. فهؤلاء كرهوها مطلقا، لحديث عمر رضي الله عنه هذا، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا، وإلى التشبه بأهل الكتاب، (5) ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصار، أنه (6) كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر: كنز العمال (17 / 140) ، والتوسل والوسيلة، للمؤلف (ص 102)، وقال الشيخ:" صحيح الإسناد ".
(2)
هو: محمد بن وضاح القرطبي الحافظ، محدث الأندلس، صدوق ورأس في الحديث، لكنه كثير الأخطاء، فاضل ورع، توفي سنة (287هـ) وكانت ولادته سنة (191هـ) .
انظر لسان الميزان (5 / 416، 417) ، (ت 1372) ؛ وشذرات الذهب (2 / 194) .
(3)
في المطبوعة زاد: بيعة الرضوان.
(4)
أخرجه ابن سعد في الطبقات بسنده: " أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا عبد الله بن عون، عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها: شجرة الرضوان، فيصلون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأعدوهم فيها وأمر بها فقطعت "، الطبقات الكبرى (2 / 100) ، وذكره ابن حجر في الفتح، قال:" ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر "، ثم ذكره في فتح الباري (7 / 448) .
(5)
من هنا حتى قوله: واستحب آخرون (قدر ستة سطور تقريبا) : ساقط من (أط) .
(6)
في المطبوعة: أن أحدا منهم.
والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات.
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها، وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك، استحباب زيارة هذه المساجد وعدوا منها مواضع وسموها. وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم، كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات، وإن كانت بيوتهن خيرا لهن، إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار، واحتج بحديث ابن أم مكتوم.
ومثله: ما خرجاه في الصحيحين، «عن عتبان بن مالك (1) قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا. فقال:" أفعل إن شاء الله " فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، بعدما اشتد النهار، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى قال:" أين تحب أن أصلي من بيتكم (2) " فأشرت له إلى المكان الذي أحب
(1) هو الصحابي الجليل: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان، الأنصاري الخزرجي السالمي، ممن شهد بدرا، وهو إمام قومه بني سالم، توفي في خلافة معاوية.
انظر: الإصابة (2 / 452) ، (ت 5396) .
(2)
في المطبوعة: من بيتك، وكذلك في البخاري ومسلم.