الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك]
ومن أكابرهم: من (1) يقول: " (2) الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة "!
وهذا وأمثاله من الكفر (3) الصريح باتفاق علماء المسلمين، وهذه المسائل (4) التي تحتمل من البسط وذكر أقوال العلماء فيها ودلائلها أكثر مما كتبنا في هذا المختصر.
وقد كتبنا في (5) ذلك في غير هذا الموضع، ما لا يتسع له هذا الموضع، وإنما نبهنا هنا (6) على رؤوس المسائل، وجنس الدلائل، والتنبيه على مقاصد الشريعة (7) وما فيها من إخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وما سدته من الذريعة إلى الشرك، دقه وجله، فإن هذا هو أصل الدين، وحقيقة دين المرسلين (8) وتوحيد رب العالمين.
وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته (9) فطائفة: ظنت أن التوحيد هو نفي (10) الصفات، بل نفي الأسماء الحسنى أيضا، وسموا أنفسهم: أهل التوحيد (11)
(1) في المطبوعة: ومن أكابر شيوخهم.
(2)
في (ط) : أن الكعبة.
(3)
الكفر: ساقطة من (أ) .
(4)
في (ج د) : المسألة.
(5)
في (أط ج د) : من ذلك.
(6)
في (أ) : بها.
(7)
في (ط) : للشريعة.
(8)
في (ط) : المسلمين.
(9)
في المطبوعة زاد: في نفوسهم.
(10)
في (ب) : زاد: (أن) فقال: هو أن نفي.
(11)
من هؤلاء: الجهمية الذين نفوا الأسماء والصفات لله تعالى، ومثلهم القرامطة والباطنية، ومنهم المعتزلة حيث أثبتوا لله الأسماء، ونفوا عنه الصفات. انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف، الرسالة التدمرية (3 / 7 - 10) ، (ص99-100) .
وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق.
وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول: أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان، لا في الأعيان. وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه (تركيبا) وظنوا أن العقل ينفيه، كما قد كشفنا أسرارهم وبينا فرط جهلهم، وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع (1) .
وطائفة: ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأن الله خلق كل شيء، وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال (2) .
ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد (3) إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص (4) القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، (5) وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25]
(1) فصل المؤلف هذا الموضوع في الرسالة التدمرية، وقد طبعت مستقلة في كتاب، كما أنها توجد ضمن مجموع الفتاوى (3 / 1-128) .
(2)
وهم طوائف من الفلاسفة وأهل التصوف وعامة المتكلمين انظر: مجموع الفتاوى (3 / 97، 98) .
(3)
في (ب ج د) وفي المطبوعة: في تقرير هذا الموضع.
(4)
في (ب) : بعض.
(5)
من هنا حتى قوله: وأنه لا شريك له (سطر تقريبا) من (أ) .
(1)
وقال تعالى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85](2) الآيات، وقال (3) تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (4) . قال ابن عباس وغيره: " تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك (5) يعبدون غيره "(6) .
وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به (7) الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين (8) فلا يعبد إلا إياه (9) فيكون دينه كله لله.
والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب (10) غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (11) .
وقد بسطنا (12) الكلام على هذا في غير هذا الموضع (13)
(1) سورة لقمان: الآية 25.
(2)
سورة المؤمنون: الآيتان 84، 85.
(3)
في (أط) : وقد قال تعالى.
(4)
سورة يوسف: الآية106.
(5)
في (أط) وفي المطبوعة: مع هذا.
(6)
انظر: تفسير ابن جرير (13 / 50، 51) .
(7)
في المطبوعة: كل الواجب.
(8)
في المطبوعة زاد: والعبادة.
(9)
في المطبوعة زاد: ولا يعبده إلا بما شرع.
(10)
في (أط) : وحبه لغيره.
(11)
سورة الأنبياء: من الآية 22.
(12)
في (أ) : وقد سبق الكلام على هذا.
(13)
انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (1 / 20-62) .
وبينا أن هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله (1) من يقوله من أهل الكلام، من ذكر دليل التمانع (2) الدال على وحدانية الرب تعالى، فإن التمانع (3) يمنع وجود المفعول، لا يوجب فساده بعد وجوده، وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات، والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في العلل التي هي الغايات، كما في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة، كما قد بسط في غير هذا الموضع (4) .
ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف، ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر -لشمول القدر (5) لكل مخلوق- وكلماته الدينيات التي اختص (6) بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه.
فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين، الذين عبدوه وأطاعوا أمره، واتبعوا رسله.
(1) في (ب ج د) : من يقول.
(2)
في (ط) : الممانع، في الموضعين.
(3)
في (ط) : الممانع، في الموضعين.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى للمؤلف (14 / 29-34) .
(5)
في المطبوعة: القدرة.
(6)
في (ط) : اختص بها بموافقتها.
قال تعالى {أَمْ (1) نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28](2) وقال تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21](3) وقال تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36](4) .
ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه، وبين ما أمر به وأحبه (5) من الإيمان والأعمال الصالحة (6) وما (7) كرهه ونهى عنه وأبغضه: من الكفر والفسوق والعصيان مع شمول قدرته، ومشيئته، وخلقه لكل شيء، وإلا وقع في دين المشركين، الذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] (8) .
والقدر يؤمن به ولا يحتج به، بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب، ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب (9) كما قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] (10) ولهذا حج آدم موسى عليهما السلام، لما لام موسى (11) آدم لأجل المصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة، فذكر
(1) في (أط) : أفنجعل. وهو خطأ من النساخ.
(2)
سورة ص: الآية 28.
(3)
سورة الجاثية: الآية 21.
(4)
سورة القلم: الآيتان 35، 36. وفي المطبوعة: ذكر الآية الأولى فقط.
(5)
في المطبوعة: وأوجبه.
(6)
في (ط) وفي المطبوعة: الصالحات.
(7)
في المطبوعة: وبين ما كرهه.
(8)
سورة الأنعام: من الآية 148.
(9)
في (أ) : والمصايب.
(10)
سورة غافر: من الآية 55.
(11)
في (أط) : لآدم.
له آدم: «أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق. فحج آدمُ موسى» (1) كما قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22](2) وقال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11](3) قال بعض السلف: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى (4) ويسلم "(5) .
فهذا هو جهة (6) احتجاج آدم بالقدر، ومعاذ الله أن يحتج آدم - أو من هو دونه من المؤمنين- على المعاصي بالقدر، فإنه لو ساغ هذا لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن والإنس بذلك، ويحتج به قوم نوح وعاد وثمود، وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان، ولم يعاقب (7) أحد، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار شرعا وعقلا.
فإن (8) هذا القول لا يطرده أحد من العقلاء، فإن طرده يوجب (9) أن لا يلام أحد على شيء، ولا يعاقب عليه. وهذا المحتج بالقدر لو جنى عليه
(1) جاء ذلك في حديث في الصحيحين. انظر: صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد الحديث رقم (3409) ، (6 / 441) ، وصحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، الحديث رقم (2652) ، (4 / 2042 - 2044) .
(2)
سورة الحديد: الآية 22.
(3)
سورة التغابن: الآية 11.
(4)
في (ط) : فيسلم ويرضى.
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره عن علقمة. تفسير ابن جرير (28 / 80) .
(6)
في (أ) : وجهة. وفي المطبوعة: وجه.
(7)
في المطبوعة: ولم يعاقب ربنا أحدا.
(8)
في (أط) : بأن.
(9)
في (أط) : موجب.
جان (1) لطالبه، فإن كان القدر حجة للجاني عليه، وإلا فليس حجة لا لهذا ولا لهذا.
ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا، لم يمكن للناس (2) أن يعيشوا، إذا كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج بذلك، فيقبلوا عذره ولا يعاقبوه، ولا يمكن اثنان (3) من أهل هذا القول أن يعيشا (4) إذ لكل منهما أن يقتل الآخر، ويفسد (5) جميع أموره، محتجا على ذلك بالقدر.
ثم إن أولئك المبتدعين، الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه (6) متابعة الأمر، إذا حققوا القولين؛ أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق (7) والمخلوق، بل يقولون (8) بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد (9) القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد (10) الذين يعظمون الأصنام وعابديها، وفرعون وهامان وقومهما، ويجعلون وجود خالق الأرض والسماوات هو وجود كل شيء من الموجودات (11) ويدعون التوحيد والتحقيق
(1) في (أ) : كان.
(2)
في (أب ط) : الناس.
(3)
في المطبوعة: اثنين.
(4)
في (أط) : أن يعيشوا.
(5)
في (أ) : وفقد.
(6)
في (ب) : عن.
(7)
في (ب) : الخلائق. وهو خطأ؛ لأن الخلائق والمخلوق معناهما واحد، والكلام بصدد التفريق بين الخالق والمخلوق.
(8)
في (أب ط) : يقولوا.
(9)
في (ب) : الاتحاد.
(10)
والاتحاد: ساقطة من (ب) .
(11)
في (أط) : المخلوقات.
والعرفان، وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس (1) والبهتان.
يقول عارفهم: السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية -أي نظرا إلى الأمر- ثم يرى طاعة بلا معصية- أي نظرا إلى القدر- ثم لا طاعة ولا معصية- أي نظرا إلى أن الوجود واحد -ولا يفرقون (2) بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود.
والوجود ينقسم إلى: قائم بنفسه. وقائم بغيره، وواجب بنفسه، وممكن بنفسه. كما أن الحيوانات مشتركة في مسمى الحيوان، والأناسي يشتركون في مسمى الإنسان، مع العلم الضروري بأنه ليس عين وجود هذا الإنسان هو عين وجود هذا الفرس، بل ولا عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته هو عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته، لكن بينهما قدر مشترك تشابها (3) فيه، قد يسمى كليا (4) ومطلقا وقدرا مشتركا، ونحو ذلك، وهذا لا يكون في الخارج عن الأذهان كليا عاما مطلقا، بل لا يوجد إلا معينا مشخصا، فكل موجود فله ما يخصه من حقيقته، مما (5) لا يشركه فيه غيره، بل ليس بين موجودين في الخارج شيء بعينه اشتركا فيه، ولكن تشابها؛ ففي هذا نظير ما في هذا، كما أن هذا نظير هذا، وكل منهما متميز (6) بذاته وصفاته عما سواه، فكيف الخالق سبحانه وتعالى؟
وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع البسط الذي يليق
(1) في (أ) : والتلفيق، بدل: والتلبيس.
(2)
في (ب) : ولا فرق. وفي المطبوعة: ولا يفرق.
(3)
في (أط) : مشابها. وفي (ب) : مشبها.
(4)
في (ج د) وفي المطبوعة: كليا مطلقا.
(5)
في (ب) : بما.
(6)
في (أب ط) : مميزه.
به (1) فإنه مقام زلت فيه أقدام، وضلت فيه أحلام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات، والخلق والأمر؛ فيميز (2) بين المأمور المحبوب (3) المرضي لله، وبين غيره، مع شمول القدر لهما، وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته للمخلوقات، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما نبه على ذلك في سورتي الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]
فإن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن، إذ كان القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي؛ لأن القرآن كلام الله. والكلام: إما إنشاء، وإما إخبار، والإخبار: إما عن الخالق، وإما عن المخلوق.
والإنشاء: أمر ونهي وإباحة.
فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها ثلث التوحيد، الذي هو خبر عن الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«قل هو الله أحد (4) تعدل ثلث القرآن» (5)
(1) في (ب ط) : فيه.
المؤلف رحمه الله بحث هذا الموضوع بحثا شافيا في مواضع كثيرة. انظر: مجموع الفتاوى (3 / 32، 33، 75-78، 188-193) ، و (5 / 105، 210- 212، 327- 364) ، و (9 / 45، 46) ، و (11 / 141-145) ، و (20 / 423- 450) .
(2)
في (ب د ط) : فميز.
(3)
في (أب) : والمحبوب.
(4)
قل هو الله أحد: سقطت من (أ) .
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الإخلاص، الحديث رقم (2899) ، (5 / 168)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح". وانظر: سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب في سورة الصمد، الحديث رقم (1461) ، (2 / 152) ، وسنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن، الحديث رقم (3787) ، (2 / 1244) ، وصحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد، الحديث رقم (5013) ، (9 / 58، 59) .
وعدل (1) الشيء -بالفتح- يكون: ما سواه، من غير جنسه، كما قال تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95](2) وذلك يقتضي: أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر، ولا يكون مثله في الصفة، كمن معه ألف دينار وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما.
ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن، ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا، كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع، إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص.
وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها التوحيد القولي العملي، الذي تدل عليه الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]
وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع (3) .
وسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فيها التوحيد القصدي العملي، كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] وبهذا (4) يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره وإن كان كلاهما (5) يقر بأن الله رب كل شيء (6) ويتميز
(1) في (أ) : وهذا الشيء.
(2)
سورة المائدة: من الآية95.
(3)
للمؤلف رسالة مستقلة في تفسير سورة الإخلاص.
(4)
في (أ) : ولهذا.
(5)
في المطبوعة: كل واحد منهما.
(6)
في المطبوعة: ومليكه.
عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه، ممن عبد غيره وأشرك به، أو نظر إلى القدر الشامل لكل شيء، فسوى بين المؤمنين والكفار، كما كان يفعل المشركون من العرب.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنها براءة من الشرك» (1) .
وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها إثبات الذات، وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق، الأحد الصمد، عن المعطلين له بالحقيقة، نفاة الأسماء والصفات، المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود، وإن كان في الباطن يقر به، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] (2) وقال موسى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102](3) .
والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات. ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية، فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، يقولون ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا (4) .
فإذا أرادوا إثباته قالوا: وجود مطلق بشرط النفي، أو بشرط الإطلاق، (5) وهم
(1) جاء ذلك في حديث أخرجه الترمذي في كتاب الأدب، باب (22) ، الحديث رقم (3403) ، (5 / 474) ، وقد ذكره من طرق وذكر ما يفيد صحة بعضها.
وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، الحديث رقم (5055) ، (5 / 303) ؛ وأحمد في المسند (5 / 456) ؛ والدرامي في كتاب فضائل القرآن، باب فضل (قل يا أيها الكافرون)(2 / 458، 459) .
(2)
سورة النمل: من الآية 14.
(3)
سورة الإسراء: الآية 102.
(4)
ليس كذا- الثالثة-: سقطت من (د) .
(5)
بشرط الإطلاق: سقطت من (أط) .
يقرون في منطقهم اليوناني: أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج، فليس في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق، ولا موجود مطلق بشرط الإطلاق، بخلاف المطلق لا بشرط الذي يطلق على هذا وهذا، وينقسم إلى هذا وهذا، فإن هذا يقال: إنه في الخارج لا يكون إلا معينا (1) مشخصا (2) أو يقولون إنه الوجود المشروط بنفي كل ثبوت عنه (3) فيكون مشاركا لسائر الموجودات في مسمى الوجود، متميزا عنها بالعدم.
وكل موجود متميز بأمر ثبوتي، والوجود خير من العدم (4) فيكون أحقر الموجودات خيرا من هذا (5) الذي ظنوه وجودا واجبا، هذا إذا أمكن تحقيقه في الخارج، فكيف (6) وذلك ممتنع؛ لأن المتميز بين الموجودين لا يكون عدما محضا، بل لا يكون إلا وجودا؟
فهؤلاء الذين يدعون أنهم أفضل المتأخرين، من الفلاسفة المشائين (7) يقولون: في وجود واجب الوجود، ما يعلم بصريح المعقول الموافق لقوانينهم المنطقية: أنه قول بامتناع الوجود الواجب (8) وأنه جمع بين النقيضين، وهذا
(1) في (أط) : إلا معنى.
(2)
من هنا حتى قوله: فهؤلاء الذين يدعون (خمسة أسطر تقريبا) : ساقطة من (أط) .
(3)
في المطبوعة: عنه منه.
(4)
في (ب) : من المعدم.
(5)
ما بين الرقمين ساقط من المطبوعة. وقال بدله: خير من العدم. ثم قال: وذلك ممتنع. .إلخ.
(6)
ما بين الرقمين ساقط من المطبوعة. وقال بدله: خير من العدم. ثم قال: وذلك ممتنع. .إلخ.
(7)
المشاء: الكثير المشي، والمشائي هو: الأرسطي، فالمشاؤون هم: أتباع أرسطو، سموا بذلك لأن أرسطو كان يعلم تلاميذه ماشيا، وهم يمشون. انظر: المعجم الفلسفي لجميل صليبا (2 / 373) ، باب الميم.
(8)
في المطبوعة: الوجود الواجب الوجود.
في غاية الجهل والضلال.
وأما الرسل صلوات الله عليهم: فطريقتهم طريقة القرآن، قال سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182](1) .
والله تعالى يخبر في كتابه أنه: حي، قيوم، عليم، حكيم، غفور، رحيم، سميع، بصير، علي، عظيم، خلق (2) السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا، يرضى عن المؤمنين، ويغضب على الكافرين (3) إلى أمثال ذلك من الأسماء (4) والصفات.
ويقول في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11](5){وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4](6){هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65](7){فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22](8) فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدسة، المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في شيء من صفاته ولا أفعاله:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 43 - 44](9) .
فالمؤمن يؤمن بالله، وما له من الأسماء الحسنى، ويدعوه بها، ويجتنب
(1) سورة الصافات: الآيات 180- 182.
(2)
في (ب) : خالق.
(3)
في (أ) : الكافر.
(4)
الأسماء: ساقطة من (ج د) .
(5)
سورة الشورى: من الآية 11.
(6)
سورة الإخلاص: الآية 4.
(7)
سورة مريم: من الآية 65.
(8)
سورة البقرة: من الآية 22.
(9)
سورة الإسراء: الآيتان 43، 44.
الإلحاد في أسمائه وآياته، قال تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] (1) وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40](2) وهو يدعو الله وحده، ويعبده وحده (3) لا يشرك بعبادة ربه أحدا، ويجتنب طريق المشركين الذين قال الله تعالى فيهم {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] (4) .
وهذه جمل لها تفاصيل، ونكت تشير إلى خطب جليل.
فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والإيمان، وليتخذ الله هاديا ونصيرا، وحاكما (6) ووليا، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكفى بربك هاديا ونصيرا. وإن أحب دعا (7) بالدعاء الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق
(1) سورة الأعراف: من الآية 180.
(2)
سورة فصلت: من الآية 40.
(3)
في (ب) زاد: لا شريك له.
(4)
سورة الإسراء: الآيتان 56، 57.
(5)
سورة سبأ: الآيتان 22، 23.
(6)
من هنا حتى قوله: وإن أحب (سطر تقريبا) : سقط من (أب ط) .
(7)
في (أب ط) : وإن أحب دعاء فالدعاء الذي رواه مسلم.
بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (1) وذلك أن الله تعالى يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213](2) أي: فاختلفوا، كما في سورة يونس (3) وقد قيل: إنها كذلك في حرف عبد الله (4){فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213](5)
(1) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، الحديث رقم (770) ، (1 / 534) .
(2)
سورة البقرة: من الآية 213.
(3)
يشير إلى قوله تعالى: " وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا " سورة يونس: الآية 19، وقد أثبتها في المطبوعة في المتن، لكن النسخ المخطوطة لم تذكرها كما هو مثبت.
(4)
يعني في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: تفسير ابن جرير (2 / 194، 195) .
(5)
سورة البقرة: الآية 213.