المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور] - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في مفهوم العيد والحذر من التشبه بالكفار في أعيادهم]

- ‌[فصل في أعياد الكفار]

- ‌[بعض ما يفعله الناس من المسلمين من البدع في ذلك]

- ‌[النهي عن فعل ما يعين الكفار في أعيادهم]

- ‌[بيع الدار ونحوها للذمي وإجارتها له]

- ‌[ابتياع الذمي أرض العشر من مسلم]

- ‌[استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع للكنيسة]

- ‌[قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم]

- ‌[ذبيحتهم يوم عيدهم وأنواع ذبائح أهل الكتاب]

- ‌[ما ذبح على النصب]

- ‌[ذبائح الجن المزعزمة]

- ‌[عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب]

- ‌[فصل في صوم أيام عيد الكفار]

- ‌[فصل في صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين]

- ‌[فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة]

- ‌[ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر لوجهين]

- ‌[الأول دخول سائر الأعياد والمواسم المبتدعة في مسمى البدع المحدثات]

- ‌[الثاني اشتمالها الفساد في الدين]

- ‌[فصل في الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[أنواع الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[فصل في الأعياد المكانية المبتدعة]

- ‌[فصل في أنواع الأعياد المكانية]

- ‌[النوع الأول مكان لا خصوص له في الشريعة]

- ‌[بعض الأمكنة والقبور التي ابتدعها الناس]

- ‌[فصل في النوع الثاني من الأمكنة]

- ‌[النوع الثاني ما له خصيصة لا تقتضي اتخاذه عيدا]

- ‌[إطلاق العيد على المكان الذي يقصد الاجتماع فيه]

- ‌[ما يتصل بالقبور من زيارتها والصلاة عندها واتخاذها مساجد والبناء عليها]

- ‌[أنواع من المحرمات]

- ‌[الدعاء عند القبور]

- ‌[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور]

- ‌[أثر العبادة والدعاء عند القبور ليس دليلا على استحسانها]

- ‌[أنواع الشرك]

- ‌[الدعاء بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر]

- ‌[تفنيد ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر]

- ‌[بعض بدع القبور]

- ‌[فصل في عدم جواز سائر العبادات عند القبور]

- ‌[فصل في العكوف عند القبور ومجاورتها وسدانتها]

- ‌[فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها]

- ‌[أقوال العلماء وبيان القول الصحيح وأدلته]

- ‌[الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها]

- ‌[الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم]

- ‌[التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة]

- ‌[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم]

- ‌[المساجد التي تشد إليها الرحال]

- ‌[فصل في المسجد الأقصى]

- ‌[فصل في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد]

- ‌[أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك]

- ‌[أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب]

- ‌[أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع]

- ‌[غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك]

- ‌[الخاتمة]

الفصل: ‌[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور]

فإنه يدعو عنده، وذكر بعضهم أنه من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له. وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر: أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها، فجازت القراءة (1) كغيرها.

وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة، كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي (2) وغيره.

وقد أدركنا في أزماننا وما قاربها من ذوي الفضل (3) علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها أو العكوف عليها، وفيهم من كان بارعا في العلم، وفيهم من كان له (4) كرامات، فكيف يخالف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق (5) العلم والدين، لأنه غاية ما يتمسك به المقبريون (6) .

[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور]

قلنا: الذي ذكرنا كراهته، لا ينقل في استحبابه - فيما علمناه - شيء

(1) في المطبوعة: فجازت القراءة عندها كغيرها.

(2)

هو: عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي، ثم المقدسي، ثم الدمشقي، أبو الفرج، الحنبلي، الفقيه الزاهد، شيخ الشام في وقته، له مصنفات في الفقه والأصول، منها: التبصرة في أصول الدين، والمبهج، والإيضاح، وغيرها. توفي سنة (486هـ) .

انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (1 / 68 - 73) .

(3)

في المطبوعة زاد: عند الناس.

(4)

في المطبوعة زاد أيضا: عند الناس.

(5)

في المطبوعة: عن طريق أهل العلم.

(6)

في المطبوعة: القبوريون، كذا تكررت في مواضع كثيرة ستأتي، في حين أنها في جميع النسخ المخطوطة، وفي كل المواطن التي أوردها المؤلف يقول:" المقبريون " و " المقابريون " كما هو مثبت، ولم ترد بلفظ " القبوريون "، إلا في المطبوعة. ولعله تصرف من أحد النساخ أو المصحح للمطبوعة.

ص: 204

ثابت، عن القرون الثلاثة التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم (1) عليها حيث قال:«خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (2) مع شدة المقتضي فيهم (3) لذلك (4) لو كان فيه فضيلة، فعدم (5) أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو كان فيه فضل يوجب (6) القطع بأن لا فضل فيه.

وأما من بعد هؤلاء، فأكثر ما يفرض: أن الأمة اختلفت، فصار كثير من العلماء أو الصديقين إلى فعل (7) ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد أجمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين:

أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره، قديما وحديثا.

الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون، ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم: هو الكتاب والسنة،

(1) في المطبوعة: أثنى عليها رسول الله.

(2)

هذا حديث متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب وباب فضائل أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم، حديث رقم (3650) ، من فتح الباري، (7 / 3) ولفظه " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " الحديث. وأخرجه مسلم في كتاب وباب فضائل الصحابة، حديث رقم (2533، 2534، 2535) ، بلفظ البخاري. وباللفظ الذي أشار إليه المؤلف، لكن قال فيه الراوي:" والله أعلم أذكر الثالثة أم لا " يعني بعد قوله: " ثم الذين يلونهم "(4 / 1962 - 1964) .

(3)

في المطبوعة: عندهم.

(4)

في (أ) : كذلك.

(5)

في (أط) : بعدم.

(6)

في (ط) : موجب.

(7)

فعل: ساقطة من (ط) .

ص: 205

وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا، فكيف (1) - والحمد لله - لا ينقل هذا عن إمام معروف، ولا عالم متبع؟

بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال:" إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب " أو كلاما هذا معناه. وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له (2) معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين، أفضل من أبي حنيفة، وأمثاله من العلماء. فما باله لم يتوخَّ الدعاء إلا عنده (3) ؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه، مثل أبي يوسف ومحمد (4) وزفر (5) والحسن بن زياد (6) وطبقتهم، لم يكونوا يتحرون الدعاء، لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره.

(1) في المطبوعة: فكيف وهذا - والحمد لله - لم ينقل هذا عن إمام.

(2)

في المطبوعة: عند من له أدنى معرفة.

(3)

في المطبوعة: إلا عند قبر أبي حنيفة.

(4)

هو: محمد بن الحسن الشيباني. مرت ترجمته. انظر فهرس الأعلام.

(5)

هو: زفر بن الهذيل بن قيس البصري، من كبار تلاميذ أبي حنيفة، وكان هو المقدم في مجلسه، جمع بين الفقه والعبادة. توفي سنة (158هـ) ، وكانت ولادته سنة (110هـ)، وهو في الحديث صدوق. انظر: لسان الميزان (2 / 476) ، (ت 1919) .

انظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي (ص 75 - 77) .

(6)

هو: الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي، صاحب أبي حنيفة، كان فقيها فطنا، ولي القضاء بالكوفة، وهو في الحديث ليس بشيء، بل اتهمه كثير من أئمة الحديث بالكذب، مات سنة (204هـ) . انظر لسان الميزان (2 / 208، 209) ، (ت 927) ؛ والفوائد البهية في تراجم الحنفية (ص 60، 61) .

ص: 206

ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين (1) خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه.

وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة (2) أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى، لما جاز التمسك بها حتى تثبت. فكيف بالمنقول عن غيره؟

ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله، باجتهاد يخطئ ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي (3) فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة (4) التي يفعلونها، من حجها للصلاة عندها، والاستغاثة (5) بها.

ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه (6) مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس - من غير نقل عن الأنبياء - (7) النصارى وأمثالهم.

وإنما المتبع في إثبات أحكام الله (8) كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل

(1) في المطبوعة: الصالحين.

(2)

المسيبة أي: المهملة السند التي لا أصل لها.

(3)

في المطبوعة: النهي عنها.

(4)

في (أ) : الزيادة.

(5)

في (أ) : والاستعانة.

(6)

في المطبوعة: وتركه لها.

(7)

في المطبوعة: عن أبناء النصارى، والمقصود من كلام المؤلف: أن النصارى وأمثالهم كغلاة المتصوفة والمقبريين هم الذين يثبتون العبادات ويبتدعونها بالحكايات والمنامات والمقاييس والأوهام، وهذه طرق باطلة.

(8)

في المطبوعة: وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله.

ص: 207

السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصا واستنباطا بحال.

والجواب عنها من وجهين: مجمل ومفصل.

* أما المجمل: فالنقض: فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير، بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه، فليطرد الدليل (1) . وذلك (2) كفر متناقض.

ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون، عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعا، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد.

فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه - دون ما ينفونه -، بضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد (3) إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا، لم يكن تأثره مثل تأثر الحسن (4)

(1) نعم، إن الاستجابة في هذه الحال ليست دليلا؛ لأنها قد تكون ابتلاء، وقد تكون من باب تعجيل النعيم في الدنيا وتأخير العذاب في الآخرة، أو غير ذلك. ومع هذا فالاستجابة لأمثال هؤلاء نادرة كما سيبين المؤلف بعد قليل.

(2)

في (ط) : وهذا.

(3)

في (د) : الوالد، وهو تحريف.

(4)

في (ب) : حسن الظن، وفي المطبوعة: من حسن الظن.

ص: 208

الظن بواحد دون آخر. وهذه كلها من خصائص الأوثان.

ثم قد استجيب لبلعم بن باعور (1) في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان. والمشركون قد يستسقون فيسقون، ويستنصرون فينصرون.

وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبه على أصلين:

منقول: وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن (2) بعض الأعيان.

ومعقول: وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة.

فأما النقل في ذلك: فإما كذب، أو غلط، أو ليس بحجة، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك.

وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم - إنما يستجاب لهم في النادر. ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير منهم، فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم، وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا (3) من جنس ابتهال المقابريين (4) لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع.

(1) في المطبوعة: بن باعوراء، وقد ورد اسمه باللفظين، وهو رجل من الكنعانيين، وقيل: من اليمن، أعطاه الله اسمه الأعظم، وقيل: النبوة، وقيل إنه كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، حتى دعا على موسى عليه السلام وقومه، فعوقب بأن سلب الله منه الإيمان ووقع في الشهوات وطاعة الشيطان، وهو الذي قال الله فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ سورة الأعراف: من الآية 175، وقصته مأثورة عن السلف. انظر: تفاصيلها في تفسير ابن جرير (9 / 83 - 88) وأكثرها من عدد الإسرائيليات. والبداية والنهاية لابن كثير (1 / 322) .

(2)

في (د) : من.

(3)

في المطبوعة: ابتهلوا ابتهالا.

(4)

في المطبوعة: القبوريين. وهو كما قلت خلاف عبارة المؤلف في جميع النسخ المخطوطة.

ص: 209

بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون (1) إذا فعله المخلصون، لم يرد المخلصون إلا نادرا، ولم يستجب للمقابريين (2) إلا نادرا، والمخلصون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخر (3) له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر. قال: الله أكثر» (4) . فهم في دعائهم لا يزالون بخير.

وأما المقبريون: فإنهم إذا استجيب لهم نادرا، فإن أحدهم يضعف توحيده، ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون. ولعله لا يكاد يبارك له (5) في حاجته، اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة، فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله على اجتهاده، وغفر له خطأه.

وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع، كالتمريجات (6) الفلكية، والتوجهات النفسانية. كالعين، والدعاء المحرم،

(1) في المطبوعة: القبوريون أيضا.

(2)

في المطبوعة: القبوريين.

(3)

في (ط) : أو يؤخر.

(4)

أخرجه أحمد في المسند (مع اختلاف يسير في الألفاظ)(3 / 18) ، عن أبي سعيد الخدري، وأخرج الترمذي حديثا بمعناه عن عبادة بن الصامت، سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب انتظار الفرج، الحديث رقم (3573) ، (5 / 566)، وقال الترمذي:" هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه "(5 / 567) .

(5)

له: سقطت من (ط) .

(6)

في (أط) : التمزيجات: ولعلها بالراء أصح. والتمريجات مأخوذة من المرج، وهو: الخلط والفساد والاضطراب والقلق. ولعل القصد بها هنا: تخرصات الفلكيين والذين يعتقدون أن للأفلاك تأثيرا، وتخليطهم بذلك. والتمزيجات أيضا بمعنى: الخلط وما ركب عليه البدن من الطبائع. انظر: القاموس المحيط، فصل الميم، باب الجيم (1 / 214، 215) .

ص: 210

والرقى المحرمة، أو التمريجات الطبيعية. ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية، فقل أن يحصل (1) لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة. دع الآخرة.

والمخفق (2) من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد (3) والضرر ما الله به عليم. فهي في نفسها مضرة ولا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه (4) . والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب، المباحة أو المستحبة سواء كانت طبيعية: كالتجارة والحراثة، أو كانت دينية: كالتوكل على الله والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع، في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله، بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، وكالصدقة، وفعل المعروف (5) يحصل بها الخير المحض أو الغالب. وما يحصل من ضرر بفعل مشروع، أو ترك غير مشروع (6) مما نهي عنه، فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة.

(1) في (أط) : حصل.

(2)

في المطبوعة: والمخبل. وما أثبته اتفقت عليه النسخ المخطوطة وهو أصح؛ لأنه يقابل المنجح. فالمخفق هو الذي لا يظفر بطلبه، والمنجح بخلافه.

انظر: لسان العرب، مادة (خفق) ، (10 / 82) ، ومادة (نجح) ، (2 / 611) .

(3)

في (أ) : من المنكر، وهو تحريف.

(4)

في (أ) : من فعله.

(5)

وفعل المعروف: ساقطة من (أ) .

(6)

في (أ) : عن المشروع.

ص: 211

وهذا الأمر، كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فهو أيضا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة، فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة، ويجلبان كل خير، ويدفعان كل شر.

فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض، ولا غالب، ومن كان له خبرة بأحوال العالم (1) وعقل، تيقن ذلك يقينا لا شك فيه.

وإذا ثبت ذلك: فليس علينا من سبب (2) التأثير أحيانا، فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء، لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فبلا ريب - وكذلك أنواعها أيضا - لا يضبطها المخلوق (3) لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام، أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم، وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة، فإن ذلك كثير التعب، قليل الفائدة، أو موجب للضرر.

ومثال النبي صلى الله عليه وسلم مثال طبيب دخل على مريض، فرأى مرضه فعلمه، فقال له: اشرب كذا، واجتنب كذا. ففعل ذلك، فحصل غرضه من الشفاء.

والمتفلسف قد يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض، وصفته، وذمه وذم ما أوجبه. ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام.

والكلام (4) في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف

(1) في (أ) : العام.

(2)

في (ط) : من سب.

(3)

في (د) : المخلوقات.

(4)

في المطبوعة: على أن الكلام.

ص: 212

عقله ودينه، بحيث تختطف (1) عقله فيتأله (2) إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين. ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال، فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه.

ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة: أن الرجل منهم قد يكون مضطرًّا ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا. ولو (3) استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعف الله عنه، كما لو طلب من الله ما يكون فتنة له. كما أن ثعلبة (4) لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال، ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له، وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة. وقد " قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها، فيخرج بها يتأبطها نارا "، فقالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: " يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» (5) .

(1) في (د) : يخطف.

(2)

في المطبوعة: بحيث يختلط عقله فيتوله. وتختطف عقله بمعنى: تستلبه وتذهبه.

انظر: القاموس المحيط، فصل الخاء، باب الفاء (3 / 139) . ويتأله: أي يتحير أو يتنسك. انظر القاموس المحيط، فصل الهمزة، باب الهاء (4 / 282)، والمنجد في اللغة (16) : أله. والمعنى هنا والله أعلم: أن المشتغل بهذه الفلسفة تهيمن على عقله وتعمي بصيرته، وتجعله حيران، أو هائما في طريق التعبد والتنسك الخاطئ كتنسك النصارى وبعض المتصوفة والفلاسفة على غير هدى من الله.

(3)

في (ب) : ولو كان قد استجيب له.

(4)

هو: ثعلب بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد الأنصاري الأوسي، وقيل: ثعلبة بن أبي حاطب رضي الله عنه، صحابي، وممن شهد بدرا، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: أسد الغابة (1 / 238) .

(5)

مسند أحمد (3 / 4، 16) ، كلاهما عن أبي سعيد الخدري، وفيهما اختلاف يسير عن اللفظ الذي أورده المؤلف.

ص: 213

فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته، كما فعل بلعام وثعلبة، وكخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم، وكان فيها هلاكهم. وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55](1) فهو سبحانه لا يحب المعتدين في صفة (2) الدعاء، ولا في المسؤول، وإن كانت حاجتهم قد تقضى، كأقوام ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله، واعتداء لحدوده، وأعطوا طلبتهم فتنة، ولما يشاء سبحانه، بل أشد من ذلك.

ألست ترى السحر والطلسمات (3) والعين وغير ذلك، من المؤثرات في العالم بإذن الله، قد يقضى (4) بها كثير من أغراض النفوس (5) ومع هذا فقد قال سبحانه:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103](6) .

فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة، وأن صاحبه خاسر في الآخرة، وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا. وقد قال تعالى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102](7) .

وكذلك أنواع من الداعين والسائلين قد يدعون دعاء محرما، يحصل معه

(1) سورة الأعراف: الآية 55.

(2)

صفة: ساقطة من (ط) .

(3)

الطلسمات هي: الأشياء المبهمة التي تشبه الألغاز.

(4)

في (أ) : يقتضي. وفي المطبوعة: يقضي الله بها.

(5)

في المطبوعة زاد: الشريرة.

(6)

سورة البقرة: الآيتان 102، 103.

(7)

سورة البقرة: من الآية 102.

ص: 214