المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم] - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فصل في مفهوم العيد والحذر من التشبه بالكفار في أعيادهم]

- ‌[فصل في أعياد الكفار]

- ‌[بعض ما يفعله الناس من المسلمين من البدع في ذلك]

- ‌[النهي عن فعل ما يعين الكفار في أعيادهم]

- ‌[بيع الدار ونحوها للذمي وإجارتها له]

- ‌[ابتياع الذمي أرض العشر من مسلم]

- ‌[استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع للكنيسة]

- ‌[قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم]

- ‌[ذبيحتهم يوم عيدهم وأنواع ذبائح أهل الكتاب]

- ‌[ما ذبح على النصب]

- ‌[ذبائح الجن المزعزمة]

- ‌[عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب]

- ‌[فصل في صوم أيام عيد الكفار]

- ‌[فصل في صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين]

- ‌[فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة]

- ‌[ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر لوجهين]

- ‌[الأول دخول سائر الأعياد والمواسم المبتدعة في مسمى البدع المحدثات]

- ‌[الثاني اشتمالها الفساد في الدين]

- ‌[فصل في الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[أنواع الأعياد الزمانية المبتدعة]

- ‌[فصل في الأعياد المكانية المبتدعة]

- ‌[فصل في أنواع الأعياد المكانية]

- ‌[النوع الأول مكان لا خصوص له في الشريعة]

- ‌[بعض الأمكنة والقبور التي ابتدعها الناس]

- ‌[فصل في النوع الثاني من الأمكنة]

- ‌[النوع الثاني ما له خصيصة لا تقتضي اتخاذه عيدا]

- ‌[إطلاق العيد على المكان الذي يقصد الاجتماع فيه]

- ‌[ما يتصل بالقبور من زيارتها والصلاة عندها واتخاذها مساجد والبناء عليها]

- ‌[أنواع من المحرمات]

- ‌[الدعاء عند القبور]

- ‌[رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور]

- ‌[أثر العبادة والدعاء عند القبور ليس دليلا على استحسانها]

- ‌[أنواع الشرك]

- ‌[الدعاء بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر]

- ‌[تفنيد ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر]

- ‌[بعض بدع القبور]

- ‌[فصل في عدم جواز سائر العبادات عند القبور]

- ‌[فصل في العكوف عند القبور ومجاورتها وسدانتها]

- ‌[فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها]

- ‌[أقوال العلماء وبيان القول الصحيح وأدلته]

- ‌[الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها]

- ‌[الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم]

- ‌[التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة]

- ‌[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم]

- ‌[المساجد التي تشد إليها الرحال]

- ‌[فصل في المسجد الأقصى]

- ‌[فصل في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد]

- ‌[أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك]

- ‌[أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب]

- ‌[أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع]

- ‌[غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك]

- ‌[الخاتمة]

الفصل: ‌[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم]

بسبب بين السائل وبينهم، إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه (1) .

[التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم]

فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم. فمجرد دعائه بهم من (2) غير طاعة منه لهم، ولا شفاعة منهم له، فلا ينفعه، وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى.

وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع (3) .

والمقصود هنا: أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما قد (4) ذكر، فكيف بسؤال المخلوق الميت؟ سواء سئل أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة، ونحو ذلك، مما يفعله بعض الناس، إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته، وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسم المادة وسد الذريعة، بلعنه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلى عندها لله، ولا يسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك. فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك، وأسباب الشرك؟ وقد تقدم الكلام على الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد.

وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر " أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى إن «النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة» . ففعل ابن عمر ذلك " وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله، فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها.

(1) من هنا حتى قوله: وقد بسطت هذه المسألة (ثلاثة أسطر تقريبا) : سقطت من (أط) .

(2)

في المطبوعة: أما مجرد دعاء الداعي وتوسله بهم من غير طاعة.

(3)

انظر: كتاب (التوسل والوسيلة) في مجموع الفتاوى للمؤلف (1 / 143، 154) ، (ص 199، 202) .

(4)

قد: سقطت من (أ) .

ص: 330

والكلام هنا في ثلاث مسائل: إحداها: أن التأسي (1) به في صورة الفعل الذي فعله، من غير أن يعلم قصده فيه، أو مع عدم السبب الذي فعله، فهذا فيه نزاع مشهور، وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين، وغيرهم يخالفهم (2) في ذلك، والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رضي الله عنهم وليس هذا مما نحن فيه الآن (3) .

ومن هذا الباب: أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى فيه، إذا جاء وقت الصلاة؛ فهذا من هذا القبيل.

المسألة الثانية: أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتا للصلاة، بل أراد أن (4) ينشئ الصلاة والدعاء لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره (5) وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله، فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك (6) وتواتر عن المهاجرين والأنصار: أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ فيمتنع أن يكون فعل ابن عمر - لو فعل ذلك - حجة على أبيه، وعلى المهاجرين والأنصار.

والمسألة الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرا قصيرا أو طويلا، مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ليصلي فيه ويدعو،

(1) في (أب ج) : المتأسي.

(2)

في (ب ط د) : يخالفونهم.

(3)

في (أب) : نحن الآن فيه.

(4)

في (أط) : بل إذا ينشئ. وفي (ب) : بل أراد ينشئ.

(5)

في (أ) : وغيره.

(6)

انظر: (ص144) من هذا الجزء.

ص: 331

أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال: فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، مثل ما كان مبنيا على نعله (1) ومثل ما في (2) جبل قاسيون، وجبل الفتح (3) وجبل طورزيتا (4) الذي ببيت المقدس، ونحو هذه البقاع. فهذا ما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة، فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره:

وراق ليرقى في حراء ونازل (5)

(1) قال ياقوت في (معجم البلدان) في تعريف (نعل) : وهي أرض بتهامة واليمن، وقيل: حصن على جبل شطب، (5 / 293) . ولعل المقصود نعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما سيشير إليه المؤلف ص337 من هذا الجزء.

(2)

في (ب) " ما جاء في جبل قاسيون. وهو جبل مشرف على دمشق. معجم البلدان (4 / 295) .

(3)

يظهر أنه جبل بالشام.

(4)

في (ب ج د) وفي المطبوعة: وجبل طور سيناء. وما أثبته من (أط) أرجح؛ لأن طورزيتا هو الذي ببيت المقدس وقريب من المسجد الأقصى، ويقال: إن فيه قبور أنبياء كثيرين. وأما طور سيناء فليس بقريب من بيت المقدس.

انظر: معجم البلدان لياقوت (4 / 47، 48) .

(5)

جاء ذلك في قصيدة طويلة يدافع فيها عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويتودد فيها قومه ليدعوه، ويخبرهم أنه لن يسلمه حتى يهلك دونه، ومطلعها:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم

وقد قطعوا كل العرى والوسائل

إلى أن قال:

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه

وراق ليرقى في حراء ونازل

إلى آخر القصيدة، تجدها في سيرة ابن هشام (1 / 176 - 180) ، تحقيق محمد محيي الدين ط (1383) .

ص: 332

وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة (1) فكان (2) لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجأه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه الملك، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ، فقال: لست بقارئ، قال: مرتين أو ثلاثا، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره» (3) الحديث بطوله.

فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه (4) إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت - والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم، عند المساجد التي يقال: إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن (5) يمينك يقال له: جبل (6) التنعيم،

(1) في (ب د) : الصالحة.

(2)

في (ط) : وكان.

(3)

صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب (3) ، الحديث رقم (3) ، (1 / 22) فتح الباري. وانظر الأحاديث رقم (3392، 4953) ، 4955، 4956، 4957، 4982) من فتح الباري.

(4)

في (ب) : من الصحابة.

(5)

في (ب د ط) : على.

(6)

جبل: سقطت من (ب ج د) .

ص: 333

والحديبية غربيه -. ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة. ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله.

وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام (1) وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة (2) وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة.

ثم بعده خلفاؤه الراشدون، وغيرهم من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء.

وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40](3) وهو غار بجبل ثور، يمان (4) مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجدا، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد، ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد.

(1) الحرام: سقطت من (ط) .

(2)

في (أط) : المزدلفة. بسقوط واو العطف.

(3)

سورة التوبة: من الآية 40.

(4)

يمان: أي جهة اليمن من مكة. وهي جنوب مكة.

ص: 334

ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه؛ لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك (1) ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك؛ علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.

وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتدي فيه بالإنباء (2) والإرسال، وأنزل عليه فيه القرآن، مع أنه (3) كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه.

فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يشرع قصدها والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها؟

وهذا كما أنه (4) قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت، ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل فلم يقبل إلا الحجر الأسود.

وقد اختلف في الركن اليماني: فقيل: يقبله. وقيل: يستلمه ويقبل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره.

والصواب: أنه لا يقبله ولا يقبل يده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا ولا

(1) في المطبوعة زاد: وأسرعهم إليه.

(2)

في (ب ج د) : والرسالة.

(3)

في (أط) : مع كونه كان.

(4)

في (ط) : كما قد ثبت.

ص: 335

هذا، كما تنطق به الأحاديث الصحيحة، ثم هذه مسألة نزاع، وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم، أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئا من جوانب البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وعلى هذا عامة السلف، وقد روي:«أن ابن عباس ومعاوية طافا بالبيت، فاستلم معاوية الأركان الأربعة. فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيت شيء متروك، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فرجع إليه معاوية» (1) .

وقد اتفق العلماء على ما مضت (2) به السنة، من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وقال:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125](3) .

فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة، لا يشرع (4) تقبيله بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحها باليد.

(1) أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في استلام الحجر والركن اليماني دون ما سواهما، الحديث رقم (858) ، (3 / 213)، وقال:"حديث ابن عباس حديث حسن صحيح "، وقد رواه الترمذي مختصرا، وأخرجه أحمد في المسند (1 / 217) ، عن مجاهد عن ابن عباس، و (1 / 246) عن أبي الطفيل؛ وأخرجه البخاري عن أبي الشعثاء مرسلا. انظر: فتح الباري (3 / 473) ، الحديث رقم (1608) في كتاب الحج، باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وأخرجه عبد الرازق في المصنف موصولا في كتاب الحج، باب الاستلام في غير طواف، الحديث رقم (8945) ، (5 / 45) .

(2)

في (أ) : ما نصرته السنة.

(3)

سورة البقرة: من الآية 125.

(4)

في المطبوعة: (تقبيلها) .

ص: 336

وأيضا: فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟

وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل (1) صحيحا، فكيف بما لا يعلم صحته، أو بما (2) يعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجهال أن هذا الموضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمي إبراهيم الخليل، الذي لا شك (3) فيه، ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال: إنه موضع قدميه، كذبا وافتراء عليه، كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات؟

فإن قيل: قد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى فيقاس عليه غيره.

قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أريد به المقام عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات (4) بما لم يشركها فيه سائر البقاع، كما خص البيت بالطواف، فما خصت به تلك البقاع لا يقاس بها غيرها، وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها، ونحن استدللنا على أن ما

(1) في المطبوعة: النقل. وهو وجيه. لكنه خلاف النسخ المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: أو بما لا يعلم أنه مكذوب. وما أثبته أصح؛ لأن السياق يدل عليه.

(3)

في (ب) : لا يشك. وفي (د) : لا نشك.

(4)

في (ب) : خصت بالعبادة.

ص: 337

لم يشرع هناك من التقبيل والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها.

ومن ذلك القبة (1) التي عند باب (2) عرفات، التي يقال: إنها قبة (3) آدم، فإن هذه لا يشرع قصدها للصلاة والدعاء، باتفاق العلماء، بل نفس رقي الجبل الذي بعرفات الذي يقال له: جبل الرحمة، واسمه: إلال (4) على وزن هلال، ليس مشروعا باتفاقهم، وإنما السنة الوقوف بعرفات: إما عند الصخرات حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما بسائر عرفات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة» (5) .

وكذلك سائر المساجد المبنية هناك، كالمساجد المبنية عند الجمرات، وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له:(غار المرسلات) فيه نزلت سورة

(1) في المطبوعة: البنية.

(2)

في المطبوعة: على جبل عرفات.

(3)

هذه القبة لا توجد الآن بحمد الله، وهذا بفضل الله ثم بفضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المباركة، حيث أزيلت بسببها تلك المشاهد.

(4)

في المطبوعة: الأول. والصحيح ما أثبته، فقد ذكر في معجم البلدان أن (إلال) : اسم جبل بعرفات، أو أنه جبل رمل بعرفات يقوم عليه الإمام، وقيل: عن يمين الإمام. وقيل: إنه هو جبل عرفات نفسه. وهذا ما أومأ إليه المؤلف هنا. معجم البلدان (1 / 242، 243) .

(5)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة، الحديث رقم (166) ، وهو عن مالك، بلغه أن رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم قال:. . الحديث. ورقم (167) عن عبد الله بن الزبير، ولم يرفعه، (1 / 388) . وأخرجه مسلم بغير هذا اللفظ في كتاب الحج، باب أن عرفة كلها موقف، الحديث رقم (149) ، تابع الحديث رقم (1218) ، (2 / 893) . وأورده ابن ماجه مرفوعا عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كتاب المناسك، باب الموقف بعرفات، الحديث رقم (3012) ، (2 / 1002) .

ص: 338