الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الباب الثاني: في الأوامر والنواهي
وفيه فصول:
الأول: في لفظ الأمر وفيه مسئلتان:
الأولى: أنه حقيقة في القول الطالب للفعل واعتبرت 1 المعتزلة العلو وأبو الحسين الاستعلاء ويفسدهما قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .
الكلام عند أصحابنا يطلق على اللساني والنفساني واختلفوا هل هو حقيقة فيهما أو في أحدهما على مذاهب قيل في اللساني فقط وذهب المحققون منا كما نقله الإمام في أول اللغات إلى أنه مشترك بينهما وذهب آخرون إلى أنه حقيقة في النفساني فقط وكلا القولين منقول عن الشيخ ويدل على أنه حقيقة في النفساني قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 2 وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} 3 وقال عمر يوم السقيفة كنت زورت في نفسي كلاما.
1 في بعض نسخ المتن واعتبر بدون تاء وكلاهما صحيح فإن الفعل إذا أسند إلى جمع التكثير جاز تأنيثه وتذكيره فإثبات التاء لتأوله بالجماعة وحذفها لتأوله بالجمع.
شرح ابن عقيل 1/ 409،408.
2 سورة المجادلة آية: 8.
3 سورة الملك آية:13.
وقال الأخطل1:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
قال أصحابنا ولسنا نستدل بهذه الأدلة على إثبات الكلام النفسي فان هذه الأدلة قابلة للتأويل ولكنا لما دللنا بالبراهين القاطعة المودعة في الكتب الكلامية على إثبات معنى في النفس يزيد على العلوم والقدر والإرادات دللنا بهذه الألفاظ على أنه سمي كلاما فهي أدلة على إثبات التسمية لا على إثبات الحقيقة.
وأما قول الإمام هنا المختار أنه حقيقة في اللساني فقط فغير مغاير لما نقله في اللغات عن المحققين لأنه قال هناك الكلام بالمعنى القائم في النفس مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه وإنما الذي يبحث عنه اللساني وقوله هنا فقط أي ولا يكون حقيقة في الشيء والقصة والشأن والطريق كما ذهب إليه أبو الحسين وحاصل الأمر أن الكلام هنا ليس إلا في اللساني قوله في لفظ الأمر أي لفظ أمر لا في مدلولها الذي هو افعل ولا في نفس الطلب وهذا اللفظ يطلق مجازا على الفعل وغيره مما سيأتي ان شاء الله تعالى فسمي الأمر لفظ وهو صيغة افعل ومسمى صيغة افعل هو الوجوب أو غيره على الاختلاف فيه فقوله القول جنس يدخل فيه الأمر وغيره نفسانيا كان أو غيره ويستفاد من هذه العبارة أن الطلب بالإشارة والقرائن المفهمة لا يكون أمرا حقيقة وقوله الطالب فصل يخرج به الخبر وشبهه وقوله للفعل فصل ثان يخرج به النهي إذ هو طالب للترك وهذا مدخول من جهة أن النهي طلب فعل أيضا ولكن فعل هو كف فلو قال فعل غير كف كما فعل ابن
1 هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو من بني تغلب شاعر مصقول الألفاظ حسن الديباجة في شعره إبداع اشتهر في عهد بني أمية وأكثر من مدح ملوكهم وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر اهل عصرهم:جرير والفرزدق والأ خطل.
توفي سنة 90هـ.
دائرة المعارف الإسلامية 1/515 الإعلام للزركلي 5/318.
الحاجب لسلم من هذا الاعتراض ويعترض عليه أيضا بقول القائل أوجبت عليك كذا وأنا طالب منك كذا فإنه يصدق عليه التعريف مع كونه خبرا فكان ينبغي أن يقول بالذات كما فعل في تقسيم الألفاظ.
واعلم أن هذا التعريف يدخل فيه النفساني فكان ينبغي أن يأتي بفصل يخرجه وليس لقائل أن يقول النفسانى نفس الطلب لا الطالب فقد خرج بقوله الطالب لأنا نقول يصدق على النفساني أنه طالب.
ولئن قلت: إنه ليس بطالب حقيقة.
قلت: وكذا اللساني إنما الطالب حقيقة المتكلم وقد زاد الإمام في الحد قيدا آخر عند قوله إن الحق أن الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب لا اللفظ العربي الدال على الطلب بدليل أن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا يلقنه يسميه العربي أمرا وأنه لو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية حنث فقال الحق أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض لا لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب.
قال: وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب وهذا ماش على ما اقتضته طريقته من أن لفظ الأمر هو صيغة افعل والتحقيق أنهما مسألتان كما سبق ومما يدل عليه ذهاب الجمهور ومنهم القاضي إلى أن المندوب مأمور به مع قول الجمهور إن صيغة افعل حقيقة في الوجوب وقول القاضي إنها مترددة بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد صرح به في مختصر التقريب بل صرح في مختصر التقريب بما قلناه.
وهذه عبارته: الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس وحقيقة اقتضاء الطاعة ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب لتحقيق الاقتضاء فيهما.
وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس نحو قول القائل افعل فمترددة بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد فيتوقف فيها حتى يثبت بقيود المقال أو قرائن الحال تخصصها ببعض المقتضيات هذا ما نرتضيه من المذهب انتهى قوله.
واعتبرت شرطت المعتزلة في الأمر العلو وقالوا لا يصدق إلا به أي بأن يكون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه فآما إن كان مساويا له فهو إلتماس وإن كان دونه فهو سؤال.
وقد تابعهم على ذلك من أصحابنا الشيخان أبو إسحاق الشيرازي1 وأبو نصر بن الصباغ2 كما نص عليه في عدة العالم وشرط أبو الحسين من المعتزلة الاستعلاء دونه العلو والفرق بين الاستعلاء والعلو واضح فالعلو أن يكون الآمر في نفسه أعلى درجة والاستعلاء أن يجعل نفسه عاليا بكبرياء أو غيره وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك فالعلو من الصفات العارضة للناطق والاستعلاء من صفات كلامه
وهذا الذي قاله أبو الحسين صححه الآمدي وابن الحاجب وكذلك الإمام إلا أنه في أوائل المسألة الخامسة قال وقال أصحابنا لا يشترط العلو ولا الاستعلاء لنا قوله حكاية عن فرعون وأخذ يستدل للأصحاب بهذه الصيغة فظن ظانون الاضطراب في كلامهم والظاهر أن صيغة لنا إنما أتى بها من أصحابه
تنبيه ما نقله المصنف هنا عن أبي حيان لا يناقض ما اختاره في تقسيم الألفاظ لأن الكلام هنا في مدلوله اللغوي وأما هناك فالكلام في مدلوله الاصطلاحي ألا ترى إلى ذكره هناك المتواطىء والمشكك والاسم والفعل والحرف وكل هذه أسماء مصطلح عليها بين العلماء
وقد رد المصنف على المذهبين أعني مذهب المعتزلة وأبى الحسين بأنه
1 تقدمت ترجمته في الجزء الأول.
2 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد: كنيته أبو نصر وعرف بابن الصباغ لأن أحد أجداده كان صباغا كان بارعا في الفقه والأصول ثقة حجة صالحا ورعا حتى فضله بعض العلماء على أبي اسحاق الشيرازي.
من مؤلفاته: الكامل في الخلاف بين الحنفية والشافعية والعمدة في أصول الفقه.
توفي ببغداد سنة 477هـ.
طبقات ابن السبكي 3/23 الفتح المبين 1/371.
يفسرهما قوله تعالي حكاية عن قول فرعون لقومه: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} 1 فأطلق الأمر على ما يقولونه في مجلس المشاورة ومن المعلوم انتفاء العلو إذا كان فرعون في تلك الحالة أعلى رتبة منهم وقد جعلهم آمرين له وانتفاء الاستعلاء إذ لم يكونوا مستعلين عليه والأصل في الإطلاق الحقيقة فدل ذلك على عدم اعتبار كل واحد من العلو والاستعلاء ومما يدل على ذلك قول عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
…
وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وابن هاشم هذا رجل من بني هاشم خرج من العراق على معاوية رضي الله عنه فامسكه فأشار عليه عمرو بقتله فخالفه معاوية لشدة حلمه وكثرة عفوه فأطلقه فخرج عليه مرة أخرى فأنشده عمرو البيت في ذلك لا في علي رضي الله عنه وإنما نبهنا على ذلك مخافة أن يتوهمه متوهم.
وقال دريد بن الصمة2 لنظرائه ولمن هو فوقه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
…
وهل يستبان الرشد إلا ضحى الغد
وقال الآخر مخاطبا يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
…
فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
وقد قيل في إبطال مذهب أبي الحسين على الخصوص في الكتاب العزيز في غاية التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكير النعم والوعيد بالنقم كما في قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3 وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 4 إلى غير ذلك من الآيات
المنافية لاشتراط الاستعلاء وإلا يلزم أبا الحسين أن يخرجها عن كونها أوامر بل يلزمه أن
1 سورة الأعراف 110 والشعراء 35.
2 هو: دريد بن الصمة الجشمي البكري من هوازن ومن الشعراء المعمرين في الجاهلية كان السيد بني جشم وقائدهم غزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها أدرك الإسلام ولم يسلم قتل على دين الجاهلية في غزوة حنين سنة 8هـ. الأغاني 10/3-40 طبعة دار الكتب الأعلام للزركلي 3/16، 17.
3 سورة البقرة آية 21.
4 سورة آل عمران آية 31.
يخرج كل صيغة لا يدل معها دليل على وجود الاستعلاء الذي هو هيئة قائمة بالأمر وأكثر الأوامر لا يوجد فيها ذلك.
قال: وليس حقيقة في غيره دفعا للإشتراك وقال بعض الفقهاء إنه مشترك بينه وبين الفعل أيضا لأنه يطلق عليه مثل وما أمرنا وما أمر فرعون
الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا المراد الشأن مجازا.
قال البصري: إذا قيل أمر فلان ترددنا بين القول والفعل والشيء والشأن والصفة وهو آية الاشتراك قلنا لا بل بتبادر القول.
قد عرفت أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وذلك باتفاق.
قال المصنف: فلا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك وقال بعض الفقهاء إنه مشترك بين القول المخصوص والفعل ونقل الأصفهاني في شرح المحصول عن ابن برهان أنه قال كافة العلماء ذهبوا إلى أنه حقيقة في الفعل والشأن والقصة والمقصود والغرض ولم أر ذلك في كلام ابن برهان واستدل القائل بأنه حقيقة في الفعل بأنه يطلق عليه كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 1 أي فعلنا وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 2 أي فعله والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب في الكتاب بأن المراد بالأمر هنا هو الشأن الشامل للقول والفعل ويكون مجازا من باب إطلاق الخاص وإرادة العام والمجاز خير من الاشتراك وهذا الجواب وان كان صحيحا فلا يحتاج إليه من يقول المراد بالأمر في هاتين الآيتين هو القول.
أما الأولى فلأنه لو أريد الفعل للزم أن يكون فعله سحابة واحدة وهو في السرعة كلمح البصر وذلك باطل ضرورة ثبوت تعدد أفعاله وحدوث بعضها بالرفق والتدريج وإذا حمل على القول لا يلزم منه محذور.
وأما الثانية فإرادة القول فيها ظاهرة يدل عليها قوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} وأبو الحسين وهو المشار إليه بقول البصري زعم ان لفظ الأمر مشترك بين
1 سورة القمر آية 50.
2 سورة هود آية 97.