الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: في أقسام العام
…
قال الثانية: العموم إما لغة بنفسه كأي للكل ومن للعالمين وما لغيرهم وأين للمكان ومتى للزمان.
الذي يفيد العموم إما أن يفيده من جهة اللغة أو العرف أو العقل.
القسم الأول: المفيد لغة وهو على ضربين لأنه أما ان يدل عليه بنفسه لكونه موضوعا له أو بواسطة اقتران قرينة به الضرب الأول ما يدل عليه بنفسه وهو نوعان لأنه إما أن يكون شاملا للكل أي لجميع المفهومات أو لا يكون.
معرفة نحو هات ما رأيت فيفيد العموم فيما عدا العالمين من الزمان والمكان والجماد والذات وقد تتناول أولى العلم ايضا.
الثاني: ان يختص عمومه ببعضهم فأما ان يختص بالأمكنة نحو ان تجلس اجلس ومنه حيث وأني أو بالأزمنة متى تقول متى تقم أقم.
فإن قلت قد جعلتم هذه الصيغ للعموم في الأصول وخالفتم ذلك في الفروع بدليل ان من قال لامرأته متى قمت أو حيث أراني قمت فأنت طالق لا يقع عليه الا واحدة ويقتضي ما قررتم تكرار الوقوع بتكرار القيام كما لو قال كلما قلت ليس من لازم العموم التكرار في كلما فلخصوصية كل لدلالتها على كل فرد فيتعلق به الحكم وليس ذلك في شيء من صيغ العموم غيرها وهنا مهمات نبه عليها والدي رحمه الله في كتابه الموضوع في أحكام كل وهو كتاب جليل ونحن نورد هنا مما يتعلق به صيغة الأصول منها ما يتهذب به النظر فتقول أطلق الأصوليون هذه الصيغ وأن مدلولها كل فرد فأما كل فلا يدخل الا على ذي جزئيات وأجزاء ومدلولها في الموضعين الإحاطة بكل فرد من الجزئيات أو الأجزاء أو قد تضاف لفظا إلى نكره مثل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 1 {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ} 2 وقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
وقال كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وان طالت سلامته
…
يوما على آلة حدباء محمول
ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع وكل لا دلالة لها الا على كل فرد وهي نص في كل فرد مما دلت عليه تلك النكرة مفردا كان أو تثنية أو جمعا ويكون الاستغراق للجزئيات بمعنى ان الحكم لكل جزء من جزئيات النكرة وقد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما كقولنا
1 سورة الطور الآية 52.
2 سورة الإسراء آية 13.
كل مشرك مقتول وقد لا يلزم كقولنا كل رجل يشبعه رغيف وكلا الأمرين ليس من لفظ كل بل يظهر ذلك من معنى الكلام وقد يضاف كل لفظ إلى معرفة لقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: "يا عبادي كلكم جائع الا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم" وكلام اكثر الأصوليين يقتضي ان كلا في هذه الحالة مثلها حالة الإضافة إلى نكرة في الدلالة على كل فرد واقتضى كلام بعض الاصوليين وابن مالك من النحاة ان مدلولها في هذه الحالة المجموع قال الشيخ الإمام والدي أطال الله بقاه والذي يظهر أنها إذا أضيفت إلى معرفة فإن كان مفردا كانت لاستغراق أجزائه ويلزم منه المجموع ولذلك يصدق قولنا كل رمان مأكول ولا يصدق كل الرمان مأكول لدخول قشره وبعبارة أخرى يصدق كل رجل مضروب إذا ضربت كلما واحد ضربا ما ولا يصدق كل الرجل مضروب الا إذا أضربت جميع أجزائه وان كانت المعرفة المضاف إليها جمعا احتمل ان يراد المجموع كما في قولنا كلكم بينكم درهم وان يراد كل فرد كقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع" ولذلك فصله بعد ذلك فقال لسلطان راع والرجل راع والمرأة راعية والاحتمال الثاني: اكثر فيحمل عليه عند الإمكان ولا يعدل الأول الا بقرينة ومن أمثلة بعض الاصوليين كل أعضاء البدن حيوان والمراد المجموع كما في كلكم بينكم درهم وهذا يحتاج إلى سماع من العرب لكن كلام النحو بين منطبق عليه قال ابن السراج يقول ان خيرهم كلهم زيد وان لي قبلكم كلكم خمسين درهما والمراد الجمع لا كل فرد.
واعلم انك إذا اثبت حكما لجزء أو أجزاء ثم أخذت جملة من تلك الأجزاء أو الجزئيات لا يلزم ان يثبت لها ذلك الحكم بل قد يثبت بحسب ما يدل عليه الدليل إذا أدخلت كلا على ما فيه الألف واللام وأريد الحكم على كل فرد فهل نقول ان الألف واللام هنا يفيد العموم وكل تأكيدها أو أنها هنا لبيان الحقيقة حتى يكون ناسيا كل من الأمرين محتمل قال الشيخ الإمام
1 سورة مريم الآية 95.
والدي أعزه الله وقد يقال بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه وكل تفيد العموم في أجزاء كل من المراتب.
فإذا قلت كل الرجال أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب الرجل وأفادت كل استغراق الا آحاد فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد ومن هنا يظهر أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم.
فإن قلت: فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" هل يفيد نفي كل واحد والمجموع.
قلت قد ظهر لك بما أنه يفيد نفي كل واحد فإن ذلك إشارة إلى المذكور وهو قول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فالمذكور القصر والنسيان وعاد اسم الإشارة المفرد عليه فيفيد نفي كل واحد لأن دلالة العموم إذا أضيفت كل إلى مفرد نكره أو معرفه نص في واحد لما سبق وههنا التقدير كل المذكور لم يكن وهو مفرد فلذلك لا يحتمل نفي المجموع فقط ولو كان موضعه جمع معرف لاحتمل نفي كل واحد ونفي المجموع وإن كان الأظهر نفي كل واحد لما سبق ونظير ذلك مما يفيد لفي كل واحد قول الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعى
…
علي ذنبا كله لم أصنع
فمدلوله ايضا نفي كل واحد ويعبر عن هذا بعموم السلب عام لكل الأفراد من انه حكم بالسلب على كل فرد وهذا فيما إذا تقدمت كل على النفي واما إذا تقدم النفي على كل كقول المتنبي.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وقول الآخر:
وقولنا: ما جاء كل القوم وما جاء القوم كلهم وليس كل بيع حلالا فإنه لا يفيد العموم وهو المسمى بسلب العموم أي يفيد سلب العموم لا عموم لسلب وذكروا في سببه طرقالم يرتضها والدي الشيخ الإمام واختار طريقا
غيرها قررها في أحكام كل وهي ان قولنا مثلا ما كل ما يتمنى المرء يدركه سالبة محصلة نقيض الموجبة المحصلة والموجبة المحصلة تقتضي العموم فلا يقتضيه نقيضها وكذلك قولك لم يقم كل إنسان سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهي قولك قام كل إنسان وقولك قام كل إنسان معناه الحكم على كل فرد بالقيام فيكون المحكوم به في السالبة المحصلة نقيض قيام كل فرد ونقيض الكلي جزئي فيكون مدلوله سلب القيام عن بعضهم لأنه النقيض وهذا بخلاف ما إذا تأخر السلب عن كل كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن". وقول الشاعر: كله لم اصنع، فقد بان الفرق بين سلب العموم وعموم السلب.
واعلم ان النهي والنفي من واد واحد ومقتضى ذلك ان يطرد حكم النفي في النهي.
فإذا قلت لا تضرب كل رجل أو كل الرجال يكون النهي عن المجموع لا عن كل واحد ويتعدى هذا إلى سائر صيغ العموم كقولك لا تضرب الرجال الا ان يكون هناك قرينة تقتضي ثبوت النهي لكل فرد الأصوليون قالوا:
دلالة العموم كلية ولذلك يستدل بها في النفي والنهي وما ذكرناه يرد عليهم.
قلت: وهذا الذي أوردناه من التفرقة بين تقدم النفي على كل وتأخره عنها هو الذي ذكره البيانيون وارتضاه الشيخ الإمام والدي أيده الله وهو ان كان في غاية الظهور الا ان لقائل ان يقول ما برحت العلماء سلفا وخلفا تستدل بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} 1 {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} 2 ونظائر ذلك على إثبات الحكم لكل فرد ولم يقل أحد ان ذلك نهي عن المجموع وقال
1 سورة الأنعام 151، والإسراء آية 31.
2 سورة الأنعام 151، والإسراء آية 33.
الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 1 والمراد كل واحد وكذلك فإن أصحابنا لو قال والله لأوطئت كل واحدة منكن يكون موليا من كل واحدة ويتعلق بوطء كل واحدة الحنث ولزوم الكفارة وهذا كله يشهد لعدم التفرقة بين النفي وتأخره.
ثم اعلم ان ما قدمناه من انه إذا تقدم النفي على كل لا يدل على الاستغراق شرطه ان لا ينتقض النفي بالا فلو انتقض قبل المحمول فالاستغراق باق كما لو لم يدخل النفي قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية فالمراد ان كل واحد آنيه عبد وان كان النفي متقدما لكن لأجل الاستثناء وسببه ان النفي إنما هو المحمول وتسلطه عليه وما بعد الا لا تسلط للمنفي عليه فما بعد الا مثبت وهو في الاستثناء المفرغ مسند إلى ما قبلها وهو كل فرد كما كان في الجملة.
قيل: دخول النفي والاستثناء فهذا ما أوردنا إيراده من الكلام على صيغة كل.
قال الشيخ الإمام ومن لطيف القول فيها أنها للاستغراق سواء كانت للتأكيد أم لا والاستغراق لأجزاء ما دخلت عليه ان كان معرفة ولجزيئاته ان كان نكرة فانك إذا قلت رأيت زيدا كله كانت لاستيعاب أجزائه وكذلك أخذت العشرة كلها.
وقولك: رأيت كلهم وكلهم قائم وكل القوم ضارب ونحوه من سائر الصور دخولها على المعرفة من هذا القبيل لأنك لو حذفتها لكان الشمول حاصلا فكانت لاستغراق تلك الأفراد التي استغرقها المعرفة كما هي لاستغراق أجزاء العشرة وزيد.
وإذا قلت: كل رجل قائم وما أشبهه من دخولها على النكرة كانت لاستغراق جزئيات تلك الحقيقة التي أضاف إليه واحد منهما.
1 سورة الحديد آية 23.
قلت: وما ذكرناه من التفرقة بين إضافة كل إلى معرفة فيكون لاستغراق أجزاء ما دخلت عليه أضافتها إلى نكرة فيكون لجزيئاته هو ما ذكروه وقرره والدي رضي الله عنه وارتضاه ولمعترض ان يقول: قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} 1 والمراد الجزئيات لا الأجزاء وقال صلى الله عليه وسلم: "كل الطلاق واقع الا طلاق المعتوه"2.
الحديث هذا القول في كل وأما جميع فمثل كل إذا أضيفت إلى معرفة فتكون لإحاطة الأجزاء ومما يستفاد في جميع ان ابن الفارض في كتابه النكت قال جميع وان كانت مثل كل في إفادة الاستغراق الا أنها تفارقها فينا عدا ذلك فان الزجاج حكى عن المبرد ان قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ} يفيد وقوع السجود منهم فقط.
وقوله: {أَجْمَعُونَ} يفيد انهم سجدوا مجتمعين ويؤيده انه جعل الافتراق في مقابلة في قوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 3.
قلت: والقول بان لفظ جميع بدل على اتحاد الزمن غريب لم أره في غير هذا الكتاب وانما يعرف ذلك في لفظ مجموع واما الألف واللام والموصولات كلها فمثل كل وكذلك من وما الشرطيتان والاستفهاميتان مثل كل ايضا تعم كل فرد وتحيط به.
هذا ما ذكره والدي في من ولقائل ان يقول من صالحة للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع هذا حظ منها وحظ النحوي منها وحظ الأصولي أنها للعموم فهل العموم في جميع هذه المراتب أو في الآحاد ويظهر فائدة إذا قال من دخل داري من هذين فاعطه درهما.
1 سورة آل عمران آية 93.
2 ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله".
قال التلرمذي: لا تعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو ذاهب الحديث وروي بإسناده عن علي مثل ذلك. المغني لابن قدامة 7/113 – 114 طمكتبة الرياض.
3 سورة الحشر آية 14.
فان قلنا: بالأول أعطينا كل واحد درهما.
وان قلنا بالثاني: أعطينا كل واحد درهما بدخوله ونصف درهم بدخوله مع الآخر وان دخل ثلاثة فعلى الثاني نعطيهم ثلاثة بدخول الآحاد كل واحد درهما ودرهما بدخول الثلاثة لكل واحد منه الثلث وثلاثة لان صيغة الأثنينية فيهم ثلاثة فيستحقون بها ثلاثة لكل درهم فمجموع ما يستحقون تسعة وعلى هذا القياس وفيه احتمال آخر وهو انه لا يعطي المجموع الا درهما ومأخذه ان من لا تدل على الإفراد واحدا واحدا وانما تستغرق ما صلحت له.
وهذا البحث سمعته من والدي ولم يذكره في أحكام كل ولم أره منقولا ولا ملخص عنه فيما يظهر الا ان يقال لا عموم لها الا في مراتب الأفراد لكن الأسبق إلى الفهم أنها عامة فيما يصلح وهو يصلح للأفراد ومجموع الأفراد وان كانوا لا يتناهون ولكل مرتبة من مراتب المثنى والمجموع دون النهاية فليبحث عن ذلك واما أي ومتى ومهما وأين فمدلولها كل فرد لا على سبيل الإحاطة فهي تخالف كلا في هذا المعنى والدليل على ذلك انك تقول أي الرجال عندك أزيد أم عمرو بأم لا بالواو ويقول أكل الرجال عندك زيد وعمر وخالد بالواو ولا بأم فدل على الفرق بين مدلوليها فكل تفيد شمول الحكم لكل ما دخلت عليه وأي لا تقتضيه ومن هنا جاء التكرار في كل وكلما ولم يجيء في أي ونحوها حتى لو قال أي وقت دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة بعد أخرى لم يتكرر الطلاق ولو قال كلما دخلت أو كل وقت دخلت فدخلت مرة بعد أخري تكرر.
فإن قلت: فإذا كانت أي لا تدل على التكرار وانما تدل على أحد ما دخلت عليه لا بعينه فهي والمطلق سواء وكل منهما عمومه على البدل لا على الشمول والكلام إنما هو في عموم الشمول.
قلت: المطلق والنكرة التي لا عموم فيها لا تعرض لها للأفراد وانما يدل المطلق على الماهية وان دلت النكرة مع ذلك على وحدة فلا عموم فيها فمطلق
هذا في النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد لكن يفارقها في اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي الا الاستغراق البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع المحلى بالألف واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من المشركين والجمع المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا دخلت عليه الألف واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى المؤتفكات وهنا تنبيهان.
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل على اسم الجنس يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على الجمع يعم المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد ما دخلا عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد لأنه إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس الواحد جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع النهي عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما تقدم من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد سواء كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه ايضا في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي الجموع وينبغي على مساق
1 سورة الحلقة آية 9.
هذا في النفي إذا قلت لا تشتم من شتمك فالظاهر أن المراد الحقيقة ومعناه مخالف لمعنى لا تشتم كل من شتمك.
والثالث: أي وهي مثل كل في إقامة الأفراد لكن يفارقها في اقتضاء كل الاستغراق الشمولي وأي لا تقتضي الا الاستغراق البدلي والله أعلم.
قال أو بقرينة في الاثبات كالجمع المحلى بالألف واللام والمضاف وكذا اسم الجنس أو النفي كالنكرة في سياق.
هذا هو الضرب الثاني: هو ما يفيد العموم من جهة اللغة لا من جهة وضعه له بل بواسطة اقتران قرينة وهو على وجهين.
أحدهما: أن يكون في الاثبات وذلك كالجمع المحلى بالألف واللام من غير عهد مثل أن الله بريء من المشركين والجمع المضاف نحو عبيدي أحرار وكذا المفرد إذا دخلت عليه الألف واللام أو الإضافة وهو الذي عبر عنه المصنف باسم الجنس كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كما سبق ومما يدل على أن المفرد المضاف يعم ولم نر من ذكره قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} 1 فان المراد موسى المرسل إلى فرعون ومعه هارون ولوط المرسل إلى المؤتفكات وهنا تنبيهان.
أحدهما: ان العموم فيما ذكر مختلف فالداخل على اسم الجنس يعم الأفراد أعنى كل فرد فرد والداخل على الجمع يعم المجموع لان الألف واللام والإضافة يعمان افراد ما دخلا عليه وقد دخلا على جمع فانظر في هذا وفائدته انه يتعذر الاستدلال به في النفي والنهي على ثبوت الحكم لفرد لأنه إنما حصل النفي أو النهي عن افراد المجموع وليس الواحد جمعا وهذا معنى قولهم لا يلزم من النهي عن المجموع النهي عن كل فرد ولا من نفيه نفي كل فرد وهذا لا يعارض ما تقدم من ان العموم من باب الكلية وان معناه ثبوته لكل فرد سواء كان نفيا أو نهيا أم لا لانا في حالة الجمع أثبتناه ايضا في النفي والنهي لكل فرد من أفراد ما دخل عليه وهي الجموع وينبغي على مساق
1 سورة الحلقة آية 9.
هذا التقرير أن تختلف الجموع تشمل جموع القلة ثلاثة ثلاثة ولا يشمل جموع الكثرة وإلا أحد عشر أحد عشر.
الثاني: علمت اختيار المصنف ان المفرد المعرف بأن يعم وهو قول أبى اسحاق الشيرازي وابن برهان والجبائي والمبرد وصححه ابن الحاجب وهو المنقول عن الشافعي واما الإمام واكثر اتباعه فقالوا لا يفيد العموم والمختار الأول.
فان قلت لم لا قال الشافعي رضي الله عنه بوقوع الثلاث على من حلف بالطلاق المعروف وحيث قلت:
هذا سؤال سأله القرافي الشيخ عز الدين بن عبد السلام وأجابه كما ذكر في شرح المحصول بأن هذا يمين فيراعي فيهما العرف دون الأوضاع اللغوية قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله في الأجوبة عن الأسئلة التي سألته عنها وقد يقال في الجواب ان الطلاق حقيقة واحدة وهي قطع عصمة النكاح وليس له أفراد حتى يقال أنها تندرج في العموم ولكن مراتبه مختلفة منها ما يحصل به تشعيب النكاح وهو الرجعي وجوز الشارع فيه ان يكون مرة بعد أخرى والتشعيب الحاصل من الثانية اكثر من الحاصل بالأولى وان اشتركا في جواز الرجعة ومنها ما يحصل به البينونة مع إمكان الرد بغير محلل وهو إذا كان بعوض ومنها ما يحصل به البينونة الكبرى وهو الثلاث فهذه مراتب وليست إفرادا ولكن إذا قال أنت طالق ثلاثا فقد استوعب جملة الطلاق فإذا لم يذكر الثلاث ولا نواها لم يحمل الا على اقل المراتب لان الألف واللام لا دلالة لها على قوة مرتبة أو ضعفها فلا يحمل الا على الماهية وليست آحاد المراتب بمنزلة أحاد العموم حتى نقول بالاستغراق وأيضا فلو قال القائل العنق يلزمني أو المشي ان مكة ونحو ذلك وقلنا:
يجب عليه الوفاء لم يلزمه الا المسمى فكذلك هذا قال وهذا شيء يمكن ان يقال والأدب مع الشيخ عز الدين الاقتصار على جوابه.
والثاني: مما يدل بواسطة اقتران قرينة ان يكون في النفي وذلك كالنكرة
في سياقه إما بما أو بلن أو ليس أو لم فإنها تعم سواء باشرها النفي نحو ما أحد قائم أم باشر عاملها نحو ما قام أحد ومما استدل به الإمام على النكرة في سياق النفي تعم انه لو لم يكن للنفي لما كان قولنا لا اله الا الله نفيا لدعوى من ادعى الها سوى الله تعالى.
واعلم ان النكرة ان كانت صادقة على القليل والكثير أو واقعة بعد لا العاملة عملان أعني لا التي لنفي الجنس مثل لا رجل في الدار ببناء رجل على الفتح أو داخلا عليها من مثل ما جاءني من رجل فإن كونها العموم من الواضحات ولكن هل استفيد العموم في قولك ما جاءني من رجل من لفظه أو كان مستفادا من النفي قبل دخولها هي لتأكيده الحق الثاني وهو ما قرره والدي أيده الله غير مرة ولهذا قال الشيخ جمال الدين بن مالك وتزاد لتخصيص العموم بعد نفي أو شبهة وأراد بتنصيص العموم تقويته كما.
ذكرناه وان كان هو حاصلا قبلها وقد اعترض عليه شيخنا أبو حيان فقال تقسيم المصنف وغيره من هذه الزائدة إلى أنها تكون لاستغراق الجنس ولتأكيد الجنس ليس هو مذهب سيبويه رحمه الله بل قولك ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى وانما حمل شيخنا أبا حيان على ذلك انه لم يفرق بين العموم وتنصيص العموم ففهم كلام ابن مالك على خلاف ما أراد ثم اعترض عليه والحق ما ذكرناه وان العموم قبل دخول من ظاهر لا نص واحتماله للخصوص احتمال كبير وان كان مرجوحا وبعد دخول من العموم نص واحتمال الخصوص ضعيف جدا بحيث لا يكاد يوجد في كلام العرب ولا ينبغي ان يكون في ذلك خلاف بل ينزل اختلاف كلام العلماء على هذا التنزيل الذي ذكرناه وانه متى قلت ما جاءني رجل أفاد الاستغراق مع جواز إرادة الوحدة جواز منكر.
وإذا قلت ما جاءني من رجل كان الاستغراق فصار إرادة الخصوص مستنكرة.
وإذا قلت ما جاءني أحد كان نصا في العموم لان أحد لا يدخل الا في النفي الا إذا كانت همزتها مبدلة من واو فإنها تدخل في الاثبات فلذلك يحتمل الخصوص ايضا فإذا دخلت عليه من كقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1لم يبق الاحتمال الخصوص وجه وقد تمسك القرافي في ان ما جاءني رجل لا يفيد العموم بقوله الزمخشري في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2 إنما استفيد العموم من لفظه من ولو قال مالكم اله غيره لم يعم مع ان لفظه اله نكرة وقد حكم بأنه لا يعم وكذلك قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ} 3 قال إنما استفيد العموم من لفظه من تكون لإرادة العموم نحو ما تقدم وتارة تؤكد العموم كقولك ما جاءني من أحد وهذا الذي قاله الزمخشري يمكن تأويله على أنها أربع مراتب كما أشرنا إليه أدناها في إفادة العموم ما جاءني رجل لعدم دخول من ولعدم اختصاص رجل بالنفي وأعلاها ما جاءني من ديار لانتفاء الأمرين والمرتبة المتوسطة ما جاءني من رجل وما جاءني أحد كما أشرنا إليه من قبل فان أراد الزمخشري ذلك صح كلامه وإلا فهو ممنوع لان قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 4 وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} ونظائرهما مما لا شك في إفادته العموم وليس فيه من ولا لفظ مختص بالنفي وأيضا فان النكرة تدل على المساهمة ولا دلالة لها على قيد الوحدة وان كانت محتملة له والاصل عدمه فدخول النفي عليها بنفي معناها بطريق الأصالة وهو مطلق الماهية ويلزم منه العموم واما احتمال قيد الوحدة فهو سابع ولكنه خلاف الأصل والظاهر فلا يجعل هو الأصل في الدلالة ولا مساويا لما هو الأصل وإذا تؤمل كلام العرب حصل القطع بذلك ولم يثبت في هذه المسالة خلاف ومن ادعى فيها خلافا يحتاج إلى بيان ورد لما قلناه ومع كون من هذه تفيد نصية العموم أو تأكيده في محتملة لان يكون للتبعيض أولا ابتداء الغاية.
وقال ابن مالك ان في كلام سيبويه إشارة إلى أنها للتبعيض وهو كما قال
1 سورة الحاقة آية 47.
2 سورة هود آية 50.
3 سورة يس آية 46.
4 سورة البقرة آية 48.
لأن سيبويه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل أدخلت من لأن هذا موضع تبعيض فأراد أنه لم يأت بعض الرجال وقال شيخنا أبو حيان ان هذا غير مرضي من ابن مالك لأنه يلزم منه ان تكون ألفاظ العموم للتبعيض وانما المقصود بزيادة من في نحو ما أتاني من رجل جعل المجرور بها نصا في العموم وانما تكون للتبعيض فيما إذا لم يقصد عموم وحسن في موضعها بعض نحو من الناس من يقول وهذا الذي قاله شيخنا غير مرضي والحق ما قاله ابن مالك وقد وافق شيخنا في آخر كلامه على جواز إرادة ذلك وعجب قوله انه يلزم ان يكون ألفاظ العموم للتبعيض وانما حمله على ذلك توهمه ان اصل العموم مستفاد من لفظة من وقد بينا خلافه فيما تقدم والله اعلم.
فائدتان: الاولى صرح امام الحرمين بأن النكرة في سياق الشرط تعم في قول القائل من يأتني بمال أجازه فلا يختص هذا بمال هذا كلامه ومراد العموم البدلي لا الشمولي وهو صحيح.
الثانية: اختلف في ان النكرة في سياق النفي هل عمت لذاتها والنفي المشترك منهما.
والثاني: هو قول الحنفية واختاره والدي أيده الله فلم يحصل العموم عندهم الا لأن حرف النفي اقتضى نفي الماهية الكلية ونفي الأعم يلزم منه نفي الأخص فحصلت السالبة الكلية بطريق اللزوم لا لأن اللفظ موضوع في اللغة للسالبة الكلية وظاهر كلام غيرهم من الشافعية الأول وهو ان اللفظ وضع لسلب كل فرد من افراد الكلية وان سلب الكلي حصل بطريق اللزوم لنفي الكلية عكس تلك المقالة فإنه يلزم من نفي كل فرد نفي الكلي ومن نفي الكلي نفي كل فرد فهما متلازمات وهذا المذهب هو الظاهر عند القرافي وينبني على الخلاف التخصيص بالنية فإن قلنا يقول الحنفية من أنه نفي للكلي فلا يؤثر حتى لو قال لا أكلت ونوى معينا لا يسمع وإن قلنا بالقول الآخر من انه نفي للكلية فيؤثر تخصيص بعض الأفراد بالنية.
قال أو عرفا مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فإنه يوجب حرمة جميع الاستمتاعات.
هذا هو القسم الثاني: وهو تقيد العموم من جهة العرف مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فإن أهل العرف نقلوا تحريم العين إلى تحريم جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء فيفيد حرمة جمع الاستمتاعات من الوطء ومقدماته ومنهم من يقول.
المقصود في هذه الآية تحريم الوطء خاصة ومنهم من تدعي إجمالها كما ستعرفه في باب المجمل والمبين لأن المصنف ذكر قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فإنا حملناه على الأكل للعرف
والخلاف في هذه الآية هو الذي في تلك.
قال أو عقلا كترتب الحكم على الوصف.
هذا هو القسم الثالث: وهو ما يدل عليه بالعقل وهو ثلاثة.
الأول: وعليه اقتصر في الكتاب ترتيب الحكم على الوصف فإن ترتيبه يشعر بكونه علة له وذلك يفيد بالعقل على معنى أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انتفت انتفي فهذا القسم إنما دل بالعقل ولم يدل باللغة ولا بالعرف أما العرف فواضح وأما اللغة فلأنه لو دل بها لكان أما المنطوق أو المفهوم وانتفاء المفهوم ظاهر ولا يدل بالمنطوق لان تعليق الشيء بالوصف لا يدل على التكرار لفظا.
والثاني: ما يذكر جوابا عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عمن افطر فقال عليه الكفارة فيعلم أنه يعم كل مفطر.
والثالث: مفهوم المخالفة عند القائلين به كقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" فانه بمفهومه يدل على أن مطل غير الغني لا يكون ظلما وأما مفهوم فداخل في القسم الأول إذا الحكم إنما ثبت فيه بطريق الأولى لأجل أن العلة فيه أولى أو لكونه مساويا لأجل ان العلة اقتضت ذلك فكان من جملة أصناف القسم الأول.
قال ومعيار العموم جواز الاستثناء فانه يخرج ما يجب اندراجه لولاه وإلا لجاز من الجمع المنكر قيل لو تناوله لامتنع الاستثناء لكونه نقضا قلنا: منقوض بالاستثناء من العدد.
ذهب قوم وهم الملقبون بأرباب الخصوم إلى انه ليس للعموم صيغة تخصه وان ما سبق ذكره من الصيغ موضوع في الخصوص وهو اقل الجمع أما إثنان أو ثلاثة على الخلاف فيه واستعمل في العموم مجازا وذهب الشافعي وسائر المحققين إلى أن له صيغا مخصوصة به بالوضع ويستعمل مجازا في الخصوص وذهب آخرون الى الوقف ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشيخ ومعظم المحققين وذهب إليه قال وحقيقة ذلك انهم قالوا سبرنا اللغة ووضعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم سواء وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد واقفية مذهب آخر وهو دعوى الاشتراك.
ونقل عن الشيخ ايضا وعليه الاكثرون من الواقفية ومنهم من فصل بين الاخبار والوعيد والأمر والنهي.
فقال: بالوقف في الاخبار والوعد والوعيد دون الامر والنهي هذه مذاهب خمسة وحكى القاضي في تختصر التقريب سادسا وهو تسليم العموم حالة التقييد بضروب من التقييد فلفظ الناس مثلا إذا قلنا انه لا يعم حالة الاطلاق فنسلم انه عام في مثل قوله القائل الناس أجمعون عن آخرهم صغيرهم وكبيرهم لا يشذ منهم أحد إلى غير ذلك.
قال القاضي والمحققون من الواقفية يقولون:
وان قيدت بهذه القيود فليست موضوعة للاستغراق في اللغة ولكن قد يعرف عمومها بقرائن الأحوال المقترنة بالمقال وهي مما لا تنحصر بالعبارة كما يعرف بالقرائن وجل الرجل وان كانت القرائن لا توجب معرفتها ولكن أجرى الله العادة بخلق العلم الضروري عندها.
وسابعا: عن بعض الواقفية ان الخير إذا انطوى على وعيد العصاة من أهل الملة لزم التوقف فيه ولا يتوقف في غيره.
وثامنا: وهو التوقف في الوعيد دون الوعد قال وفرق بينهما بما يليق بالشطح والبرهان دون الحقائق.
وتاسعا: عن بعض المنتمين إلى الواقفية وهو ان الاخبار إذا وردت ومخرجها مخرج العموم عند القائلين به وسمعها السامع وكانت وعدا أو وعيدا ولم يسمع من آي الكتاب وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم ومواقع أدلة السمع شيئا فيعلم ان المراد بها العموم وان كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها للخصوص والعموم فلا يعلم حينئذ العموم في الاخبار اتصلت به.
قال: واعلم ان هذه الفئة بالنسبة إلى القائلين بالعموم أولى منهم بالنسبة إلى الواقفية هذا ما حكاه القاضي في هذا الكتاب ثم أطنب في الاستدلال على مذهبه والرد على خصومه وهذه المذاهب التي حكاها ذكرها غيره وانما أردت سردها من كلام القاضي.
واعلم ان هذا الكتاب قد أكثرنا النقل عنه في هذا الشرح وهو كتاب التلخيص لامام الحرمين اختصر من كتاب التقريب والإرشاد للقاضي فلذلك أغزو النقل تارة إلى التلخيص لامام الحرمين وذلك حيث يظهر لي ان الكلام من أمام الحرمين فإنه زاد من قبل نفسه أشياء على طريقة المتقدمين في الاختصار وتارة أعزوه إلى مختصر التقريب وهو حيث لا يظهر لي ذلك والذي أقوله ليستفاد اني على كثرة مطالعتي في الكتب الأصولية للمتقدمين والمتأخرين وتنقيبي عنها على ثقة بأني لم أر كتابا اجل من هذا التلخيص لا لمتقدم ولا لمتأخر ومن طالعة مع نظره الى ما عداه من المصنفات علم قدر هذا الكتاب وفي المسألة قوله.
عاشرا: حكاه المازري في شرح البرهان فقال أشار بعض المتأخرين في بعض الفاظه إلى طريقة مستغربة لا يكاد يصغي إليها أحد من أهل هذه الصناعة فقال ان لفظة المؤمنين والكافرين حيث ما وقعت في الشرع أفادت
العموم ويمكن ان يكون هذا من أحكام الشرع في بعض الالفاظ اللغوية كاحتكامه في لفظ الصلاة والحج والصوم وهنا تنبيهات.
أحدها: أن الواقفية وإن قالت لم يوضع اللفظ لخصوص ولا عموم.
قالت: بانا نعلم أن اقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه قال امام الحرمين ومما دل الناقلون فيه انهم نقلوا عن أبي الحسن ومتبعيه ان الصيغة وان تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالحج بل تبقى على التردد.
قال: وهذا وان صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين اكثعين ابصعين فأما ألفاظ صريحة تعرض مقيدة فلا يظن بذي عقل أنه يتوقف فيها.
الثاني: قال امام الحرمين لا ينكر أحد من الواقفية أمكان وأيضا استدلال الصحابة بعموم ذلك مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} .
التعبير عن معنى الجميع بترديد ألفاظ مشعرة به كقول القائل رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتن منهم أحدا وإنما كرر هذه الالفاظ قاطعا لوهم من يحسبه خصوصا الى غير ذلك.
قال: وانما انكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى وقد علمت فيما تقدم من كلامه في التلخيص أن الذي ادعى فيه الوفاق محل خلاف ولا يتوهم ان مراده بالجمع القدر المخصوص الذي هو ثلاثة أو اثنان وانما مراده العموم يدل عليه.
قوله: إنما كرر هذه الالفاظ قطعا لوهم من يحسبه خصوصا.
وقوله: رأيت القوم واحدا واحدا لم يغتني منهم أحد وقد أطلنا في حكاية المذاهب فلنعد الى الشرح فنقول الذي ذهب إليه المصنف تبعا لامام مذهب الشافعي وهو المختار ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن الفقهاء بأسرهم والآمدي قال المختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الالفاظ في الخصوص لكونه مرارا من اللفظ يقينا سواء أريد به الكل أو البعض والوقف
فيما زاد على ذلك هذا كلامه وهو قريب من مذهب الواقفية الا انه لم يصرح بأنه متردد في ان العموم هل له صيغة أو هل الصيغة مشتركة وانما ذكر الاحتجاج فقط وابن الحاجب لم يتابعه على هذا بل اختار مذهب الشافعي رضي الله عنه واستدل المصنف عليه بوجهين.
أحدهما: انه لو لم تكن هذه الصيغ للعموم لما جاز دخول الاستثناء لكنه يجوز أن يستثني منها ما يشاء من الأفراد بالاتفاق فدل على أنها للعموم وبيان الملازمة ان الاستثناء وإخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه فلزم ان يكون كل الأفراد واجبة الإندراج ولا معنى للعموم الا ذلك وانما قلنا لولا الاستثناء لوجب اندراج المستثنى في المستثنى منه ولان الاندراج جائز بالاتفاق فلو لم يكن واجبا ايضا لكان يجوز الاستثناء من الجمع المنكر لاشتراكهما في إمكان اندراج كل فرد من أفرادهما تحته فتقول جاء رجال الا زيدا وقد نص النحاة على منعه وأجاب بأن ما ذكرتموه منقوض بالاستثناء من العدد فانه يجوز وهذا الجواب أولا ضعيف لان للخصم أن يمنع صحة الاستثناء من تعدد كما هو أحد المذاهب للنحاة وصححه إبن عصفور.
وثانيا: لا يحتاج إليه لأنه لم يدع وجوب الاندراج مع كونه مستثنى وانما ادعاه عند عدمه ولهذا قال ما يجب اندراجه لولاه وعلى هذا الفرض فالمستثنى ليس داخلا في المستثنى منه نية وإنما هو داخل لغة لأن المختار أن الحكم على المستثنى منه إنما هو بعد إخراج المستثنى فلا تناقض واعترض القرافي على الدليل بان الاستثناء أربعة أقسام ما لولاه لعلم دخوله نحو عشرة الا اثنين وما لولاه لظن دخوله وهو الاستثناء من العمومات نحو اقتلوا المشركين الا زيدا وما لولاه لجاز دخوله من غير علم ولا ظن وهو أربعة الاستثناء من المحال نحو اكرم رجلا الا زيدا فان كل أخص محل لأعمه والأزمنة نحو صل الا عند الاستواء والأمكنة نحو صل الا في الحمام والأحوال كقوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} 1 أي في كل حالة من الأحوال الا في حالة الإحاطة بكم وما لولاه لامتنع دخوله نحو الاستثناء المنقطع في قولك قام القوم
1 سورة يوسف آية 66.
الا حمارهم وإذا كان الاستثناء اعم من كل واحد من هذه الاقسام امتنع الاستدلال به على الوجوب فان الخصم لا يعتقد الا الجواز في هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعى ان امتنع الاستدلال به على فإن الخصم لا يعتقد الا الجواز في هذه الصورة هذا اعتراضه والجواب ان لا ندعي ان مطلق الاستثناء لإخراج ما لولاه لوجب دخوله وانما ندعي ذلك في صيغة من وما والمجموع المعرفة والدليل عليه اجماع أئمة العربية على ان الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ والاتفاق على انه يصح الاستثناء من هذه الصيغ وهاتان المقدمتان يفيدان كون هذه الصيغة للعموم والمقدمة الإجماعية لا تمنع ولا تعارض سواء قلنا تفيد العلم أم لا وأيضا فالاستثناء إخراج ما لولاه لدخل سواء كان معلوم الدخول أو مظنون الدخول وذلك هو القدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو المجاز وهما على خلاف الأصل واما استثناء الجائز فممنوع وقوله المحال نحو أكرم رجلا الا زيدا.
قلنا: قال النحاة لا يستثنى المعرفة من النكرة الا ان عمت نحو ما قام رجال كانوا في دارك الا زيد منهم وليس في قولكم اكرم رجلا الا زيدا واحدا الأمرين واما الأزمنة والأمكنة والأحوال فإنما ذلك لتقدير لأنك تقدر صل كل وقت وصل في كل مكان ولتاتنني به في كل حاله فالاستثناء بعد ذلك إنما ورد على داخل في اللفظ والله اعلم قال وأيضا استدلال الصحابة بعموم ذلك مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله الأئمة من قريش نحن معاشر الأنبياء لا نورث شائعا من غير نكير.
الوجه الثاني: من الاستدلال أن الصحابة رضي الله عنهم استدلت بعموم بعض هذه الصيغ أو بعضهم وشاع ولم ينكر فكان اجماعا وبيان ذلك انهم استدلوا لعموم اسم الجنس المحلى بالألف واللام على العموم وذلك نحو قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 1وعملوا بمضمون ذلك واستدلوا بعموم الجمع المضاف نحو تعالى:
1 سورة النور آية 2.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1 واستدل أبو بكر رضي الله عنه ايضا بعمومه فانه رد على فاطمة رضي الله عنها لما طلبت منه ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم:
"نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" 2 وهذه الواقعة على هذا النسق لا اعرفها وانما اخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ان فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثها من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبان سهمه من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة".
وروى الترمذي في غير الجامع: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" قال شيخنا الذهبي3 وفي صحته نظر واستدل عمر رضي الله عنه بعموم اسم الجمع المحلى فانه قال لأبي بكر رضي الله عنه حين عزم على قتال مانعي الزكاة كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم" فقال له أبو بكر أليس قد قال: "إلا بحقها" وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وتمسك به أيضا أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" 4 وحديث الائمة من قريش رواه العام احمد والنسائي
1 سورة النساء آية 11.
2 روى هذا الحديث البخاري في كتاب فضل الجهاد باب فرض الخمس 4/98وكتاب الفرائض باب: لانورث ماتركناه صدقة 8/185 كما رواه مسلم في باب حكم الفيء5/153- 154 كذا رواه النسائي في سننه الكبرى بلفظ إنا بدلا من نحن. ولا تعارض بين الحديث وبين قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} النمل آية 16فإن المقصود في الآية الكريمة هو وارثة العلم أو النبوة والملك. والله أعلم. اهـ محققة.
3 هو محمد بن أحمد بن عثمان قايماز الذهبي حافظ مؤرخ تركماني الأصل من أهل ميا فارقين.
مولده ووفاته في دمشق رحل إلى القاهرة وطاف كثيرا من البلدان تصانيفه تفوق الحصر. منها: دول الإسلام: وتاريخ الإسلام الكبير: وسير النبلاء وتذكرة الحفاظ وغير ذلك.
توفي سنة 748هـ. وفوات الوفيات 2/3/183، الإعلام 6/222- 223.
4 رواه البخاري – فتح الباري 13/93 ، والنسائي وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس كما رواه أحمد في مسنده 1/93، 3/129، 183، 4/421.