الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث في الإجماع
الباب الأول في بيان حجيته
المسألة الأولى: ذهب بعضهم إلى استحالته
…
الباب الأول في حجية الإجماع
قال وفيه ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في بيان كونه حجة وفيه مسائل.
الأولى: قيل محال كاجماع الناس في وقت واحد على مأكول واحد وأجيب بأن الدواعي مختلفة ثم وقيل يتعذر الوقوف عليه لانتشارهم وجواز خفاء واحد وخموله وكذبه خوفا ورجوعه قبل فتوى الآخر وأجيب بأنه لا يتعذر في أيام الصحابة فانهم كانوا محصورين قليلين.
إنما بدا الكلام على إمكانه وإمكان الاطلاع عليه لتوقف الاحتجاج به على ذلك.
وقد ذهب بعضهم إلى أن الاجماع محال لأن اجتماع الخلق على شيء واحد يمتنع عادة كما يمتنع عادة اجتماعهم على مأكول واحد في وقت واحد وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال كذلك اتفاقهم في النظريات محال.
والجواب أن الدواعي مختلفة ثم أي في المواكيل بخلاف الأحكام لامكان اجتماعهم على معرفة برهان أو إمارة.
وذهبت طائفة من المعترفين بامكان الإجماع إلى تعذر الاطلاع عليه وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها الآمدي وغيره وقيل إنما استعبد وقوعه ولم يقل بتعذر الاطلاع عليه واحتجوا بانتشار العلماء شرقا ومغربا قالوا فكيف يعرف موافقة من في أقاصي المشرق من في أطراف المغرب قالوا وأيضا يجوز خفاء واحد
وخمول ذكره حيث لا يعرف أنه مجتهد قالوا ويحتمل أيضا كذبه أيضا مخالفة من سلطان جائر أو مجتهد ذي منصب وبطش أفتى بخلاف معتقده قالوا ويحتمل أيضا أن يرجع قبل فتوى الآخر فلا يبرحان مختلفين فلا يقع الإتفاق.
قالوا فاحتمال الخفاء والخمول بنفي معرفة أعيانهم ولا بد منها واحتمال الكذب ينفي معرفة ما غلب على ظنه ولا بد منه والاحتمال الأخير ينفي معرفة اجتماعهم في وقت واحد ولا بد منه ايضا.
وأجاب في الكتاب بأن ذلك لا يتعذر في أيام الصحابة فإنهم كانوا محصورين قليلين وقضية هذا الجواب أنه لا طريق إلى معرفته في زمن غيرهم.
قال الإمام وهو الإنصاف ومنهم من أجاب بأنهم وإن كانوا كثيرين بحيث لا يمكن الواحد أن يعرفهم بأعيانهم فإنه يعرف بمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم وخمول المجتهدين بحيث لا يعرفه أهل بلدته مستحيل عادة فوضح إمكان الاطلاع على إجماع من عدا الصحابة وحكم اجماع من عدا الصحابة حكم اجماع الصحابة في كونه حجة.
هذا قول الجمهور وقالت الظاهرية أن الإجماع مختص بالصحابة وهو رواية عن أحمد.
المسألة الثانية: حجية الإجماع والدليل على ذلك
…
قال الثانية: أنه حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا وجوه.
الأول: أنه تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال ومن يشاقق الرسول الآية فتكون محرمة فيجب اتباع سبيلهم اذ لا مخرج عنها قيل رتب الوعيد على الكل.
قلنا: لا بل على كل واحد وإلا لغي ذكر المخالفة قيل الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف قلنا لا وإن سلم لم يضر لأن الهدى دليل التوحيد والنبوة.
قيل: لا يوجب تحريم كل ما غير قلنا يقتضي لجواز الاستثناء.
قيل السبيل دليل الإجماع قلنا حمله على الإجماع أولى لعمومه.
قيل يجب اتباعهم فيما صاروا به مؤمنين قلنا حينئذ تكون المخالفة المشاقة قيل بترك الاتباع رأسا قلنا الترك غير سبيلهم قيل لا يجب اتباعهم في فعل المباح قلنا: كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قيل المجمعون اثبتوا الحكم بالدليل قلنا خص النص فيه كل المؤمنين الموجودون إلى يوم القيامة بل في كل عصر لأن المقصود العمل ولا عمل في القيامة.
اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم وخالف في ذلك الشيعة والخوارج والنظام ونقل ابن الحاجب أن النظام يحيل الاجماع وهو خلاف نقل الجمهور عنه.
وقد صرح الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأنه لا يحيله وهو أصح النقلين واعلم ان النظام المذكور هو أبو اسحاق ابراهيم بن سيار النظام كان ينظم الخرز بسوق البصرة وكان يظهر الاعتزال وهو الذي ينسب إليه الفرقة النظامية من المعتزلة لكنه كان زنديقا وإنما أنكر الإجماع لقصده الطعن في الشريعة وكذلك أنكر الخبر المتواتر مع خروج رواته عن حد الحصر هذا مع قوله بأن خبر الواحد قد يفيد العلم فاعجب لهذا الخذلان وأنكر القياس كما سيأتي وكل ذلك زندقة لعنه الله وله كتاب نصر التثليث على التوحيد.
وإنما أظهر الاعتزال خوفا من سيف الشرع وله فضائح عديدة واكثرها طعن في الشريعة المطهرة وليس هذا موضوع بسطها.
واستدل المصنف على حجية الإجماع من ثلاثة أوجه:
الأول: الآية وأول من تمسك بها إمامنا الشافعي رضي الله عنه قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع روي أن الشافعي قرا القرآن ثلاث مرات حتى وجد هذه الآية وهي قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 وجه الحجة أنه
1 سورة النساء آية 115.
تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد في قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} فيلزم تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين لأنه لو لم يكن محرما لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ان الجمع بين حرام ونقيضه لا يحسن في وعيد ولأجله يستقبح إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فدل على حرمة اتباع غير سبيلهم وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم لأنه لا يخرج عنهما أي لا واسطة بينهما وإن لزم اتباع سبيلهم ثبت حجية الإجماع لأن سبيل الشخص ما يختار من قول أو فعل واعتقاد.
وقد اعترض الخصم على هذا الدليل بوجوه:
الأول: أنه رتب الوعيد على الكل أي على المجموع فليست متابعة سبيل غير المؤمنين محرمة على الاطلاق بل كونها محرمة مشروطة بمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج عن هذا مثل ان زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شربت الماء غير محظور لا مطلقا ولا شرط الزنا.
وجوابه أن الوعيد إنما رتب على كل واحد منهما كما ادعيناه وإلا يلزم أن يكون ذكر المخالفة وهو قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لغو لأمرين.
أحدهما: المشاقة مستلزمة لمخالفة سبيل المؤمنين وحينئذ فلا يحتاج إلى المخالفة.
والثاني: أن المشاقة وحدها مستقلة في ترتيب الوعيد واللغو محال في كلام الله عز وجل.
الوجه الثاني: سلمنا ان الآية تقتضي أن المنع من اتباع غير سبيل المؤمنين لا يشترط المشاقة لكن لا بد فيها من شرط آخر وهو تبين الهدى لأنه تعالى شرط في مشاقة الرسول تبين الهدى ثم عطف عليها متابعة غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطا فيها أيضا لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف والألف واللام في الهدى للعموم فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى دليل الاجماع.
وعلى هذا التقدير لا ينفي في التمسك بالاجماع فائدة إذ يستغنى بحصول دليل الإجماع عن الإجماع وجوابه منع كون جميع ما كان شرطا في المعطوف عليه شرطا في المعطوف والعطف إنما يقتضي التشريك في بعض الأحكام دون بعض.
ولو سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف لم يضر لأن الهدى المشروط في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة لأدلة الأحكام الفرعية وإن لم يشترط تبين دلائل المسائل الفرعية في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول لم يشترط في لحوقه على اتباع غير سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بما شرط في الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا.
الوجه الثالث: سلمنا حرمة المخالفة في الجملة لكن لا نسلم أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين يوجب تحريم جمع ما غاير سبيلهم بل يوجب حرمة البعض ودليل ذلك أن كلا من لفظ غير ولفظ سبيل مفرد لا عموم له ولا يلزم حرمة بعض ما يغاير سبيلهم حجية الإجماع لجواز أن يكون ذلك البعض هو الإيمان وشبهه مما لا خلاف في حرمة المخالفة فيه.
الجواب: إنهما يقتضيان العموم لما فيهما من الإضافة وقد تقرر أن المفرد المضاف يعم ويدل عليه هنا صحة الاستثناء فتقول الا سبيل كذا وجواز الاستثناء من لوازم العام كذا قرروه ولكن أن تنازع في عموم غير وأمثالها كبعض وجزء إذا أضفن مع تسليم أن المفرد المضاف يعم وذلك لأن إضافة غير ليست للتعريف وقد يقال إن العموم تابع للتعريف ويبعد كل البعد أن يفهم من قول القائل أخذت جزء المال أو بعضه انه أخذ جميعه بل يقال أو أخذه المال جميعه يكون مناقضا لهذا اللفظ لأن الجزء أو البعض صريحان في خلافه وللبحث فيما نبهنا عليه محال.
وقد أجاب الإمام بجوابين آخرين:
أحدهما: أنه لوحملنا الآية على سبيل واحد وهو غير مذكور في الآية صارت
مجملة بخلاف ما إذا حملناه على العموم وحمل كلام الله تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى.
والثاني: أن ترتب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة له فكانت علة التوعد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضى.
الوجه الرابع: إن السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي ولا شك أنه غير مراد هنا فتعين حمله على المجاز وهو إما الدليل الذي أجمعوا على الحكم لأجله وبقي الاجماع والأول أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة قوية فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك فإنما يجب الأخذ بالدليل الذي لأجله أجمعوا لا بإجماعهم.
وجوابه أن السبيل يطلق على الإجماع أيضا إذ لا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو عمل وقد قال تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} .
وإذا كان مجازا ظاهرا في الإجماع حمل عليه دون غيره من مجازاته لظهوره فيه ولعموم فائدة الإجماع يعمل به المجتهد والمقلد والدليل إنما يعمل به المجتهد.
الوجه الخامس: سلمنا دلالة الآية على وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن لا في كل شيء لأن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شيء من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث أنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم بعدم وجوبه وإذا لم يكن إتباعهم واجبا في كل شيء فإنما يجب في السبيل الذي صاروا به مؤمنين يدل عليه أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما صاروا به صالحين.
وجوابه أنها تدل على اتباعهم في كل شيء لجواز الاستثناء كما عرفت وقولك يلزم اتباعهم في فعل المباحثات قلنا هب أن هذه صورة خصت لما ذكرت من الضرورة فتبقى حجة فيما عداها ويلزم من قولك إنما يجب إتباعهم فيما صاروا به مؤمنين أن يكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة فانه لا معنى لمشاقة الرسول عليه السلام إلا أن يترك الإيمان فلو حمل على ما ذكرت لزم التكرار.
الوجه السادس: سلمنا خطر إتباع غير سبيلهم لكن لا نسلم وجوب إتباع سبيلهم وقولكم لا واسطة بينهما غير مسلم فبينهما واسطة وهي ترك الاتباع أصلا فلا يتبع لا سبيل غيرهم ولا سبيلهم.
والجواب: إن ترك الاتباع أيضا مطلقا إتباع لغير سبيلهم لأن سبيلهم الأخذ بمقالتهم وترك الأخذ غير سبيلهم فثبت حرمة متابعة غير سبيل المؤمنين ويلزم منه وجوب المتابعة وهو المدعي.
الوجه السابع: سلمنا أنه يجب اتباعهم لكن لا في كل شيء بدليل أنه لا يجب في فعل المباح كالأكل والشرب وقد تقدم هذا لكن في كلام صاحب الكتاب.
والجواب: أنه كقيام الدليل على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كما أخرج منه المباح يخرج من متابعة سبيل المؤمنين أيضا.
الوجه الثامن: الدليل على أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور أن إجماعهم إنما يكون عن دليل فسبيلهم ليس إثباته باجماعهم بل بذلك الدليل وهذا واضح فالآخذ بإجماعهم مخالفة لسبيلهم فوجب أن لا يجوز وظهر أنه لا يجب المتابعة في كل الأمور.
والجواب: أنهم لما اثبتوا الحكم بدليل غير الإجماع فقد فعلوا أمرين إثباته بالدليل وتمسكهم بالإجماع والآية لما دلت على وجوب المتابعة في كل الأمور تناولت الصورتين لكن ترك العمل بمقتضاها في إحدى الصورتين لإنعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الإستدلال بما استدل به أهل الإجماع فبقي العمل بها في الباقي.
الوجه التاسع: سلمنا وجوب إتباعهم في جميع الأمور ولا يلزم حجية إجماع أهل العصر لأن المؤمنين كل الموجودين إلى يوم القيامة بدليل أنه جمع محلى بالألف واللام وحينئذ الحجة في إجماع كل المؤمنين لا مؤمني العصر الواحد.
والجواب: أنه إنما المراد مؤمنو العصر لأن المقصود من الإجماع إنما هو العمل به وإذا كان المراد كل المؤمنين إلى يوم القيامة تعذر العمل به لأنه لا عمل يوم القيامة لانتفاء التكليف إذ ذاك.
قال الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} عدلهم فيجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا كبيرة وصغيرة بخلاف تعديلنا قيل العدالة فعل العبد والوسط فعل الله تعالى قلنا الكل فعل الله تعالى على مذهبنا قيل عدول وقت الشهادة قلنا حينئذ لا مزية لهم فإن الكل يكونون كذلك.
الوجه الثاني: من الأوجه الدالة على حجية الإجماع قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أخبر تعالى بأن هذه الأمة وسط والوسط من كل شيء خياره وأعدله فيكون الله تعالى قد عدل هذه الأمة وأخبر عن خيرتها فلو أقدموا على شيء من المحظورات لا تنفي عنهم هذا الوصف فيجب عصمتهم عن الخطأ كبيرة وصغيرة.
في قول وفعل لأن تعديلهم من الله تعالى وهو عليم بالسر والعلانية فلو كان فيهم عاص لما عدله بخلاف تعديلنا فإنه مبني على ظننا وما أدى إليه نظرنا مع احتمال خلافه في نفس الأمر.
فإن قلت الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي إتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الإمام المعصوم قلت لا نسلم أنها متروكة الظاهر قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت أنه لا يجوز إجراؤه على ظاهره وجب أن يكون المراد إمتناع خلو الأمة عن العدول.
وقوله: يحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله جعلناكم أمة وسطا صيغة جمع فحمله على الواحد خلاف الظاهر هذا كلام الإمام سؤالا وجوابا وقد يقال لا يجمع قول الإمام لا نسلم أنها متروكة الظاهر.
قوله: لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره إلى آخره وهو سؤال قوي.
ويمكن أن يقال في جوابه أن الخصم المدعي أن ظاهر الآية موضوع اللفظ وهو تعديل كل واحد وهو غير مراد.
والإمام أجاب بمنع كونها متروكة الظاهر ومراد الإمام بظاهرها غير مراد الخصم فقوله لا نسلم أنها متروكة الظاهر يعنى بالمعنى الذي نعنيه نحن بالظاهر وقوله لما ثبت أنه لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره يعني ظاهره الذي عينتموه أنتم وظاهرها عند الإمام أن الأمة لا تخلو عن العدول وهو غير موضوع اللفظ وظاهرها عند الخصم موضوع اللفظ وهذا أقصى ما يقال في الجواب.
وقد قيل مثله في آيات الصافات فادعى بعض الباحثين المتأولين أهل السنة أن ظاهرها هو المعنى الذي أولت عليه لأنه لما ثبت ان إجراء اللفظ على موضوعه ممتنع وجب حمله على ذلك المعنى.
وكان هو الظاهر ومثل هذا يقول الملك المتغلب في حال قهره وسطوته على عدوه الخسيس أنا فوقك ويدي عليك قال فإن ظاهر هذا اللفظ المتبادر إلى الفهم غير ما هو موضوعه فليس كل ما هو موضوع اللفظ يكون ظاهره وكذلك قولك رأيت أسدا يرمي بالنشاب ليس ظاهره إلا المجاوز وهو غير الموضوع الحقيقي فقد تقرر كلام الإمام.
فإن قلت سلمنا أن الآية ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم ان الوسط من كل شيء خياره ويدل عليه وجهان.
الأول: أن العدالة من فعل العبد إذ هي عبارة عن أداء الواجبات واجتناب الموبقات وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم أمة وسطا فاقتضى أن كونهم وسطا من فعل الله تعالى فظهر أن العدالة غير الوسط.
الثاني: سلمنا أنه تعالى عدلهم لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم يومئذ لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الآداء
لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه فإن الأمة تصير معصومة في الآخرة وأما في الدنيا فلم قلتم إنها كذلك.
قلت: أما أن الوسط من كل شيء خياره فقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أي أعدلهم.
وقال عليه السلام: "خير الأمور أوسطها" أي أعدلها.
وقال أهل اللغة الوسط العدل قال الجوهري: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا} أي عدولا.
وأما ما ذكرتموه فالجواب عن الأول انه باطل على مذهبنا بل الكل من فعل الله تعالى.
قلت: إن العدالة كما مر في تعريفها ليست عبارة عما ذكر بل هي ملكة في النفس وما ذكر تحقق تلك الملكة به والملكة من فعل الله تعالى.
وعن الثاني وإليه أشار في الكتاب بقوله قلنا حينئذ لا مزية لهم أن جميع الامم عدول في الآخرة فلو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لم يبق في هذه الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المزية والفضيلة وأيضا فكان يقول سنجعلكم لا جعلناكم وقد عرض للإعتراض كلامان.
إحداهما: لا نسلم أنه يلزم من عدم صدور المحظور عنهم كون قولهم حجة فرب صالح لا يرتكب معصية جاهل لا يمنع بقول في الشريعة ولا يعطى.
والثاني: أن العدالة لأننا في صدور الخطأ غلطا وقد يرد هذا بان العدالة التي لا تنافي صدور الخطأ هي تعديلنا أما العدالة من الله تعالى فتنافي ذلك والله أعلم.
قال الثالث: قال عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" ونظائره فإنها إن لم تتواتر لكن القدر المشترك بينهما متواتر.
هذا الدليل ساقط في كثير من النسخ ولذلك لا تجده مشروحا في بعض الشروح وهو اعتماد على السنة وقد قال الآمدي السنة أقرب الطرق في إثبات
كون الاجماع قاطعا وتقريره أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وأنه قال: "لا تجتمع على ضلالة" وهذان اللفظان لا تجدهما عند المحدثين نعم روى أبو داود من حديث أبي مالك الأشعري قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أجاركم من ثلاث أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة" وسنده جيد وروى معاذ بن رفاعة عن أبي خلف الأعمى عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن أمتي لا تجتمع على ضلالة" الحديث أخرجه ابن ماجه ومعاذ ضعفه ابن معين وغيره قال السعدي وابو حاتم الرازي ليس بحجة وقال ابن حبان استحق الترك وقال الأزدي لا يحتج بحديثه ولا يكتب وأما أبو خلف فكذبه ابن معين وقال أبو حاتم منكر الحديث ليس بالقوي وروي عن عبد الله بن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع الله هذه الأمة عل ضلالة أبدا" رواه الترمذي وقال غريب ممن هذا الوجه.
قلت: وفي إسناده سليمان بن سفيان وهو ضعيف عند المحدثين وقد اختلف أصحابنا في كيفية التمسك بالسنة على الإجماع فقالت طائفة هذه الأخبار وإن لم يتواتر واحد منها لكن القدر المشترك منها متواتر وهو عصمة الأمة عن الخطأ وهذه طريقة المصنف.
والامام استبعد إدعاء التواتر المعنوي من هذا الخبر وقال لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر ولو سلم فالتواتر إنما وقع في مطلق تعظيم الأمة ينافي الإقدام على الخطأ وما ذكره الإمام أولا صحيح وهو الذي ارتضاه القاضي في مختصر التقريب.
فقال أدعاء الإضطرار في هذه المسألة يقربك من الحيد عن الإنصاف ويوسع دعوى الضرورة في كثير من المعاني وأما قوله التواتر إنما وقع في مطلق التعظيم لأني التعظيم الخاص فلقائل أن يقول من تأمل الأحاديث واحدا واحدا عرف أن كلامنا يدل على هذا التعظيم الخاص وأنها كلها مشتركة في المتن مختلفة الأسانيد وسلكت طائفة أخرى.
قال القاضي وهي الأولى وهي أنا قد علمنا قطعا وانتشار أحتجاج السلف في الحث على موافقة الأمة واتباعها والزجر عن مخالفاتها بهذه الأخبار التي ذكرناها قال القاضي وما أبدع مبدع في العصر الخالية بدعة إلا وبخه علماء عصره على ترك الأتباع وإثار الإبتداع.
واحتجوا عليه بالألفاظ التي قدمناها وهذا مالا سبيل إلى جحده وقد تحقق ذلك في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولم يظهر أحد قبل النظام مطعنا في الأحاديث فلولا أنهم علموا قطعا صدق الرواة لوجب في مستقر العادة أن يبدوا ضربا من المطاعن في الأخبار.
هذا كلام القاضي ولقائل ان يقول أما أن السلف كانوا يوبخون على ترك الاتباع وإيثار الابتداع فمسلم وإما أنهم كانوا يحتجون على ذلك بالألفاظ المتقدمة فغير مسلم ولم تكن هذه الطريقة سالمة عن الإعتراض.
وقال الإمام لم يقل أحد أن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل منهم من نفى كونه دليلا بالأصالة ومنهم من جعله قاطعا وأما إمام الحرمين فقد أعترف بأنه ليس في السمعيات قاطع على أن الإجماع الاتباع وسلك طريقا آخر عقليا فقال القاطع على أنه حجة قاطعة أنا نقول للإجماع فيه صورتان نذكرهما ونذكر السبيل المرضي في اثبات الإجماع في كل واحدة منهما.
إحداهما: أن يصادف علماء العصر على توافرهم في أطراف الخطة وأوساطها مجمعون على حكم مظنون والرأي فيه مضطر فيعلم والحالة هذه أن اتفاقهم إن وقع فلا يحمل على وفاق اعتقادهم وجريانها على منهاج واحد فإن ذلك مع تطرق وجوه الإمكان واطراد الاعتياد مستحيل بل يستحيل اجتماع العقلاء على مقطوع به في أساليب العقول إذا كان لا يتطرق إليه إلا بانضمام نظر وسبر فكر وذلك لاختلاف الناظرين في نظرهم.
فإذا كان حكم العادة هذا في النظري القطعي في الظن بالنظري الظني الذي لا يفرض فيه قطع فإذا تقرر أن اطراد الاعتياد يحيل اجتماعهم على قول الظن فإذا الفيناهم قاطعين بالحكم لا يرجعون فيه رأيا ولا يرددون قولا فيعلم
قطعا أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعي قطعي عندهم ثم لا يبعد سقوط النقل فيه.
والصورة الثانية: إذا أجمعوا على حكم واسندوه إلى الظن وصرحوا به فهذا أيضا حجة قاطعة والدليل عليه أنا وجدنا العصبة الماضين والأئمة المنقرضين متفقين على تبكيت من يخالف إجماع علماء الدهر فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى الممروق والمحاداة والعقوق ولا يعدون ذلك أمرا هينا بل يرون الاستجواء على مخالفة العلماء ضلالا بينا.
وإجماعم هذا مع الإنصاف كالقطع في محل الظن عند نظر العقل فإذا التحق هذا بإجماعهم قطعا في حكم مظنون قطع به المجتمعون من غير ترديد ظن فليكن الإجماع على تبكيت المخالف وتعنيفه مستند قاطع ولا يبعد أن يكون ذلك بعض الأخبار التي ذكرناها من تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرائن الأحوال قصد النبي صلى الله عليه وسلم في انتصاب الإجماع حجة ثم عملوا ذلك وعملوا به واستجروا على القطع بموجبه ولم يهتموا بنقل سبب قطعهم فقد تقرر انتصاب الإجماع دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا هذا كلام إمام الحرمين.
وحاصله أن يقول انفاق الجمع العظيم على الحكم الواحد يستحيل ان لا يكون لدلالة وأمارة فإن كان لدلالة كان الإجماع كاشفا عن ذلك الدليل وحينئذ يجب اتباع الاجماع لأن مخالفته تكون مخالفة لذلك الدليل وإن كان لأمارة فقد رأينا الأولين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم على قاطع يمنع من مخالفة هذا الإجماع لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته.
قال الإمام وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال أنهم اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا امارة بل الشبهة وكم من المبطلين مع كثرتهم وتفرقهم شرقا وغربا قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم يجوز أن يكون لإمارة تفيد الظن قوله رأينا السلف مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع.
قلنا لا نسلم اتفاق السلف على ذلك سلمناه لكنك لما جاوزت حصول الإجماع لأجل الامارة فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع للصادر عن
الامارة لامارة أخرى فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الإمارة وقد تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع لم يكن عن إمارة.
قلت: إذا سلمت أنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن إمارة فقد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع هذا اعتراض الإمام وهو واضح والنظر فيه يطول والذي يظهر لي وهو معتمدي فيما بينى وبين الله أن الظنون الناشئة عن الإمارات المزدحمة إذا تعاضدت مع كثرتها تؤدي إلى القطع وأن على الإجماع آيات كثيرة من الكتاب وأحاديث عديدة من السنة وإمارات قوية من المعقول انتج المجموع من ذلك ان الأمة لا تجمع على خطأ وحصل القطع به من المجموع لا واحد بعينه.
قال: والشيعة عولوا عليه لاشتماله على قول الإمام المعصوم.
تقدم أن الشيعة أنكروا كون الإجماع الذي هو اتفاق المجتهدين من الأمة حجة واعلم أنهم مع ذلك عولوا عليه واحتجوا به ولكن لا لكونه قول المجتهدين من الأمة وإلا لتناقض قولهم بل لكونه مشتملا على قول الإمام المعصوم إذ عندهم أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه وعلى التقدير فمتى اتفق المجتهدون فلا بد من موافقة الإمام لهم وإلا لم يوجد اتفاق أهل الحل والعقد.
وإذا وجد اتفاق قول الإمام معهم كان حجة لا من حيث هو بل بواسطة قول الإمام المعصوم ولما كان مذهبهم في أن كل زمان لا يخلو عن إمام معصوم يجب نصبه ظاهر السخافة واضح الفساد والإشتغال يتبين بطلانه من وظائف علم الكلام لم يشتغل صاحب الكتاب برده.
المسألة الثالثة: إجماع أهل المدينة والخلاف فيه
…
قال: الثالثة: قال مالك: إجماع أهل المدينة حجة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة لتنفي خبثها" وهو ضعيف.
ذهب الأكثرون إلى أن البقاع لا تؤثر في كون الأقوال حجة وذهب مالك ابن أنس رحمه الله إلى أن إجماع أهل المدينة حجة فمنهم من قال إنما أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن الحاجب والصحابة والتابعين وقيل محمول على المنقولات المشتهرة كالأذان والإقامة دون غيرها وذهب إلى الحمل على هذا
القرافي في شرح المنتخب وقرر الإمام مذهب مالك وقال ليس يستبعد كما أعتقده جمهور الأصول ولا ينبغي أن يخالف مالك في ذلك إن أراد به ترجيح روايتهم على رواية غيرهم وكانوا من الصحابة لأنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل ولا ريب في أنهم أخبر بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضرب من الترجيح لا يدفع ولا ينبغي أن يظن ظان أن مالكا رضي الله عنه يقول باجماع أهل المدينة لذاتها في كل زمان وإنما هي من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك لم تبرح دار العلم وأثار النبي صلى الله عليه وسلم بها أكثر وأهلها بها أعرف إذا عرف هذا فقد استدل على حجية إجماع أهل المدينة بما صح وثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها" 1 والإستدلال بهذا كما ذكره المصنف ضعيف لأهل الحمل على الخطأ متعذر لأنا نشاهد صدور الخطأ من بعض سكانها وكونها من أشرف البقاع لا يوجب عصمة ساكنيها وإذا تقرر أنه لا أثر للبقاع علم أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين البصرة والكوفة غير حجة خلافا لمن زعم ذلك من الأصوليين قال القاضي في مختصر التقريب وإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الاجماع بالصحابة وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ منهم انتهى فلا يظن الظان أن القائل بذلك قال به في كل عصر.
1 أخرجه البخاري كتاب الحج باب "إن المدينة تنفي خبثها " ومسلم شرح النووي 3/530.كما رواه الترمذي عن جابر رضي الله عنه تحفة الاحوذي 10/419.
المسألة الرابعة: إجماع العترة
…
قال: الرابعة: قالت: الشيعة إجماع العترة حجة لقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهم على وفاطمة وابناءهما رضي الله عنهم لأنها لما نزلت لف عليه السلام كساء وقال هؤلاء أهل بيتي ولقوله عليه السلام: "إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به أن تضلوا كتاب الله وعترتي".
قالت الشيعة إجماع أهل البيت حجة وقالوا أيضا كما نقله الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع قول على وحده حجة واستدلوا على الأول بالكتاب والسنة والمعنى أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 فقد نفا عنهم الرجس والخطأ رجس فيكون منفيا عنهم وأهل البيت هم علي وفاطمة وابناؤهما الحسن والحسين رضي الله عنهم كأنهم كما روى الترمذي لما نزلت هذه الآية لف النبي صلى الله عليه وسلم كساء وقال: "هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".
وأما السنة فما روى الترمذي وأخرج مسلم في صحيحه معناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي" 2 وأما المعنى ولم يذكره المصنف فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد ولم يذكر المصنف الجواب عما استدلوا به والجواب عن الآية أنا وإن سلمنا انتفاء الرجس في الدنيا فلا نسلم أن الخطأ رجس ومنهم من أجاب بأن ظاهر الآية في أزواجه عليهم السلام لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .
قال الإمام ويجري هذا مجرى قول الواحد لابنه تعلم واطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا القول إنما يتناوله ابنه فكذلك ها منا.
وهذا الجواب وإن اتضح المعنى واعتضد بما في المحصول والأحكام وغيرهما من كتب الأصول من أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم الست من أهل البيت؟ فقال: "بلى إن شاء الله" فيبعده من جهة الخير ما في صحيح مسلم من أن أم سلمة قالت وقد لف صلى الله عليه وسلم عليهم الكساء فانا معهم يا رسول الله قال: "إنك إلى خير" وفي الترمذي قال: "أنت على مكانك وأنت إلى خير" ومن المعنى أن الكاف والميم لا يكون إلا للمذكر.
والجواب: عن الحديث أنه من باب الأحاد ولا يجوز عندهم العمل بها في الفروع فضلا عن الأصول ولو كان قطعيا فإنما تقتضي وجوب التمسك بمجموع الكتاب والعترة لا بقول العترة وحدهم.
1 سورة الأحزاب آية 33.
2 رواه الإمام أحمد في مسنده عن بريدة بن حبان التميمي، كما رواه مسلم والترمذي ، الفتح الكبير 1/45.
والجواب عن المعنى إنه باطل بزوجاته صلى الله عليه وسلم فانهن شاهدن أكثر أحواله مع أن قولهن وحده غير حجة والله أعلم وقد يقال قدم المصنف ان الشيعة من منكري الإجماع ثم نقل عنهم أن اجماع العترة حجة ومن اعترف بشيء من الإجماع لا يقال أنكر أصل الإجماع.
والجواب: أن الإجماع المصطلح انكروه من أصله وما اعترفوا به ليس منه وان حصل وفاق بقية الأمة بل لأجل العترة فما قلناه لم يعترفوا بشيء منه وما قالوه لم نوافقهم عليه وقد سبقت الإشارة إلى هذا في قوله والشيعة عولوا عليه.
المسألة الخامسة: إجماع الخلفاء الأربعة
…
قال الخامسة: قال القاضي أبو حازم اجماع الخلفاء الأربعة حجة لقوله عليه السلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وقيل اجماع الشيخين لقوله "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"
ذهب القاضي أبو حازم في الحنفية بالحاء المعجمة وكذا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين إلى أن اجماع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعثمان وعلي حجة المسترك بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الترمذي والحاكم في المستدرك وقال على شرطهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 1 الحديث فإن قيل هذا عام في كل الخلفاء الراشدين قيل المراد الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا" وكانت مده الأربعة هذه قيل والصحيح إن المكمل لهذه المدة الحسن بن علي وكانت مدة خلافته ستة أشهر بها تكملت الثلاثون ولكن الحسن رضي الله عنه لم تتسع مهلته ولم تبرز أوامره ولا عرفت طريقته لقلة المدة.
وذهب إلى بعضهم أن اجماع الشيخين وحدهما حجة لقوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 2 رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والترمذي وقال حسن وذكره ابن حبان في صحيحه.
1رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، كما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
2 رواه ابن ماجة والترمذي من رواية حذيفة كما صححه ابن حبان الفتح الكبير 1/215.
وأجاب الإمام وغيره عن الخبرين بالمعارضة بقوله أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم وهو حديث ضعيف.
وأجاب الشيخ أبو اسحاق في شرح اللمع بأن ابن عباس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل انفرد بها وابن مسعود انفرد باربع مسائل ولم يحتج عليهم أحد بإجماع الاربعة.
المسألة السادسة: مايثبت به الإجماع وما لا يثبت
…
قال السادسة: يستدل بالإجماع لما لا يتوقف عليه كوحدة الصانع وحدوث العالم لا كإثباته.
الإجماع وإن كان حجة لكن لا يستدل به على جميع الأحكام بل على بعضها وهو ما لا يتوقف ثبوت حجية الإجماع على ثبوته سواء كان من الفروع أو الأصول أما يتوقف ثبوت الإجماع على ثبوته فلا يستدل بالإجماع عليه وإلا فيلزم الدور وقد مثل صاحب الكتاب الأول بحدوث العالم ووحدة الصانع أي ثبوت الإجماع لا يتوقف على هذين لجواز معرفة الإجماع قبل معرفة حدوث العالم ووحده الصانع.
وقد قال الاسفرايني وغيره من الشراح ان المثال غير صحيح لأن كون الإجماع المصطلح حجة متوقف على وجود المجمعين الذين هم المجتهدون من الأمة المحمدية ولا يصير الشخص من هذه الأمة إلا بعد معرفة وحدة الصانع وحدوث العالم فوضح أن الإجماع متوقف على معرفة هذين ولك أن تمنع توقف حجية الإجماع على وجود المجمعين إذ هو حجة وإن لم يجمعوا.
ومثال الثاني وإليه الإشارة بقوله لا كاثباته اثبات الصانع واثبات كونه متكلما والنبوة فإن الإجماع يتوقف على ذلك إذ ثبوته بالكتاب والسنة صحة الاستدلال بها موقوفة على وجود الصانع وعلى كونه متكلما وعلى النبوة فلو اثبتنا وجود الصانع والنبوة بالإجماع لزم الدور لتوقف ثبوت المدلول على ثبوت الدليل.
*
تعريف الإجماع
…
الكتاب الثالث في الإجماع
قال رحمه الله في الكتاب الثالث في الاجماع وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
الإجماع لغة العزم قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" والاتفاق أيضا يقال أجمعوا على كذا أي صاروا ذا جمع كما يقال البن والتمر إذا صار ذا لبن وتمر وفي الاصلاح ما ذكره المصنف فقوله اتفاق حسن والمراد به الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو في الكل.
وقوله أهل الحل والعقد والمراد به المجتهدين فصل يخرج منه من ليس كذلك كالعوام إذ لا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ويخرج أيضا اتفاق بعض أهل الحل والعقد وقوله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم اختراز عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه وان قيل بأن إجماعهم حجة كما هو أحد المذهبين للاصوليين واختيار الاسناد أبي اسحق كما حكاه عنه أبو اسحاق في شرح اللمع فليس الكلام إلا في الإجماع الذي هو دليل شرعي يجب العمل به الآن وذلك وان وجب العمل به فيما مضى لكن انتسخ حكمه منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله على أمر من الأمور يشمل الأحكام الشرعية كحل النكاح وحرمة قتل النفس بغير حق واللغوية ككون إلقاء للتعقيب ولا نزاع في هذين ويشمل أيضا العقليات كحدث العالم وهو كذلك خلافا لامام الحرمين وخلافا للشيخ أبي اسحاق الشيرازي في كليات أصول الدين كحدث العالم واثبات النبوة لا
جزئياته كجواز الرؤية فإنه وافق على أن الإجماع في مثلها حجة ويشمل الدنياويات أيضا كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية وفيه مذهبان المختار منها وجوب العمل فيه بالإجماع.
وفي التعريف نظر من جهة اشعاره بعدم انعقاد الاجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جملة من اتبعه إلا يوم القيامة ولم يقل بذلك أحد من المعترفين بالإجماع فكان ينبغي تقييده بعصر من الأعصار.
ومن جهة أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فقوله اجماع وتعبير المصنف بالاتفاق ينبغي ذلك إذ حقيقة الاتفاق أن يكون من اثنين فصاعدا ولعل المصنف يختار أن ذلك ليس باجماع وهو مذهب مشهور منقدح لأن الأدلة إنما دلت على عصمة الامة فيما أجمعوا عليه فلا بد من صدق.