الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في شرائظ العمل بالخبر
…
الباب الثالث في شرائط العمل بالخبر
قال الباب الثاني في شرائط العمل به وهي إما في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر أما الأول فصفات تغلب.
ظن الصدق وهي خمس:
الأول: التكليف فإن غير المكلف لا يمنعه خشية الله تعالى قيل يصح الاقتداء بالصبي اعتمادا على خبره بطهره.
قلنا: لعدم توقف صحة صلاة المأموم على طهره.
للعمل بخبر الواحد شرائط منها ما هو في المخبر بكسر الباء وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ.
فأما الأول: وهو شروط الراوي فالضابط فيه كونه بحيث يكون ظن صدقه راجحا على ظن كذبه وشرائطه عند التفصيل.
ذكر المصنف أنها خمس وهو تساهل في العبارة فإن الخامس ليس شرطا على المختار عنده وعند الجماهير.
الأول: التكليف فلا تقبل رواية المجنون والصبي مراهقا كان أو لم يكن مميزا كان أو لم يكن أما المجنون والصبي الذي لا يميز فلعدم الضبط وعدم التمكن من الاحتراز عن الخلل وأما المميز فلأن الفاسق إذا لم تقبل روايته مع كونه يخاف الله ويخشى عقابه فالصبي الذي لا يمنعه خشية الله ولا يردعه رادع ديني لعدم تعلق التكليف به أولى بأن لا تقبل وقد اعتمد القاضي في رد رواية
الصبي على الإجماع وفاء بادعاء قيامه على ذلك في كتاب التلخيص.
وقال المعلق في التلخيص بعد هذه الدعوى وقد كان الإمام يحكي وجها في صحة رواية الصبي فلعله أسقطه.
قلت: والوجه المشار إليه موجود والخلاف معروف مشهور وقد ظهر اختلاف الفقهاء في قبول روايته في هلال رمضان فلم يجعلوه مسلوب العبارة بالكلية وستزيد فروعا من المذهب دالة على ذلك ان شاء الله تعالى.
فإن قيل أليس يقبل قول المميز في اخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة.
قلنا: ذلك لأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام فإن صلاة المأموم ما لم يظن حدث الإمام صحيحة وان تبين بعد ذلك حدثه ففي الحقيقة لم يقبل قول الصبي.
فإن قلت: أتجعلون الصبي مسلوب العبارة بالكلية لا فرق ما بينه وبين المجنون والبهيمة قلت هذا هو القاعدة في أمره.
وفي البذهب فروع ترد نقضا على ذلك وكلها مختلف فيها ومنها ما هو على وجه ضعيف فمنها قبول قوله في روايه هلال رمضان ومنها إذا اخبر الصبي المميز بنجاسة أحد الأناءين فأصح الوجهين لا يقبل خبره ومنها إذا شهد صبيان بان فلان قتل فلانا فهل يكون ذلك لوثا فيه وجهان ومأخذ القبول أنهم جماعة كثيرة والغالب أن اتفاقهم يورث الظن ومنها صحة بيع الاختبار على وجه ومنها وصيته وفيها قولك ومنها تدبيره وفيه قولان ومنها أمانه وفيه طريقان ومنها إسلامه وأظهر الأقوال المنع ولو سلم على قوم ففي وجوب إجابته وجهان مبنيان على صحة إسلامه ومنها إذا قلنا يؤذن له في الأذن في دخول الدار وحمل الهدية.
قال الرافعي: فقد جعل وكيلا وقضية جعله وكيلا أن يكون له أن يوكل على خلاف فيه لغيره ومنها قال الروياني في البحر.
قال الزبيدي يجوز توكيل الصبي في طلاق زوجته وغلطه فيه ومنها إذا أعتق في مرض موته منجزا على نفوذه وجهان في الكفاية لابن الرفعة قال فإن
تحمل ثم بلغ وأدى قبل قياسا على الشهادة والإجماع على إحضار الصبيان مجالس الحديث ما تقدم فيما إذا أدى في حالة صباه أما إذا تحمل في صباه وأدى بعد بلوغه ففيه مذهبان محكيان في شرح اللمع للشيخ أبى إسحاق ومختصر التقريب للقاضي أصحهما وعليه الجمهور أن يقبل والدليل على ذلك الإجماع على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير تفرقة بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده.
قال القاضي في مختصر التقريب ثم أن عباس كان ابن سبع لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بلغ ابن الزبير أيضا حلمه في حياته صلى الله عليه وسلم قلت هذا وهم كان ابن عباس لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث عشر سنة وقيل ابن عشر وهو ضعيف وقيل ابن خمس عشرة ورجحه أحمد بن حنبل وأما ابن الزبير فإنه ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة فيصح ما ذكره القاضي من أنه لم يبلغ الحلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والمصنف استدل على مذهب الجمهور بوجهين:
أحدهما: القياس على الشهادة إذا تحملها وهو صغير فإنها تقبل بإجماعنا والجامع أنه حال الأداء مسلم بالغ عاقل يحترز عن الكذب واعترض عليه بان الرواية تقتضي شرعا عاما فأحتيط فيها بخلاف الشهادة وقد يجاب بان باب الشهادة أضيق فكانت بالاحتياط أجدر.
والثاني: إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الحديث وفيه نظر فإن الإحضار لعله لقصد البركة.
فائدة: الكافر إذا تحمل في حال كفره ثم أدى في الإسلام قبل على الصحيح وممن ذكر المسألة من الاصوليين القاضي في مختصر التقريب والإرشاد.
قال الثاني كونه من أهل القبلة فنقبل رواية الكافر الموافق كالمجسمة إن اعتقدوا حرمة الكذب فإنه يمنعه عنه وقاسه القاضيان بالفاسق والمخالف ورد بالفريق.
الكافر إما أن لا يكون منتميا إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني فلا تقبل روايته بالإجماع وإما أن يكون منتميا إليها وهو معنى قولنا من أهل القبلة وذلك كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم.
فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب أما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم وقد ادعى الاتفاق على ذلك مدعون وهذا عندي فيه تفصيل فإن اعتقدوا جواز الكذب مطلقا فالأمر كذلك وإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة أو الترغيب في الطاعة والترهيب عن المعصية لم يتجه الاتفاق إلا على رد رواياتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط وإن اعتقدوا حرمة الكذب ففيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يقبل وهو مذهب القاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار والغزالي والآمدي والأكثرين.
والثاني: يقبل وهو رأي الإمام وأتباعه وأبي الحسين البصري واستدلوا عليه بأن اعتقادهم حرمة الكذب بزجرهم عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به.
قال القرافي وفيه نظر فإن من أهل الكتاب من يستقبح الكذب غاية الاستقباح ومع ذلك لا تقبل روايته بالإجماع واحتج القاضيان أبو بكر وعبد الجبار بقياسه على الفاسق قالا فإنه أعظم من الفاسق نكرا والفاسق مردود الرواية فليكن هذا هكذا بطريق الأولى وبالقياس على الكافر والمخالف في الملة بجامع الكفر والجواب أن الفرق بينه وبين الفاسق جهله بفسق نفسه فيحترز عن الكذب لذلك بخلاف الفاسق وأن الفرق بينه وبين المخالف أن كفر المخالف اغلظ.
وقد فرق الشرع بينهما في أمور كثيرة ولك أن تقيم هذا جوابا عن اعتراض القرافي الذي أوردنا فنقول إنما لم تقبل رواية أهل الكتاب وأن استقبحوا الكذب غاية لأن كفرهم اغلظ فكانوا بزيادة الإهانة أجدر والله أعلم.
قال الثالث: العدالة وهي ملكة في النفس تمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل المباحة.
ومن شروطه أن يكون عدلا ومعرفة كون الراوي عدلا يتوقف على معرفة العدالة عندنا عبارة عن استقامة السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى أنها ملكة في
النفس تمنعها عن إقتراف الكبائر واقتراف الرذائل المباحة كالأكل في الطريق والبول في الشارع.
والضابط أن كل ما لا يؤمن معه الجراء على الكذب ويرد به الرواية ومالا فلا فإن قلت تعاطي الكبيرة الواحدة والرذيلة الواحدة تقدح وتعبيره بالكبائر والرذائل ينفي ذلك والإصرار على الصغيرة قادح ولا ذكر له في التعريف قلت أما الأول فالمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة.
وأما الثاني فقد قيل هذا من محاسن الكلام لأن الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة فلو ذكر الإصرار على الصغيرة لأطال وكرر من غير فائدة فإن قلت التوقي عن الرذائل المباحة من المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة وليست شرطا في العدالة وكلامكم أنها هو في العدالة ولرواية نفسها قلت صحيح ولكن لما كان الغرض الكلام في مقبول الرواية أخذ في وصف العدالة شرط القبول وهو تساهل ولو كانت العبارة مقبول الرواية! ذلو الملكة النفسية التي يحمل على ملازمة التقوى والمروءة لكانت أشد وأوضح.
ثم أعلم أن المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة هي الترقي عن الأدناس ومنها ما هو مشترط في اصل العدالة.
ومن مجامع القول في ذلك ما ذكره القاضي الماوردي إذ قال المروءة على ثلاثة أضرب ضرب شرط في العدالة قال وهو مجانبة ما سخف من الكلام المؤدي إلى الضحك وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يستقبح فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة وارتكابها مفسق وضرب لا يكون شرطا فيها وهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه وضرب مختلف فيه وهو على ضربين عادات وصنائع فأما العادات فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة في أكله وملبسه وتصرفه فلا يتعرى من بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم ولا يتزع سراويله في بلد يلبس فيه أهله السراويلات ولا يأكل على قوارع الطرق ولا يخرج عن العرف في مضغه ولا يغالي بكسرة أكله ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد تتحاماه أهل الصيانة.
وفي إعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أوجه.
أحدها: أنه خير معتبر فيها.
والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق.
والثالث: إن كان قد نشأ عليها من صغره لم يقدح في عدالته وأن استحدثها في كبره قدحت.
والرابع: إن اختصت بالدين قدحت كالبول قائما وفي الماء الراكد وكشف عورته إذا خلا وأن يتحدث بمساوئ الناس وأن اختصت بالدنيا لم يقدح كالأكل في الطريق وكشف الرأس بين الناس هذا كلام الماوردي وتحصلنا منه على أن المروءة شرط في أصل العدالة في الضرب الأول وفي الضرب الثاني عند بعضهم فيصبح قول المصنف أن المروءة ركن في أصل العدالة فإن قلت في حد الكبيرة أوجه:
أحدها: أنها المعصية الموجبة الحد.
والثاني: ما لحق صاحبها وعد شديد بنص كتاب أو سنة.
والثالث: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة.
والرابع: كل فعل نص الكتاب على تحريمه أوجب في جنسه حد هذا ما ذكروه في الضبط والتفصيل مستوعب في الفقهيات.
فإن قلت وما المراد بالصغائر وبالاصرار عليها قلت أما الصغيرة فالمعصية التي ليست كبيرة.
وأما الاصرار فقال ابن الرفعة لم أظفر فيه بما يثلج الصدر وقد عبر عند بعضهم بالمداومة وحينئذ هل المعتبر المداومة على نوع واحد من الصغائر أم الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع قال الرافعي منهم من يميل كلامه إلى الأول ومنهم من يفهم كلامه الثاني ويوافقه قول الجمهور من تغلب معاصيه طاعته كان مردود طاعته كان مردود الشهادة قال وإذا قلنا به تضر المداومة على نوع
واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات وعلى الأول تضر قال ابن الرفعة وقضية كلامه أن مداومة النفوع تضر على الوجهين.
أما على الأول فظاهر.
وأما على الثاني فلأنه في ضمن حكايته قال إن الإكثار من النوع الواحد كالإكثار من الأنواع وحينئذ لا يحسن معه التفصيل نعم يظهر أثرهما فيم إذا أتى بأنواع من الصغائر إن قلنا بالأول لم تضر وإن قلنا بالثاني ضر.
واعلم أن الصغائر كما تصير بالإصرار كبيرة كذلك بعض المباحات تصير بالإصرار صغيرة.
قال الغزالي في أثناء كتاب التوبة من إحياء علوم الدين وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات الصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره.
فإن قلت: هذا التعريف الذي قدمتموه في العدالة قضيته أن من لم يقدم على كبيرة ولا رذيلة ولم يكن في نفسه ملكة تمنعه عن اقتراف هذين وانما كف عنهما كفا من غير أن يكون في نفسه ملكة تدعوه إلى ذلك لا يكون عدلا فهل في هذا مخالفه لكلام الفقهاء فانهم يقولون إن العدل من لا يقدم على كبيرة ولا يصر على صغيرة فلا يقدم على ما يحرم المروءة وذلك اعم من أن يكون بداعية الملكة النفسية أولا قلت ظاهره المخالفة ولكنا نقول متى حصلت تلك الملكة لم يحصل الاقدام على ما يخل بالعدالة ومتى أقدم علمنا أن الملكة حاصلة فإن الملكة مستقلة بالمنع فمتى حصلت لا بد وأن يحصل الامتناع.
فإن قلت: هل يحرم تعاطي المباحات التي ترد بها الشهادة لاخلالها بالمروءة.
قلت: قد حكى ابن الرفعة أن سمع قاضي القضاة تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن بن رزين يقول بعض من لقيه بالشام من المشايخ كان يحكي في ذلك ثلاثة أوجه:
ثالثها: إن تعلقت به شهادة حرمت وإلا فلا لكن في البسيط والنهاية الجزم وبعدم التحريم وهو الظاهر.
قال: ولا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما وإن جهل قبل.
قال القاضي ضم جهل إلى فسق.
قلنا الفرق عدم الجراءة.
لما كانت العدالة شرطالم يجز قبول رواية من أقدم على الفسق عالما بكونه فسقا.
وقد حكى الإجماع على هذا وهذا واضح إن كان ما أقدم عليه مقطوعا بكونه فسقا واما إن كان مظنونا فيتجه تخريج خلاف فيه ان حكى وجه فيمن شرب النبيذ وهو يعتقد تحريمه أن شهادته لا ترد.
قال صاحب البحر وهو الذي مال إلى ترجيحه المتأخرون من الأصحاب ولا فرق بين الرواية والشهادة فيما يتعلق بالعدالة وان افترقا في أمور أخر وأما الجاهل بكونه فسقا فقد يجهل الحال بالكلية ويكون ساذجا والأمر من المظنونات كما لو شرب النبيذ ساذج لا يعتقد الحل ولا التحريم ففي فسقه ورد شهادته بعد إقامة الحد عليه وجهان حكاهما الماوردي في الحاوي لا بد من جريان مثلهما في رد روايته على أن الوجهين المذكورين لا بد من فرضهما في رجل جاهل بالقاعدة المشهورة وهي أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعرف حكم الله فيه.
وقد حكى الشافعي في الرسالة الإجماع على هذه القاعدة وكذلك حكاه الغزالي ثم أنهما أعني الوجهين لا يتجهان إلا تخريجا على حكم الأشياء قبل ورود الشرع والمارودي كثيرا ما يخرج على ذلك وقد يكون ظانا الحل فتقبل روايته إما ان كان ما اقدم عليه من المظنونات فقد حكى الإمام فيه الاتفاق.
قال الهندي وإلا ظهر أن فيه خلافا كما في الشهادة اذ نقل وجه في الشهادة أنها ترد به ولكن الصحيح أنها لا ترد.
قال الشافعي رضي الله عنه اقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ وإن كان من القطعيات فكذلك على المختار خلافا للقاضي أبي بكر والجبائي وأبي هاشم وتبعهم الآمدي.
قال الشافعي أقبل شهادة أهل الاهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم لنا إن ظن صدقه راجح والعمل بالظن واجب واحتج القاضي ومن نحا نحوه بأن الاقدام على الفسق من العالم قبيح موجب للرد والجاهل إذا قدم عليه كان أولى بالرد إذ زاد قبيحا آخر على الفسق وهو الجهل فإذا منع الفسق بمجرده من القبول فلأن يمنع والجهل مضاف إليه أولى.
وأجاب المصنف بأن الفرق بين من أقدم عالما ومن أقدم جاهلا أن إقدام الأول يدل على الجراءة وقلة المبالاة بالمعصية فيغلب على الظن كذبه بخلاف الجاهل قلت ولعل القاضي رحمه الله يقول ترك استرشاده في التشبهات تهاون بالدين فصار فاسقا وبهذه الكلمة اعتل من ذهب إلى تفسيق الساذج الذي لا يعتقد الحل ولا التحريم كما تقدمت حكايته آنفا وهو هنا ابلغ بخلاف الأمر الظني المجتهد فيه.
قال ومن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته لأن الفسق مانع ولا بد من تحقق عدمه كالصبا والكفر والعدالة تعرف بالتزكية وفيها مسائل:
مجهول العدالة لا تقبل روايته عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم بل لابد من البحث عن سيرته باطنا وعليه الإمام وأتباعه منهم المصنف.
وقال أبو حنيفة يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهر أمثاله ما روى المخالف عن أم سلمة أنها قالت كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما وهذا ما رواه أبو سهل عن مسة الأذرية عن أم سلمة وأبو سهل ومسة مجهولان ذكره القاضي أبو الطيب ومثل ذلك كثير.
فإن قيل: قد قبلتم المجهول وذلك أن عبد الرحمن بن وعلة المصري رجل
مجهول وقد روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما أهاب دبغ فقد طهر"1.
ونقل عن أحمد بن حنبل أنه ذكر له حديثه هذا فقال ومن أبن وعلة قلنا ليس ابن وعلة مجهولا بل هو ثقة روى عنه زيد بن اسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما ووثقه ابن معين والعجلي والنسائي وروى له مسلم والأربعة.
فإن قيل روى خالد بن أبى الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة أنها قالت بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسخا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أو قد فعلوها تحولوا بمقدتي إلى القبلة وخالد مجهول.
وحكى أبو بكر بن المنذر في كتابه هذا عن أبي ثور قلنا خالد معروف روى له ابن ماجة وروى عنه سفيان بن حسين ومبارك بن فضالة وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات.
قال شيخنا الذهبي وما علمت أحدا تعرض إلى لينه.
وقال القاضي أبو الطيب ان أبا بكر بن المنذر أجاب عن هذا بأن أحمد بن حنبل قال مخرج هذا الحديث حسن قال.
وقال غيره روى عنه خالد الحذاء ومبارك بن فضالة وواصل مولى بن عيينة وهؤلاء ثقات فوجب أن يكون خالد معروفا وقد استدل المصنف على المختار بأن الفسق مانع من القبول باتفاق فلا بد من تحقق ظن عدمه قياسا على الصبي والكفر بجامع رفع احتمال المفسدة وهذا الدليل فيه نظر لأنا إذا شككنا في المنافع فالأصل عدمه فقد حصل ظن عدمه بدليل الأصل لأن عدم المانع ليس شرطا حتى يشترط تحقق عدمه وكثير من الفقهاء يتخيل انه شرط وليس كذلك بل عدم المانع ليس بشرط وعدم الشرط ليس بمانع ودليله أن الشك في عدم الشرط يمنع ترتب الحكم لأن القاعدة أن المشكوكات كالمعدومات فكل شيء
1 حديث صحيح رواه الترمذي باب جلود الميتة إذا دبغت وابن ماجة كتاب اللباس باب جلود الميتة إذا دبغت كما رواه الإمام الشافعي ومسلم في صحبحه بلفظ إذا د بغ الإهاب فقد طهر.
شككنا في وجوده أو عدمه جعلنا معدوما فلو كان عدم الشرط مانعا أو عدم المانع شرطا لزم من الشك فيه أن ترتب الحكم لأنه مانع وأن لا نرتبه لأنه شرط فنرتبه ولا نرتبه وهذا يوضع بين النقيضين واعلم ان أبا حنيفة إنما يقبل رواية المجهول إذا كان في صدر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة أما في هذا الزمان فلا صرح به بعض المتأخرين من أصحابه ثم ذكر صاحب الكتاب من الطريق التي تعرف بها العدالة التزكية واخل بذكر الاختبار وإن كان هو الأصل إذ ليس مستند التزكية إلا هو إما بمرتبة أو مراتب دفعا للتسلسل لأن مقصود الفصل الكلام في أحكام التزكية وقد ذكر المصنف فيه أربع مسائل:
قال: الأولى: في شرط العدالة في الرواية والشهادة ومنع القاضي فيهما والحق الفرق كالأصل.
في اشتراط العدد وفي الرواية والشهادة مذاهب:
أحدها: يشترط فيهما وهو رأي بعض المحدثين.
والثاني: لا يشترط بل يكفي فيهما واحد وهو قول القاضي.
والثالث: وبه قال الأكثرون أن العدد يشترط في التزكية في الشهادة دون التزكية في الرواية وحجته أن الشهادة نفسها لا بد فيها من العدد فكذلك ما هو شرط فيها والرواية لا يشترط فيها العدد فكذا شرطها واليه أشار بقوله كالأصل ويؤخذ منه قبول تزكية المرأة والعبد في الرواية وهو كذلك.
قال: الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه يذكر سبب الجرح وقيل سبب التعديل وقيل سببهما قال القاضي لا فيهما.
قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا لا اختلاف المذاهب فيه بخلاف العدالة إذ ليس لها إلا سبب واحد ولأن الجرح يحصل بخصلة واحدة بخلاف التعديل وقيل عكسه لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء اعتمادا على الظاهر فلا بد من سببه وقيل لا بد من تبيين السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي لا يجب ذكر السبب
فيهما لأنه ان لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال كذا نص عليه في مختصر التقريب ونقله عنه الآمدي والغزالي والإمام واتباعه منهم المصنف ونقل إمام الحرمين في البرهان عنه المذهب الثاني وهو اشتراط بيان السبب في التعديل دون الجرح وقال انه أوقع في مأخذ الأصول وقال إمام الحرمين والإمام وغيرهما أن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما وإن لم يعرف اطلاعه على شرائطهما إستخبرناه عن أسبابهما ويشبه أن لا يكون هذا مذهبا خامسا لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة لم يصلح للتزكية.
قال الثالثة: الجرح مقدم على التعديل لأن فيه زيادة.
الجرح يقدم عند التعارض على التعديل أن كان فيه اطلاع على زيادة لم يطل عليها المعدل اللهم إلا إذا جرحه بقتل إنسان وقت كذا فقال المزكي رأيته حيا بعد ذلك فهنا يتعارضان وهذا إذا كان المعدل والجارح في العدد سواء وقد حكى ابن الحاجب مذهبا أنهما يتعارضان ولا يترجح أحدهما بمرجح واعلم أن الاستدلال بالإجماع إذا كان قد قام كما حكاه القاضي أقوى الحجج على المدعي لأن الزيادة التي ذكرها الجارح قد ينفيها المعدل.
فإن قلت لو نفاها كان شاهدا على النفي فلا تقبل شهادته قلت إنما كلامنا في الرواية فهو مخبر عن النفي والأخبار نفيا وإثباتا مقبولا بخلاف الشهادة فلا يقاس أحدهما بالآخر نعم قال القاضي الاخبار عن النفي يضعف وأما إن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقد صار بعض العلماء إلى أن العدالة في مثل هذه الصورة أولى والحق التسوية فإن كل واحد من الجرح والتعديل يستقل بنفسه لو قدر مفرد فالزيادة لا تقضي بغير ذلك.
قال القاضي ونوضحه أن عشرة من الشهود لو شهدوا على ثبوت دين وشهد علان على ابراء مستحقه عنه فيقضي بالابراء فإنهما أخبرا عما أخبر الشهود عنه وانفراد بزيادة علم وهذا شأن الجارح مع المعدلين.
قال الرابعة: التزكية أن يحكم بشهادته أو يثني عليه أن يروي عن غير العدل أو يعمل بخبره.
للتزكية أربع مراتب أعلاها أن يحكم بشهادته وثانيها أن يثني عليه بأن يقول هو عدل وما أشبهه وقال بعض الشافعية لا بد وأن يقول هو عدل على ولي وثالثها إذا روى عنه من لا يروي عن غير العدل فإنه يكون تعديلا على المختار عند الإمام والآمدي كالبخاري ومسلم في صحيحهما وقيل الرواية تعديل مطلقا وقيل عكسه كما أن تركها ليس بجرح ورابعها إذا عمل بمدلول ما أخبر به ولم يمكن حمله على العمل بدليل آخر فهو تعديل وقد نقل الآمدي الاتفاق على ذلك وليس بجيد فإن الخلاف محكي في مختصر التقريب للقاضي وأما ترك العمل بما رواه هل يكون جرحا.
فقال القاضي في مختصر التقريب ان تحقق تركه للعمل بالخبر مع ارتفاع الروافع والموانع وتقرر عندنا تركه موجب الخبر مع أنه لو كان ثابتا للزم العمل به فيكون ذلك جرحا وإن كان مضمون الخبر مما يسوغ تركه ولم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحا.
فائدة: أطلق الإمام أن الحكم بالشهادة تزكية كما في الكتاب.
وقيده الآمدي إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب وهو قيد صحيح إلا أنه لا يختص بهذا القسم.
فإن القسم الرابع كذلك.
قال: الرابع: الضبط وعدم المساهلة في الحديث وشرط أبو على العدد ورد بقبول الصحابة خبر الواحد قال طلبوا العدد قلنا عند التهمة.
الشرط الرابع: من شروط الراوي أن يكون بحيث يؤمن من الكذب والخطأ فيما رواه وذلك يستدعي حصول أمرين.
أحدهما: الضبط فمن يكون مختل الطبع لا يقدر على الحفظ أصلا لا يقبل خبره البتة وكذا يعتريه السهو غالبا ورب من يضبط قصار الأحاديث دون طوالها لقدرته على ضبط تلك دون هذه فتقبل روايته فيما علم ضبطه إياه.
الثاني: ولعله يدخل في الأول عدم التساهل فلو روى الحديث وهو غير
واثق به لم يقبله وإن كان التساهل في غير الحديث ويحتاط في الحديث قبلت روايته على الأظهر وإلى ذلك أشار المصنف بقوله في الحديث.
وشرط أبو علي الجبائي العدد في كل خبر.
وقال كما حكى عنه القاضي عبد الجبار لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه.
ونقل القرافي عن كتاب المحصول في الأصول لابن العربي أن الجبائي اشترط في قبول الخبر اثنين وشرط على الإثنين إثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التاسع وهذا الذي قاله مردود بقبول الصحابة خبر العدل الواحد كعمل علي بخبر المقداد وتعويلهم على خبر عائشة في التقاء الختانين وغير ذلك.
واحتج بانهم طلبوا العدد في أماكن فإن ابا بكر رضي الله عنه لم يقبل المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى في الاستئذان1 حتى رواه أبو سعيد الخدري وغير ذلك.
والجواب أنهم لم يطلبوا العدد إلا عند الريبة في صحة الرواية أما لاحتمال نسيان من رواه أو غير ذلك.
وبهذا يحصل الجمع بين قبولهم تارة وردهم أخرى وحكى ابن الأثير في جامع الأصول أن بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي الإسناد.
قال: الخامس: شرط أبو حنيفة فقه الراوي ان خالف القياس ورد بأن العدالة تغلب ظن الصدق فيكفي.
الراوي لا يشترط أن يكون فقيها عند الأكثرين سواء كانت روايته مخالفة للقياس أم لم تكن.
1 هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار من بني الأشعر ويكنى بأبي موسى صحابي جليل ولد سنة 21 ق هـ وتوفي سنة 44هـ أسد الغابة 3/367.وخبره في الاستئذان هو قوله صلى الله عليه وسلم: "أأستأذن أحدكم على صاحبه فلم يؤذن له فلينصرف" أخرجهالبخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد كما في الفتح الكبير 1/77 فلم يقبله عمر حتى شهد معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه تقدمت ترجمته.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يشترط فقهه ان خالفه القياس لأن الدليل نحو قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه فيما إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق فوجب بقاء ما عداه على الأصل رد بأن عدالة الراوي تغلب ظن صدقه والعمل بالظن واجب كما تقرر وبقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها" إلى قوله: "فرب حامل فقه ليس بفقيه" 1 فهذا صريح في الباب.
واما الثاني: فلا يخالفه قاطع ولا يقبل التأويل ولا يضره مخالفة القياس ما لم يكن قطعي المقدمات بل يقدم لقلة مقدماته وعمل الأكثر والراوي.
انقضت شروط المخبر بكسر الباء والكلام الآن في شرط المخبر عنه وشرطه أن لا يخالفه دليل قاطع لقيام الإجماع على تقديم المقطوع على المظنون فإن خالفه دليل قاطع فذلك القاطع إما عقلي أو سمعي فإن كان عقليا نظر فإن كان ذلك الخبر قابلا للتأويل القريب الذي طرق أذن من هو أهل اللسان سمعه ولم ينب عنه طبعه وجب تأويله جمعا بين الدليلين.
وإلا قطعنا بأنه لم يصدر من الشارع لأن الدليل القطعي لا يحتمل الصرف عما دل عليه بوجه من الوجوه لا بالتخصيص ولا بالتأويل إلا بغيرهما فيجب القطع بأنه مكذوب على الشارع ضرورة أن الشارع لا يصدر عنه الكذب ولو صدر عنه هذا للزم صدور الكذب وهو محال وإن كان سمعيا فإن لم يكن الجمع بينهما فالحكم كما سبق.
هذا إذا علم تأخير المظنون عن المقطوع أو جهل التاريخ إذ لا يجوز الحمل على النسخ فان نسخ المقطوع بالمظنون غير جائز شرعا فإن علم تأخير المقطوع عنه حمل على أنه منسوخ ولا يقطع بكذبه وإن كان الجمع غير ممكن لتحقق شرط النسخ.
1 حديث صحيح رواه الترمذي من حديث زيد بن ثابت كما رواه أحمد والترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود بلفظ " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها. ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وللحديث روايات أخر.
أنظر الفتح الكبير 3/262.
وبهذا يفارق ما نحن فيه الصورة التي تجهل التاريخ فيها فإنه وإن أمكن في تلك الصورة أن يحمل على أن المظنون منسوخ بالمقطوع لكن لم يتحقق شرط النسخ فلا يقطع به بمجرد الاحتمال فإن الآفات العارضة للراوي من كذب ونسيان وغيرهما محتملة بل ربما يكون الحمل عليها أهون من الحمل على النسخ مع عدم تحقيق شرطه هذا شرط خبر الواحد.
وأما ما ظن أنه شرط له وليس كذلك فمنه إذا عارض خبر الواحد القياس فأما أن يقتضي أحدهما تخصيص الآخر لأن فيخصيص العلة وخبر الواحد بالقياس جائز وأن تباينا من كل وجه وفيه كلام المصنف فينظر في مقدمات القياس فان ثبت بدليل قطعي قدمنا القياس على خبر الواحد وذلك واضح.
وإن لم تكن مقدمات القياس قطعية فإن كانت كلها ظنية قدم الخبر لقلة مقدماته ولا يتجه أن يكون هذا محل خلاف وإن كان كلام بعضهم وهو طريقة الآمدي يقتضي أنه من صور الخلاف لكنه بعيد وإن كان البعض قطعيا والبعض ظنيا فمفهوم كلام المصنف أن خبر الواحد مقدم أيضا وهو قول الشافعي رضي الله عنه واختيار الإمام وجماعة وقال مالك القياس راجح.
وقال عيسى بن ابان إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره وإلا كان في محل الاجتهاد وتوقف قوم المختار عندنا ما ذهب إليه أبو الحسين وهو أنه يجتهد فإن كانت إمارة القياس أقوى وجب المصير إليها وإلا فبالعكس وإن استويا في إفادة الظن فالوجه ما ذهب إليه الشافعي ومنه عمل أكثر الأمة بعض الأمة بخلاف خبر الواحد أي لا يوجب رده لأن أكثر الأمة بعض الأمة.
وقول بعض ليس بحجة ومن يقول اتفاق الأكثر إجماع ولا عبرة بالمخالف إذا ندر فاللائق بمذهبه أن يرد به الخبر واما عندنا فلا لكن قول الأكثر من المرجحات فيقدم عند التعارض بمعنى أنه إذا عارض خبر الواحد خبر آخر مثله متعضد بعمل الأكثر قدم على الآخر الذي ليس معه عمل الأكثر ومنه عمل راوي الخبر بخلافه أي بخلاف ظاهر الخبر لا يوجب رده.
كما أشار إليه بقوله والراوي عطفا على عمل الأكثر أي ولا يضره مخالفة الراوي وهل المراد بالراوي الصحابي أو أعم من ذلك فيه الكلام المتقدم في أثناء الخصوص وذهب أكثر الحنفية إلى أن عمل الراوي بخلاف الخبر يقدح في الخبر ولا يجوز الأخذ إلا بعمل الراوي وقال عبد الجبار وأبو الحسين إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة أنه عليه السلام أراد ذلك الذي ذهب إليه من ذلك الخبر وجب المصير إليه إن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك.
فإن اقتضى ما ذهب إليه وجب المصير إليه وان لم يقتض ذلك لم يطلع على مأخذه وجب المصير إلى ظاهر الخبر.
وذلك لأن الحجة إنما هي في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مذهب الراوي وظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم يدل على معنى غير ما ذهب إليه الراوي فوجب المصير إليه وعدم الالتفات إلى مذهب الراوي.
قال: وأما الثالث: ففيه مسائل الأولى لألفاظ الصحابي سبع درجات:
الأولى: حدثني ونحوه.
الثانية: قال الاحتمال التوسط.
الثالثة: أمر لاحتمال اعتقاده ما ليس بأمر أمرا والعموم والخصوص والدوام واللادوام.
الرابعة: أمرنا وهو حجة عند الشافعي لأن من طاوع أمرا إذا قاله فهم منه أمره ولأن غرضه بيان الشرع.
الخامسة: من السنة وعن النبي عليه السلام.
السادسة: قيل للتوسط.
السابعة: كنا نفعل في عهده.
هذا هو الثالث من شرائط العمل بخبر الواحد وهو الكلام في الخبر وفيه مسائل.
الأولى: في بيان ألفاظ الصحابي ومراتبها وقد أتى المصنف رحمه الله بلفظ جامع لها وهو قوله درجات الدرجة الأولى أن يقول حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه مثل سمعت وأخبرني أو شافهني فهذا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم واجب القبول انفاقا.
الثانية: أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهرة النقل فيكون حجة لكنه ليس نصا صريحا لاحتمال أن يكون قد وصل إليه بواسطة فتكون مرتبته دون الأولى.
الثالثة: أن يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا ونهى عن كذا فهذا يتطرق إليه هذا الاحتمال مع احتمال آخر وهو احتمال ظنه ما ليس بأمر أمرا وأيضا فليس فيه أنه أمر الكل أو البعض ولأن الأمر به يدوم أولا فربما اعتقد شيئا لا يوافق اجتهادنا وقول المصنف لاحتمال تعليل لكونه دون الدرجة الثانية لكن الظاهر من حال الصحابي أنه إنما يطلق هذه اللفظة إذا تيقن المراد لذلك ذهب الأكثرون إلى أنه حجة وخالف داود الظاهري وبعض المتكلمين والقاضي في مختصر التقريب حكى عن داود أنه صار إلى التوقف في ذلك وإلى التوقف مال الإمام.
الرابعة: ان يبني الصيغة للمفعول فيقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو وجب علينا كذا وما أشبه ذلك والذي عليه الشافعي رضوان الله عليه وأكثر الأئمة وهو اختيار الإمام والآمدي أن ذلك يفيد أن الآمر والناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون حجة وذهب الصيرفي والكرخي وغيرهما إلى أن ذلك متردد بين أمر الله الذي اشتمل عليه كتابه المنزل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأمر كل الأمة أو بعض الولاة وبين أن يكون قال ذلك استنباطا لقياس أو غيره بحسب تأدية اجتهاده فلا يكون حجة وأصبح الأولون بوجهين.
أحدهما: أن من لزم طاعة رئيس فإنه إذا قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس لا يفهم ممن يقول في دار السلطان أمرنا بكذا إلا أن الأمر السلطان.
والثاني: أن غرض الصحابي تعليمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع عنه دون الائحة والولاة وأما حمله على أمر الله فمنتف لأن أمر الله تعالى ظاهر للكل لا يستفاد من قول الصحابي وحمله على الإجماع متعذر لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه وانما قلنا إن هذه المرتبة دون الثالثة لاحتمالها ما تحتمل تلك مع زيادة ما ذكرناه.
الخامس: أن يقرر من السنة كذا وهو حجة عند جماعة يجب حمله على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما عليه الإمام والآمدي والمتأخرون وخالف الكرخي والصيرفي والمحققون كما ذكر إمام الحرمين في البرهان:
وقال المازري أحد قولي الشافعي أنه ليس بحجة وحكى القاضي في مختصر التقريب اختلاف أصحابنا في ذلك وقد قال الشافعي في القديم إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية أي تساوي في العقل.
فإن زاد الواجب على الثلث صارت على النصف وذكر أن هذا القول القديم مرجوع عنه وأن الشافعي رضي الله عنه قال كان مالك يذكر أنه السنة وكنت أتابعه عليه وفي نفس منه شبهة حتى علمت انه يريد سنة أهل المدينة فرجعت عنه وهذا من الشافعي يدل على أن قوله من السنة ظاهر في أن المراد به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقم دليل على أن المراد سنة البلد أو غير ذلك.
ويدل أيضا على أن هذا لا يختص بالصحابي بل يعم كل متكلم على لسان الشرع كمالك وغيره وحجة الأولين ما تقدم في أمرنا ونهينا وهذه الدرجة دون الرابعة لاحتمالها ما نحتمل تلك مع زيادة احتمال سنة البلد أي طريقتها أو غير ذلك.
وإمام الحرمين قال إنها بمثابة تلك وكأنه رأى هذا الأحتمال مرجوحا لبعده من المتكلم على لسان الشريعة ومالك رضي الله عنه وإن كان قد وقع منه قوله من السنة مع إرادته سنة البلد فما ذلك إلا لأن إجماع المدينة عنده حجة فكانت
طريقها عنده من السنة فلذلك أطلق قوله من السنة وأراد سنة المدينة ولا يقع منه ذلك في بلد غيرها.
السادسة: أن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيه فقال قوم بظهوره في إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة وهو رأي المصنف وصفي الدين الهندي وأما الإمام وغيرهما من اتباعه فلم يرجح أحد منهم شيئا.
السابعة: أن يقول كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم كذا وكانوا يفعلون كذا ومنه قول عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه والأكثرون على أنه حجة وهو اختيار الآمدي.
ومقتضى اختيار الإمام هنا إلا أنه جعله مرتبة سابعة كما فعل المصنف ولم يصرح في السادسة بترجيح وقضية تقديمها ترجيحها وحجة الاكثرين أن قوله كنا نفعل وكانوا يفعلون ظاهر في فعل الجماعة وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصد الصحابي بيان الشريعة وهذه الدرجة دون التي قبلها لاختصاصها باحتمال أن يكون فعل بعضهم ولم يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن قصد الصحابي واعلم أن كلام المصنف ربما يوهم توقف الاحتجاج بقول الصحابي كنا نفعل على تقييده بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مخالفة لكلام غيره والذي عندي في ذلك أن لهذه الدرجة ألفاظا.
أعلاها: أن يقول كنا معاشر الناس أو كانت الناس تفعل ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما لا يتجه في القول بكونه حجة خلافا لتصريحه بنقل الاجماع المتعضد بتقرير النبي.
والثانية: كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ولا يصرح بجميع الناس فهذه دون ذلك لأن الضمير في قوله كنا يحتمل أن يعود على طائفة مخصوصة.
والثالثة أن يقول كان الناس يفعلون كذا ولا يصرح بعهد النبي صلى الله عليه وسلم فهذه دون الثانية من جهة عدم التصريح بعده صلى الله عليه وسلم وفوقها من جهة تصريحه بجميع الناس فيحتمل أن يقال لتساويها وإلا ظهر رجحان تلك لأن التقييد بعهد النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في أنه قرر عليه وتقريره تشريع سواء كان لواحد أو لجماعة.
وأما هذه فغايتها أنها ظاهرة في نقل الاجماع بخبر الواحد فيه من الخلاف ما هو معروف.
والرابعة: أن يقول كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وهي دون الكلام لعدم التصريح بالنبي صلى الله عليه وسلم ومما يعود عليه ضمير قوله كنا وكانوا فهذه طرق الصحابي في نقل الحديث النبوي والصحابي عند الأكثرين هو من رأي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولحظة سواء روي عنه أو لم يرو وقيل من طالت صحبته وإن لم يرو وقيل من طالت صحبته وأخذ عنه العلم وروي وتثبت الصحة بالنقل أو بالتواتر أو الآحاد وبقول المعاصر العدل أنا صحابي أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته ومن الناس من توقف في ثبوتها بقوله لما في ذلك من دعواه رتبة لنفسه وهو توقف ظاهر فإن المرء لو قال أنا عدل لم يلتفت إلى مقاله لدعواه لنفسه خصلة شريفة فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق منصب العدالة بأضعاف مضاعفة فهذا ما يجب التوقف فيه.
قال: الثانية لغير الصحابي أن يروي إذا سمع الشيخ أو قرأ عليه ويقول له هل سمعت فيقول نعم أو أشار أو سكت وظن إجابته عند المحدثين أو كتب الشيخ أو قال سمعت ما في هذا الكتاب أو يجيز له.
هذه المسألة في رواية غير الصحابي وذلك أيضا على سبع مراتب.
الأولى: أن يسمع من لفظ الشيخ فيلزمه العمل بالخبر ثم هو ينقسم إلى أملا وتحديث من غير أملا وسواء كان من حفظه أو من كتابه وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير.
وللسامع في هذا القسم أن يقول أخبرني وحدثني او سمعت أو أخبرنا أو حدثنا وهذا إن قصد الراوي إسماعه إما خاصة أو كان في جمع قصد الراوي إسماعهم وإن لم يقصد الشيخ إسماعه لا في وحدة فليس له أن يقول ألا سمعته يحدث عن فلان سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه الحافظ أبي بكر اليرقاني عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الابتذوبي سمت سمعت ولا يقول حدثنا ولا أخبرنا فذكر له أبا
القاسم كان مع علو قدره عسرا في الرواية وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل عليه وحده.
الثانية: أن يقرأ عليه وأكثر المحدثين يسمعون القراءة على الشيخ عرضا من حيث أن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه ويقول له بعد الفراغ من القراءة أو قبلها هل سمعت.
فيقول الشيخ نعم أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرىء علي ولا خلاف أنها رواية صحيحة إلا ما كحى عن بعض من لا يعتد بخلافه واختلفوا في أنها مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ والحكم بأن القراءة علته مرتبة ثانية.
وهو مذهب جمهور أهل المشرق وللقارئ هنا أن يقول قرأت على فلان وللسامع أن يقول قريء عليه وأنا أسمع فأقر به وله أن يقول حديثا قراءة عليه أو أخبرنا قراءة عليه وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا ففيه مذاهب.
أحدهما: المنع منهما جميعا وبه قال ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي.
والثاني: التجويز وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا.
وبه قال الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول سمعت فلانا حكاه ابن الصلاح.
والثالث: المنع من إطلاق حدثنا ويجوز أخبرنا وهو قول الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث وقد قرأ ابو حاتم محمد بن يعقوب الهروي صحيح البخاري على بعض الشيوخ عن الفريري وكان يقول له في كل حديث حدثكم الفريري فلما فرغ
من الكتاب سمع الشيخ يذكر أنه سمع الكتاب من الفريري قراءة عليه فأعاد أبو حاتم قراءة جميع الكتاب عليه وقال له في جيعه أخبركم الفريري.
الثالثة: أن يقرأ على الشيخ ويقول له هل سمعته فيشير الشيخ بإصبعه أو رأسه فالإشارة ههنا كالعبارة في وجوب العمل بذلك الخبر وكذا في جواز الرواية عنه على الصحيح.
الرابعة: أن يقرأ على الشيخ ويقول بقوله هل سمعته فيسكت الشيخ ويغلب على ظن القارئ بقرينة الحال إجابته له فيجب العمل به بلا خلاف وأما جواز الرواية فالجمهور من المحدثين وغيرهم عليها لأن سكوته نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ وشرط قوم إقرار الشيخ نطقا وبه قطع الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأبو نصر الصباغ.
الخامسة: يكتب الشيخ الى شخص سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه إذا علم خط الشيخ أو ظنه أنه يعمل به وله أن يروي عنه إذا اقترنت المكاتبة بلفظ الأجازة بأن يقول أجزت لك ما كتبته إليك أو نحو ذلك وأما إن تجردت المكاتبة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني1 ومنصور والليث بن سعد وجماعة من أصحابنا وغلا أبو المظفر السمعاني من أصحابنا فقال إنها أقوى من الإجازة إليه مصير جمع من الأصوليين وهو قضية ترتيب المصنف حيث أخر ذكر الإجازة في التعداد ومنع قوم من الرواية بها منهم الماوردي في الحاوي وجوز الليث بن سعد ومنصور واطلاق حديثا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة والمختار خلافه وأنه إنما يقول كتب إلى فلان.
السادسة: أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول سمعت ما في هذا الكتاب من فلان وهو مسموعي من فلان فيعمل السامع به وإما أنه هل يرويه عنه فله أحوال.
1 هو: أيوب بن أبي تيمية كيسان السختياني البصري سيد فقهاء عصره تابعي من النساك الزهاد من حفاظ الحديث روي عنه نحو ثمانمائة حديث. توفي سنة 131هـ.
حلية الأولياء 3/3، الأعلام 1/382.
إحداها: أن يقرن ذلك بالمناولة والإجازة وهذه الحالة أعلى من الأحوال ومن صورها أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعا مقابلا له ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فأروه عني أو أجزت لك روايته عني ثم يهبه إياه أو يقول خذه وانسخه وقابل به ونحو هذا ومنها أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ العارف المتيقظ ثم يعيده إليه ويقول وقفت على ما فيه وهو حدثني عن فلان فاروه عني وهذا يسمى عرض المتأولة كما أن القراءة على الشيخ تسمى عرض القراءة وهذه المناولة المقرونة بالإجازة حاله محل السماع عند الزهري وربيعة الراوي ويحيى بن سعيد ومالك بن أنس ومجاهد وابن عيينة وقتادة وأبي العالية وابن وهب وآخرين والصحيح أن ذلك غير محال محل السماع وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا والأخبار قراءة.
قال الحاكم أما فقهاء الاسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا ويه قال الشافعي والأوزاعي والبوطي والمزني وأبو حنيفة وسفيان الثوري واحمد بن حنبل وابن المبارك يحيى واسحاق بن راهويه قال عليه عهدنا أئمتنا وإليه ذهبوا وإليه نذهب.
وثانيها: ان يناوله الكتاب مناولة مجردة عن الإجازة فيقتصر على قوله هذا من حديثي أو من سماعي ولا يقول أروه عني فهذه مناولة مختلة لا يجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على شر ذمة من المحدثين سوغوا الرواية بها.
وثالثها: أن لا يناوله ولا يجيزه بل يقتصر على أعلامه بأن هذا من سماعي من فلان فهذه أولى بالمنع من الثانية ونقل ابن جريج أن ذلك طريق مجوز لرواية ذلك عنه وبه قطع ابن الصباغ من أصحابنا والصحيح خلافه لأنه قد يكون ذلك مسموعه ثم لا يأذن في روايته عنه لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه.
وبهذا يفارق هذه الصورة ما إذا قرأ عليه وهو يستمع ويقر به حيث يجوز لكل سامع أن يرويه عنه بالطريق المقدمة فإن هناك من وجد منه تحديث واقرار فدل على أنه لا خلل عنده فيه من التحديث به وانما هذا كالشاهد
إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه إن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته وذلك أمر تساوت فيه الشهادة والرواية لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك وإن افترقنا في غيره.
السابعة: الاجازة وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب العمل بالمروي بها وخالف بعض أهل الظاهر وهو خلاف ضعيف لأنه ليس في الاجازة ما يقدح في اتصال المنقول بها وفي الثقة به.
وأما الرواية بالاجازة فقد اختلف العلماء فيها والذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من المحدثين وغيرهم القول بتجويز الاجازة وإباحة الرواية بها وخالفهم جماعة منهم إبراهيم بن اسحاق الحربي وأبو محمد عبد الله الأصبهاني الملقب بأبي الشيخ وهو رواية عن الشافعي واختار القاضي الحسين والماوردي من أصحابنا وقال لو جازت الاجازة لبطلت المرحلة.
واعلم أن في الاحتجاج لصحة الاجازة غموض قال أبو طاهر الدباس من أئمة الحنفية من قال لغيره أجزت لك أن تروي عنى فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي.
وكذا قال غيره تقدير أجزت لك ابحت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع واحتج ابن الصلاح للاجازة بأنه إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته فقد اخبره بها جملة فهو كما لو أخبره تفصيلا وأخباره بها غير متوقف على التصريح نطقا كما في القراة على الشيخ على ما سبق.
قلت: وتقدير قوله أجزت لك أنى أجزتك اني أروي هذا الكتاب وأذنت لك أن تنقله عنى.
وقول الراوي اخبرنا فلان إجازة ليس معناه إلا هذا كأنه يقول اخبرني انه يروي الكتاب الفلاني واذن لي في نقله عنه بهذا الطريق.
هذا هو الذي يتجه في الاجازة ولا يتضح غيره وقد يشبه هذا بما إذا كتب وصيته وقال لشخص اشهد علي بما في هذا المكتوب.
قال محمد بن نصر من أئمة صحابنا له أن يشهد عليه بما فيه والرواية أولى من الشهادة وإذا تقرر جواز الاجازة من حيث الجملة فتقول هي عند التفصيل أنواع.
الأول: أن يجيز لمعين في معين مثل أن يقول أجزت لك الكتاب الفلاني أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه فهذا أعلى أنواع الاجازة وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها وأن الخلاف إنما هو في غير هذا النوع من الاجازة والصحيح ان الخلاف بطرقها أيضا.
الثاني: أن يجيز لمعين في غير معين مثل أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر والجمهور على تجويزه.
الثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم مثل أجزت المسلمين أو لمن أدرك حياتي فقد منعه جماعة وجوزه الخطيب وغيره وجوز القاضي أبو الطيب الاجازة لجميع المسلمين من كان منهم موجودا عند الاجازة والاجازة لغير معين بمعين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى الكتاب الفلاني أقوى من الاجازة لغير معين بغير معين مثل أجزت جميع المسلمين أن يرووا عنى جميع مروياتي.
الرابع: الاجازة المجهول أو بالمجهول مثل أجزت لمحمد بن خالد الدمشق وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب ثم لا يعين المجاز له منهم أو يقول أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن وهو يروي عن جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك وليس ثم قرينة عهد ولا غيرها ترشد إلى المراد من ذلك فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها وليس ومن هذا القبيل ما إذا أجاز جماعة مسمين معينين بانسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم فإن هذا غير قادح كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه وإن أجاز للمسلمين المنتسبين في الاجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولم يعرف عددهم ولا تصفح أسماءهم واحدا فواحدا.
قال ابن الصلاح فينبغي أن يصح ذلك أيضا كما يصح سماع من حضر
مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلا ولا عددهم ولا تصفح أشخاصهم.
الخامس: الاجازة المعلقة بشرط مثل أجزت لمن شاء فلان أو نحو ذلك وهو كالنوع الرابع ففيه جهالة وتعليق شرط.
وقد أفتى القاضي ابو الطيب بأنه لا يصح وعلل بأنه اجازة لمجهول فصار كقوله أجزت بعض الناس.
وقال أبو يعلي ابن الفرار وأبو الفضل بن عمروس المالكي يجوز ذلك وإذا قال أجزت لمن شاء فهو مثل أجزت لمن شاء فلان بل هذه أكثر جهالة وانتشارا من جهة تعليقها بمشيئة من لا يحصر عددهم ثم هذا فيما إذا جاز لمن شاء الاجازة منه له فإن أجاز لمن شاء الرواية عنه فهذا أولى بالجواز من حيث أن قضية كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة الجواز له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحا بما يقتضيه الاطلاق وحكاية المحال لا تعليقا في الحقيقة.
ولهذا أجاز بعض أصحابنا في البيع أن يقول بعتك بكذا ان شئت فيقول قبلت.
السادس: الإجازة للطفل الصغير.
قال الخطيب سألت القاضي أبا الطيب هل يعتبر في صحة الاجازة للطفل الصغير سنه أو تمييزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه فقال لا يعتبر ذلك.
قال: فقلت له إن بعض أصحابنا قال لا تصح الاجازة لمن لا يصح سماعه فقال قد يصح أن يجيز للغائب عنه ولا يصح السماع له واحتج الخطيب للصحة بأن الاجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل.
السابع: الاجازة للمعلوم ابتداء مثل أن يقول أجزت لمن يولد لفلان وقد أجازها أبو يعلي بن الفرا من الحنابلة وأبو الفضل بن عمروس من المالكية والخطيب من أصحابنا.
قال ابن الصباغ ومأخذ من أجازها اعتقاده أن الإجازة إذن في الرواية لا
محادثة والصحيح وهو الذي استقر عليه رأي القاضي أبي الطيب أنها لا تصح لأن الاجازة في حكم الاخبار جملة بالمجاز كما تقدم فكما لا يصح الاخبار للمعدوم لا يصح إجازته.
الثامن: الاجازة للمعدوم عطفا على الموجود مثل أجزت لك ولولدك وعقبك ما تناسلوا وهو أقرب إلى الجواز من الأول ولهذا أجازه الأصحاب في الوقف ولم يجيزوا الأول وقد فعل هذا أبو بكر بن أبي داود السجستاني فانه سئل عن الاجازة فقال قد أجزت لك ولأولادك ولحبل الحبلة يعنى من يولد بعد.
التاسع: الاجازة بما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله فيما مضى ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك.
قال ابن الصلاح ينبغي أن يبنى ذلك على أن الاجازة في حكم الاخبار بالمجاز جملة أو هي إذن فلا يصح إن جعلت في حكم الاخبار إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه وإن جعلت إذنا بني علي الخلاف في تصحيح الاذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الأذن الموكل بعد مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا والصحيح بطلان هذه الإجازة.
العاشر: اجازة المجاز مثل أجزت لك مجازاتي أو رواية ما أجيز لي روايته وقد منع من ذلك بعض المتأخرين والصحيح جوازه.
وقد كان الفقيه الزاهد نصر المقدسي يروي بالاجازة عن الاجازة حتى ربما والى بين اجازات ثلاث في روايته.
الحادي عشر: الاذن في الاجازة مثل أن يقول له أذنت لك أن تخبر عني من شئت وهذا نوع لم أر من ذكره ولكنه وقع في عصرنا هذا وسألني بعض المحدثين عنه والذي يتجه أنه يصح كما لو قال وكل عني ويكون مجازا من جهة الاذن وينعزل المأذون له في أن يخبر بموت الآذن كما ينعزل الوكيل بموت الموكل.
وإذا قال أذنت لك أن تجيز عني فلانا كان أولى بالجواز من أذنت أن تجيز عني من شئت.
قال: الثالثة: لا يقبل المرسل خلافا لأبي حنيفة ومالك.
المرسل عند جمهور المحدثين هو أن يترك الراوي ذكر الواسطة بينه وبين المروى عنه مثل أن يترك التابعي ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول سعيد بن المسيب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذا سقط واحد قبل التابعي كقول من يروي" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيسمي منقطعا وإن سقط أكثر سمي معضلا" وعند الاصوليين المرسل قول من لم يلحق النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان تابعيا أم من تابع التابعين.
وإلى يومنا هذا فتفسير الأصوليين أعم من تفسير المحدثين إذا عرفت ذلك فقد اختلف في المرسل والذي استقر عليه آراء جماهير الحفاظ الجهابذة الحكم بضعفه وسقوط الاحتجاج به ونقله مسلم رضي الله عنه في صدر الصحيح عن قول أهل العلم بالاخبار وقال بقوله مالك وأبو حنيفة وكذا أحمد في أشهر الروايتين عنه وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي ثم غلا بعض القائلين بكونه حجة فزعم أنه أقوى من المستند.
والشافعي رضي الله عنه صدر القائلين برد المراسيل إلا أنه نقل عنه أنه قبل بعضها في أماكن قال القاضي رحمه الله ونحن لا نقبل المراسلين مطلقا ولا في الأماكن التي قبلها فيها الشافعي حسم للباب والقول بمذهب الشافعي هو اختيار الإمام وصاحب الكتاب.
قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقا وهذا هو اختيار ابن الحاجب حيث قال:
إن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا وأئمة النقل يدخل فيهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وهو اختصار حسن وليس مذهبنا لرأي ابن أبان كما توهمه بعض الشارحين.
ومن أمثلة المرسل احتجاج المخالفين بحديث أبي العالية ان ضريرا دخل المسجد فوقع في حفرة في المسجد فضحك بعض من كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال
من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة فنقول أبو العالية تابعي والمرسل عندنا لا حجة فيه فإن قلت روى الشافعي عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة فيما لم ينقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" 1 وهذا قد احتج به الشافعي وهو سيد المنكرين للمراسيل.
قلت ستعرف أن مراسيل سعيد عندنا مقبولة لكونها مسانيد وكذا مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن وهذا الحديث قد روى بهذا الإسناد مسندا فروى أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني وابن أبي قتيلة وعبد الملك الماجشون عن مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
قال لنا: إن عدالة الأصل لم تعلم فلا تقبل الرواية تعديل قلنا قد يروى عن غير العدل قيل إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي الصدق قلنا بل السماع قيل الصحابة أرسلوا وقبلت قلنا الظن السماع.
الدليل على رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة لأن رواية المجهول مردودة فإن قيل روايته عنه مع إخفاء اسمه تعديل وإلا يكون ملبسا غاشا قلنا لا نسلم وسند هذا المنع ان العدل قد يروى عن غير العدل كذا أجاب في الكتاب.
ولقائل أن يقول إنما يروي عن غير العدل إذا صرح به ليعرف أما إذا أبهمه فذلك تلبيس لا يجوز الأولى الجواب باحتمال ظنه عدالته وليس في نفس الأمر كذلك ويجوز أنه لو أظهره لاقتضى نظرنا أنه غير عدل بخلاف ما اقتضاه الأمر تظره فإن قيل قول هذا العدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه علم أو ظن أنه قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح أنه قال تعين قبوله قلنا قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقتضي الجزم بأن الرسول عليه السلام قال ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويز نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي.
1 رواه الطبراني من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما الفتح الكبير 2/182.
قال وإلا لم يسنده إليه وإذا صح تعين قبوله قول الفرع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزم بأن الرسول عليه السلام قال" ولا شك في ثبوت احتمال أنه لم يقله والجزم بالشيء مع تجويزه نقيضه كذب فادح في عدالة الراوي.
فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره وليس قولهم المراد أني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله بأولى من قولنا نحن المراد أنى سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر لم يكن تعديلا هذا جواب المصنف ولقائل أن يقول لا نسلم أن قوله قال يقتضي الجزم ولم قلتم أنه لا يكفي الظن مسوغا لإطلاق هذه اللفظة ثم لا نسلم أنه ليس أحدهما أولى لأن قوله قال تقتضي إسناد القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حمله على أنه يظن ذلك تبقية لذلك الإسناد بخلاف حمله على السماع إذ قد يسمع ويقطع بكذب من سمع منه ولا يجوز له والحالة هذه أن يقول قال فحمله على ظن القول أقرب وأولى من حمله على السماع والحاصل أن مجرد السماع لا يسوغ له أن يقول.
قال فلا بد من ضم الظن إليه قوله قيل الصحابة احتج القائلون بالمراسيل بأن الصحابة رضي الله عنهم أرسلوا عدة أحاديث لم يصرحوا فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم بل قالوا قال وقبلها كل واحد منهم والجواب أنها إنما قبلت الظن الغالب القاضي بأن الصحابي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بالظن واجب وهذا في الحقيقة ليس بمرسل لأن المرسل كما عرفت قول من لم يلق زيدا قال زيد والصحابي لقي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فرعان الأول المرسل يقبل إذا تأكد بقول الصحابي أو فتوى أكثر أهل العلم.
قال إمام الحرمين في البرهان أن الشافعي لا يقول بشيء من المراسيل وقال القاضي في مختصر التقريب أنه قبل المرسل في بعض الأماكن والحاصل ان قاعدة الشافعي رد المراسيل والمواضع المستثناة لم يقبلها لكونها مراسيل بل لظن عضدها وقضى بكونها مسندة فكلام إمام الحرمين صحيح وما ذكره القاضي أيضا صحيح والمواضع المستثناة منها.
وقد ذكره في الكتاب أن يعضده قول صحابي قال القاضي في مختصر التقريب وفيه نظر فإن الصحابي لا يحتج بقوله لغيره ومنها أن يعضده مذهب العامة وهو المشار إليه في الكتاب فتوى أكثر أهل العلم قال القاضي فأقول له إن عنيت بالعامة الأمة فكأنك شرطت الإجماع في قبول المرسل وإذا ثبت الإجماع استغنى عن المرسل.
وإن أردت مذهب العوام فأنت أجل قدرا من ذلك إذ لا عبرة بخلافهم ولا وفاقهم وإن أردت معظم العلماء فمصير المعظم مع وجود الخلاف لا يصير ما ليس بحجة حجة قلت والشافعي لم يرد الإجماع ولا قول العوام وإنما أراد أكثر أهل العلم ولا شك أن الظن يقوى عنده وكذلك قول الصحابي وإذا قوى الظن وجب العمل به.
فالمرسل بمجرده ضعيف وكذا قول أكثر أهل العلم وحالة الإجتماع قد يقوم ظن غالب وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا ومنها أن يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول وضعفه القاضي بأن كثرة المرسلين لا يدل على الصحة كما إذا روى عن كثير من الضعفاء قلت وهو كالأول فإن ما أتفق جماعة من الضعفاء على روايته أقوى مما انفرد بروايته ضعيف واحد وكذلك الظن الحاصل بصدق المرسل الذي عضده مرسل آخر أقوى منه حالة التجرد فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما ومنها أن يسنده غير مرسله وكلام القاضي يقتضي أن الشافعي يقول ذلك.
وإن كان المسند في تلك الرواية الموافقة للمرسل حجة لأنه رد على الشافعي بأن العمل حينئذ بالمسند دون المرسل والإمام في المحصول قال ان هذا فيما إذا لم تقم حجة بإسناده لكن في كلامه بعد ذلك ما يخالف هذا فإنه ذكر عن الحنفية ما اعترض به القاضي وعلى التقديرين فيه نظر.
أما الأول: فلما ذكره القاضي.
وأما الثاني: فلأن الضعيف إذا إنضم إلى الضعيف لا يوجب العمل به كذا ذكروه ولك أن تقول قد يحصل الظن بالضعيفين حالة إجتماعهما كما عرفت.
ومنها أن يعلم من المرسل أنه لو نص لنص على من يسوغ قبول خبره قال واقبل مراسيل سعيد بن السيب لأني اعتبرتها فوجدتها كذلك قال ومن هذا حاله احسب مراسيله ولا أستطيع أن أقول إن الحجة ثبتت بها في ثبوتها بالمتصل قلت أنظر ما أحسن كلام الشافعي حيث صرح بأن المرسل لا يبلغ درجة المتصل وإنما هذه الأمور المستثناة توجب ظنا فوق الظن المستفاد من المرسل المجرد قد تقوم به الحجة ولكن تكون حجة دون حجة المسند.
وقال الماوردي في باب الشفعة من الحاوي أن مرسل أبى سلمة عبد الرحمن عند الشافعي حسن.
قال الثاني إن أرسل ثم أسند قبل وقيل لا لأن إهماله يدل على الضعف من أسند حديثا أرسله غيره فلا شبهة في قبوله.
وهذا مما تكاد الفطر الزكية أن تدعي فيه القطع.
لكن القاضي في مختصر التقريب حكى عن بعض الغلاة في رد المراسيل أنه قال لا يجب العمل به وهذا مما ذكره القاضي ساقط من القول واما أن أرسله هو مرة وأسنده أخرى فعبارة المصنف كالصريحة في أن الكلام فيه وأن فيه خلافا وعليه الشارحون والخلاف فيه ثابت عن بعض المحدثين ولكن الذي جزم به الإمام وأتباعه أنه يقبل.
وما نرى المصنف يخرج عن طريقهم ولا نعلم أنه وقف على هذا الخلاف والذين عندنا أن مراده من شأنه إرسال الاخبار إذا أسند خبرا هل يعتل أو يرد وهي مسألة ذات خلاف مشهور.
واحتج من قال لا يقبل بان اهماله ذكر الرواة في الغالب يدل على ضعف الراوي فيكون ستره له خيانة وتدليسا فلا تقبل روايته ولك أن تمنع دلالة الاهمال على الضعف ونقول لعله آثر الإختصار أو طرقه النسيان.
وإذا قلنا بالقبول وهو الراجح فقال الشافعي إنما يقبل من حديثه ما قال فيه حدثني أو سمعت ولا يقبل ما يأتي فيه بلفظ موهم.
وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا.
قال الرابعة يجوز نقل الحديث بالمعنى خلافا لابن سيرين لنا أن الترجمة بالفارسية جائزة بالعربية أولى قيد يؤدي إلى طمس الحديث قلنا لما تطابقا لم يكن ذلك.
اتفق الأئمة الأربعة والحسن البصري وعدة من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا لم يزد في المعنى ولا ينقص وساوى الأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وأخرى بالمتشابه وغير ذلك مما لله تعالى فيه حكمة فلا يجوز تغيرها عن وصفها.
قال الأئمة والأولى خلافه وهذا ما نقله الآمدي وغيره ونقل الماذري أن مالكا قال لا ينقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى بخلاف حديث الناس وذهب محمد بن سيرين1 وجماعة من السلف إلى وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار ابي بكر الرازي ونقله إمام الحرمين في البرهان عن معظم المحدثين وشرذمة من الاصوليين ووهم صاحب التحصيل فعزاه إلى الشافعي رضي الله عنه.
ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين وعن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.
وفصل قوم فقالوا يجوز إبدال اللفظ بما يرادفه دون غيره والأول هو المختار وعليه الإمام والآمدي والمتأخرون جميعا واحتج الجمهور بأوجه.
أحدها: أنه يجوز شرح الشريعة للعجم بلسانها فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فإبدالها بعربية أخرى أولى بالجواز ولا شك أن التعاون بالعربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية.
قلت وفيه نظر لأن الترجمة بالفارسية جوزت للحاجة وذلك مما لا يتعلق به استنباط واجتهاد بل هو من قبيل بيان المشروع بخلاف تبديل لفظ الحديث إذ هو مناط اجتهاد واختلاف الالفاظ فيه مظنة اختلاف المعاني.
1 هو محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر البصري إمام وقته روى عن أنس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة – رضي الله عنهم وروى عنه الشعبي وقتادة والأوزاعي. توفي سنة 110هـ
خلاصة تهذيب الكمال 2/412- 413.
والوجه الثاني: قال الإمام وهو الأقوى أنا نعلم بالضرورة ان الصحابة الذين رووا هذه الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس ولا يكررون عليها فيه بل كما سمعوها تركوها وما رووها إلا بعد الاعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ.
والثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم ربما نقلوا القصة الواحدة بألفاظ مختلفة وكتب الحديث تشهد بذلك ومن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تلك القصة بجميع تلك الألفاظ بل نحن في بعضها قاطعون بذلك وكان هذا شائعا بينهم ذائعا غير منكر من أحد فكان إجماعا على نقل الحديث بالمعنى.
قال أبو المظفر بن السمعاني ومما يدل على ذلك رواية الصحابي المناهي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل نهيه عن بيعتين في بيعة ونهيه عن المحاقلة والمزانية وحبل الحبلة والنجش وبيع حاضر لباد وغير ذلك وقوله قضى بالشاهد واليمين والشفعة فيما لم ينقسم فمعلوم أن الرواة لم يقصدوا الفاظه في هذه الاخبار وإنما حكوا المعنى.
والرابع: أنا نعلم أن الالفاظ خدم للمعاني وليست مقصودة بالذات إلا في القرآن العزيز لكونه معجزا والمعنى هو المقصود فإذا حصل تاما لم يضر اختلاف الالفاظ وليس للفقيه أن يعترض على هذا بكلمات الأذان والتشهد والتكبير ولفظي النكاح والتزويج وغير ذلك مما تعبدنا فيه بالألفاظ لأن الألفاظ مقصودة فيه مع المعاني وكلامنا حيث لا يكون اللفظ مقصود أو احتج من منع نقل الحديث بالمعنى بأن ذلك مؤد إلى طمسه واندراسه لأن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى كان غايته الاجتهاد في طلب ألفاظ توافق ألفاظ الحديث وتؤدي معناه.
وأهل العلم على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على أشد اختلاف في معاني الألفاظ وفهم دقائقها والوقوع على مواقعها فيجوز أن يغفل عن بعض تلك الدقائق وينقله إلى لفظ آخر غير دال على تلك الدقيقة ثم يتصل الخبر بالطبقة الثانية وهو خال من تلك الدقيقة فينقلوه أيضا بالمعنى ويدعون منه نحو ما ترك الأول منه وهلم جرا حتى يقع التفاوت الكثير.
والجواب أنه متى أخل بأدنى شيء لم يجر وتخرج المسألة عن صورتها لأن الغرض أنه لم يخل بشيء بل أتى بالمطابق من كل وجه.
فائدة: سأل بعضهم عن الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة في فصل الترادف في جوازه إقامة أحد المترادفين مقام الآخر وزعم أن لا فرق وغره أن الآمدي لم يذكر تلك المسألة فظن اكتفاء بهذه عن تلك وهذا عندي سؤال من لم يترو من الأصول وما الجامع بين المسألتين وأن يحيل أن الراوي بالمعنى إذا أقام أحد المترادفين مقام الآخر تتحد المسألة من هذه الجهة.
فنقول تلك المسألة في أمر لغوي وهي أعم من أن يقع في كلام راو للحديث أو غيره فالمانع في تلك نقول اللغة تمنع منه مطلقا ولا يتعرض إلى أن الشرع هل يمنع منه أولا وهذه في أمر شرعي خاص وهو رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم والمانع منه يقول لا يجوز للاحتياط فيه وهذا سواء جوزته اللغة أم منعته.
قال الخامسة إذ زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قبلت وكذا من اتحد وجاز الذهول عن الباقين ولم يغير اعراب الباقي وإن لم يجر الذهول لم يقبل وان غير الاعراب مثل في أربعين شاة شاة أو نصف شاة طلب الترجيح فان زاد مرة وحذف أخرى فالإعتبار بكثرة المرات.
والروايتان فصاعدا إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة فأما أن يكون المجلس متعددا أو متحدا.
فإن كان متغايرا قيلت الزيادة إذ لامتناع في ذكره صلى الله عليه وسلم الكلام في أحد المجلسين بدون زيادة وفي الآخر بها والراوي مقبول القول وإن كان المجلس متحدا فالذين لم يرووا الزيادة.
أما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم يقبل الزيادة وشرط ابن السمعاني في عدم القبول أن يقول الجماعة أنهم لم يسمعوه.
قال: فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أن يكونوا رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم قلت وهذا هو المختار إلا أن تكون الزيادة مما توفر الدواعي على نقلها.
وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تغير إعراب الباقي أو تغير فإن لم تغير قبلت عند المصنف والآمدي وقال الإمام تقبل إلا أن يكون الممسك عن الزيادة اضبط من الراوي لها وأن لا يصرح بنفيها فإن صرح وقع التعارض وقال بعضهم لا يقبل مطلقا وإن غيرت الاعراب كما لو روى راو في أربعين شاة شاة.
وروى الآخر نصف شاة فالحق عند الجمهور منهم الإمام واتباعه أنها لا تقبل ويتعارضان وخالف أبو عبد الله البصري لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا روي شاة فقد رواه بالرفع والآخر إذا روى نصف شاة فقد رواه بالجر والرفع والجر ضدان فوجب المصير إلى الترجيح.
ونقل إمام الحرمين في البرهان من غير تعرض لهذه الشروط عن الشافعي وسائر المحققين قبول الزيادة من الراوي الموثوق به.
وقال بعضهم إن تساوي الساكت وراوي الزيادة في العدد قبلت وإن كان الساكت أكثر فلا وقد سكت المصنف عما إذا لم يعلم هل تعدد المجلس أو اتحد.
قال الآمدي وحكمه حكم المتحدد وأولى بالقبول نظرا إلى احتمال التعدد ومن أمثلة ذلك حديث ابن عمر في صدقة الفطر رواه جماعة من الثقاة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر.
وروى سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وزاد أو صاعا من قمح.
وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم" 1 ثم روى يحيى بن محمد الحارثي حدثنا زكريا
1 رواه ابن ماجة من حديث عائشة – رضي الله عنها كما رواه مسلم من حديث أم سلمة – رضي الله عنها.
الفتح الكبير 3/202.
ابن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر هذا الخبر وزاد فيه أو فيه شيء من ذلك.
وهذا كله فيما إذا كان راوي الزيادة ثقة أما إذا كان ضعيفا فذاك مردود الرواية إن صاحب الكتاب ذكر فرعا في ذيل المسألة وهو ما إذا زاد الراوي الواحد مرة ولم يرو تلك الزيادة غير تلك المرة أي وكان المجلس الذي أسند إليه الزيادة والنقصان متحدا.
فالاعتبار بكثرة المرات لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه قال الإمام وان تساويا قبلت الزيادة ومثال الأول أن سفيان بن عيينة روى عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها:
قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أنا خبأنا لك حيسا فقال أما أني كنت أريد الصوم ولكن قريبه أسنده عنه هكذا الشافعي رضي الله عنه ورواه شيخ يقال له محمد بن عمر وابن العباس الباهلي عن سفيان وزاد فيه وأصوم يوما مكانه قال أحمد هذه لفظة كان ابن عيينة زادها في الحديث آخر عمره لا يدري أهي محفوظة أو شيء وقع في لفظه.
وقال الشافعي سمعت سفيان عامة مجالسة لا يذكر فيه سأصوم يوما مكانه ثم عرضته عليه قبل موته بسنة فأجاب فيه سأصوم يوما مكانه آخر كتاب السنة والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
*
تعريف الإجماع
…
الكتاب الثالث في الإجماع
قال رحمه الله في الكتاب الثالث في الاجماع وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
الإجماع لغة العزم قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" والاتفاق أيضا يقال أجمعوا على كذا أي صاروا ذا جمع كما يقال البن والتمر إذا صار ذا لبن وتمر وفي الاصلاح ما ذكره المصنف فقوله اتفاق حسن والمراد به الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو في الكل.
وقوله أهل الحل والعقد والمراد به المجتهدين فصل يخرج منه من ليس كذلك كالعوام إذ لا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم ويخرج أيضا اتفاق بعض أهل الحل والعقد وقوله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم اختراز عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه وان قيل بأن إجماعهم حجة كما هو أحد المذهبين للاصوليين واختيار الاسناد أبي اسحق كما حكاه عنه أبو اسحاق في شرح اللمع فليس الكلام إلا في الإجماع الذي هو دليل شرعي يجب العمل به الآن وذلك وان وجب العمل به فيما مضى لكن انتسخ حكمه منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله على أمر من الأمور يشمل الأحكام الشرعية كحل النكاح وحرمة قتل النفس بغير حق واللغوية ككون إلقاء للتعقيب ولا نزاع في هذين ويشمل أيضا العقليات كحدث العالم وهو كذلك خلافا لامام الحرمين وخلافا للشيخ أبي اسحاق الشيرازي في كليات أصول الدين كحدث العالم واثبات النبوة لا
جزئياته كجواز الرؤية فإنه وافق على أن الإجماع في مثلها حجة ويشمل الدنياويات أيضا كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية وفيه مذهبان المختار منها وجوب العمل فيه بالإجماع.
وفي التعريف نظر من جهة اشعاره بعدم انعقاد الاجماع إلى يوم القيامة فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جملة من اتبعه إلا يوم القيامة ولم يقل بذلك أحد من المعترفين بالإجماع فكان ينبغي تقييده بعصر من الأعصار.
ومن جهة أنه لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فقوله اجماع وتعبير المصنف بالاتفاق ينبغي ذلك إذ حقيقة الاتفاق أن يكون من اثنين فصاعدا ولعل المصنف يختار أن ذلك ليس باجماع وهو مذهب مشهور منقدح لأن الأدلة إنما دلت على عصمة الامة فيما أجمعوا عليه فلا بد من صدق.