الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ النِّكَاحِ
وَفِيهِ أَبْوَابٌ.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ] فِي خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَئِمَّةُ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: مَا اخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ زِيَادَةُ الزُّلْفَى وَالدَّرَجَاتِ، فَلَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْفَرِيضَةُ يَزِيدُ ثَوَابُهَا عَلَى ثَوَابِ النَّافِلَةِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً، وَاسْتَأْنَسُوا فِيهِ بِحَدِيثٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَمِنْ ذَلِكَ، صَلَاةُ الضُّحَى، وَمِنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالْوِتْرُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمُشَاوَرَةُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْخَمْسَةِ.
وَالْأَرْجَحُ: أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ التَّهَجُّدِ.
قُلْتُ: جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، عَلَى أَنَّ التَّهَجُّدَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ قَلَّ.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله نَصَّ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ. وَفِي
(صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَكَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا رَأَى مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ.
قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، بَلْ كُلُّ مُكَلَّفٍ تَمَكَّنَ مِنْ إِزَالَتِهِ، لَزِمَهُ تَغْيِيرُهُ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِلْخَوْفِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَكَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ.
وَكَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُعْسِرًا. وَقِيلَ: كَانَ يَقْضِيهِ تَكَرُّمًا. وَفِي وُجُوبِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ، وَجْهَانِ.
وَقِيلَ: كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم تَخْيِيرَ نِسَائِهِ بَيْنَ مُفَارَقَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَمَّا خَيَّرَهُنَّ، اخْتَرْنَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم التَّزْوِيجَ عَلَيْهِنَّ وَالتَّبَدُّلَ بِهِنَّ مُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ، فَقَالَ تَعَالَى:(لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)[الْأَحْزَابِ: 52] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ لِتَكُونَ الْمِنَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَرْكِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهِنَّ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)
[الْأَحْزَابِ: 50]
وَهَلْ حُرِّمَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم طَلَاقُهُنَّ بَعْدَمَا اخْتَرْنَهُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا، وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ عَقِيبَ اخْتِيَارِهِنَّ، وَلَا يَحْرُمُ إِنِ انْفَصَلَ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ اخْتَارَتِ الدُّنْيَا، فَهَلْ كَانَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَهَلْ كَانَ جَوَابُهُنَّ مَشْرُوطًا بِالْفَوْرِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ، فَهَلْ كَانَ يَمْتَدُّ بِامْتِدَادِ الْمَجْلِسِ، أَمِ الْمُعْتَبَرُ مَا يُعَدُّ جَوَابًا فِي الْعُرْفِ؟ وَجْهَانِ. وَهَلْ كَانَ قَوْلُهَا: اخْتَرْتُ نَفْسِي، صَرِيحًا فِي الْفِرَاقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَهَلْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ صلى الله عليه وسلم التَّزْوِيجُ بِهَا بَعْدَ الْفِرَاقِ؟ وَجْهَانِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ.
أَحَدُهُمَا: الْمُحَرَّمَاتُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ، فَمِنْهَا الزَّكَاةُ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا الْأَكْلُ مُتَّكِئًا، وَأَكْلُ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: مُحَرَّمَةً. وَمِمَّا عُدَّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، الْخَطُّ وَالشِّعْرُ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحْسِنُهُمَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: كَانَ يُحْسِنُهُمَا لَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْهُمَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ لَا يُحْسِنُهُمَا.
قُلْتُ: وَلَا يَمْتَنِعُ تَحْرِيمُهُمَا وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُمَا. وَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ التَّوَصُّلِ إِلَيْهِمَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا لَبِسَ لَامَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ وَيُقَاتِلَ، وَقِيلَ: كَانَ مَكْرُوهًا لَا مُحَرَّمًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبْتَدِئُ تَطَوُّعًا إِلَّا لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ.
وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَدُّ الْعَيْنِ إِلَى مَا مُتِّعَ بِهِ النَّاسُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ
الْأَعْيُنِ، وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى مُبَاحٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ، عَلَى خِلَافِ مَا يُظْهِرُهُ وَيُشْعِرُ بِهِ الْحَالُ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْدَعَ فِي الْحَرْبِ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ. وَفِي الْجُرْجَانِيَّاتِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ، فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ وَهَلْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ وُجُودِ الضَّامِنِ؟ قُلْتُ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ مَعَ الضَّامِنِ، ثُمَّ نُسِخَ التَّحْرِيمُ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا ضَامِنَ لَهُ، وَيُوَفِّيهُ مِنْ عِنْدِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُصَرِّحَةٌ بِمَا ذَكَرْتُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنِّكَاحِ. فَمِنْهَا: إِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْ نِكَاحَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يُفَارِقُهَا تَكَرُّمًا. وَمِنْهَا: نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي التَّسَرِّي بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِي التَّسَرِّي بِالْكِتَابِيَّةِ، الْحِلُّ. وَفِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، التَّحْرِيمُ. قَالُوا: وَلَوْ قُدِّرَ نِكَاحُ أَمَةٍ، كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا عَلَى الصَّحِيحِ مَعَ تَجْوِيزِنَا جَرَيَانَ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ. وَفِي لُزُومِ قِيمَةِ هَذَا الْوَلَدِ وَجْهَانِ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: نَعَمْ. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لَا، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ الرِّقَّ بِظَنِّهِ، وَهُنَا الرِّقُّ مُتَعَذِّرٌ. وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ، فَكَانَ نِكَاحُهَا مُحَرَّمًا عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَطَرَدَ الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: التَّخْفِيفَاتُ وَالْمُبَاحَاتُ. وَمَا أُبِيحَ لَهُ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ النِّكَاحِ، فَمِنْهُ الْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ، وَاصْطِفَاءُ مَا يَخْتَارُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ جَارِيَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمُخْتَارِ: الصَّفِيُّ وَالصَّفِيَّةُ، وَالْجَمْعُ: الصَّفَايَا. وَمِنْهُ، خُمْسُ خُمْسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَدُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ لَا يُورَثُ مَالُهُ. ثُمَّ حَكَى الْإِمَامُ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَرَكَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ كَمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَالثَّانِي: أَنَّ سَبِيلَ مَا خَلَّفَهُ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي (الْجُرْجَانِيَّاتِ) . ثُمَّ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى وَرَثَتِهِ؟ وَأَنَّهُ إِذَا صَارَ وَقْفًا، هَلْ هُوَ لِلْوَاقِفِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ وَجْهَانِ.
قُلْتُ: كُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَرَثَةُ. وَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ) ؟ فَهَذَا نَصٌّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَهَذِهِ الْخَصْلَةُ، عَدَّهَا الْغَزَالِيُّ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَعَدَّهَا الْأَكْثَرُونَ مِنَ الضَّرْبِ الرَّابِعِ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَفِي غَيْرِهِ خِلَافٌ. وَأَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَأَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ،
وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَوَاتَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ مَالِكِهِمَا الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمَا، وَعَلَى صَاحِبِهِمَا الْبَذْلُ، وَيَفْدِي بِمُهْجَتِهِ مُهْجَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) .
[الْأَحْزَابِ: 6]
قُلْتُ: وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ لَوْ قَصَدَهُ ظَالِمٌ، وَجَبَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ دُونَهُ صلى الله عليه وسلم. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَكَانَ لَا يُنْتَقَضُ وَضُوؤُهُ صلى الله عليه وسلم بِالنَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ فِيهِ وَجْهًا غَرِيبًا ضَعِيفًا، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِي انْتِقَاضِ طُهْرِهِ بِاللَّمْسِ.
قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْجَزْمُ بِانْتِقَاضِهِ بِاللَّمْسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَحَكَى أَيْضًا صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : أَنَّهُ كَانَ يَحِلُّ لَهُ صلى الله عليه وسلم دُخُولُ الْمَسْجِدِ جُنُبًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ الْقَفَّالُ لَهُ، بَلْ قَالَ: لَا أَظُنُّهُ صَحِيحًا.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ)، قَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا عَلِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ، مَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبَا غَيْرِي وَغَيْرُكُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَهُ ضِرَارٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) هُوَ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَى أَيِّ أَصْلٍ أَسْنَدَهُ. قَالَ: فَالْوَجْهُ: الْقَطْعُ بِتَخْطِئَتِهِ، وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَكِنْ قَدْ يَقْدَحُ قَادِحٌ فِي الْحَدِيثِ بِسَبَبِ عَطِيَّةَ، فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ قَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ بِمَا اقْتَضَى حُسْنَهُ
كَمَا نُقَرِّرُ لِأَهْلِ هَذَا الْفَنِّ، فَظَهَرَ تَرْجِيحُ قَوْلِ صَاحِبِ (التَّلْخِيصِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ، لَمْ يَفْعَلْهَا صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّكَاحِ، فَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي تِسْعٍ، وَقَطَعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا، وَيَنْحَصِرُ طَلَاقُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّلَاثِ، وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَإِذَا انْعَقَدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ بِالْعَقْدِ وَلَا بِالدُّخُولِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى الْهِبَةِ، حَتَّى لَا يَجِبَ الْمَهْرُ ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً، وَفِي (الْمُجَرَّدِ) لِلْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ وَجْهٌ غَرِيبٌ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ. وَمِنْهُ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ رَغِبَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً، لَزِمَهَا الْإِجَابَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا لِيَنْكِحَهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَمِنْهُ انْعِقَادُ نِكَاحِهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، وَفِي حَالِ
الْإِحْرَامِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْجَمِيعِ. وَفِي وُجُوبِ الْقَسْمِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، وَجْهَانِ. قَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا. وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ: الْوُجُوبُ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَخَوَاتِهَا، تَتَخَرَّجُ عَلَى أَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَصْحَابُ، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، هَلْ هُوَ كَالتَّسَرِّي فِي حَقِّنَا؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ يَنْحَصِرْ عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ وَالطَّلَاقِ، وَانْعَقَدَ بِالْهِبَةِ وَمَعْنَاهَا، وَبِلَا وَلِيٍّ وَشُهُودٍ، وَفِي الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَجِبِ الْقَسْمُ، وَإِلَّا انْعَكَسَ الْحُكْمُ.
وَكَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِمَّنْ شَاءَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَلَا إِذَنِ وَلِيِّهَا، وَتَزَوُّجُهَا لِنَفْسِهِ، وَتَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَ [لَا] إِذْنِ وَلِيِّهَا. قَالَ الْحَنَّاطِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَحِلُّ بِإِذْنِهَا، وَكَانَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
قُلْتُ: هَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَهُوَ غَلَطٌ لَمْ يَذْكُرْهُ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَغَلَّطُوا مَنْ ذَكَرَهُ. بَلِ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَهَلْ كَانَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْمَهْرِ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ الْوُجُوبُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَحِلُّ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِتَزْوِيجِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ زَيْدٍ:(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)
[الْأَحْزَابِ: 37] وَقِيلَ: بَلْ نَكَحَهَا بِنَفْسِهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَحْلَلْنَا لَكَ نِكَاحَهَا. وَهَلْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْخِطَابِ؟ وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ. وَأَعْتَقَ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْتَقَهَا وَشَرَطَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَلَزِمَهَا
الْوَفَاءُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: جَعَلَ نَفْسَ الْعِتْقِ صَدَاقًا، وَجَازَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
قُلْتُ: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْتَقَهَا بِلَا عِوَضٍ، وَتَزَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَصَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْإِكْرَامِ، فَمِنْهُ أَنَّ زَوْجَاتِهِ اللَّاتِي تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ رضي الله عنهن مُحَرَّمَاتٌ عَلَى غَيْرِهِ أَبَدًا، وَفِيمَنْ فَارَقَهَا فِي الْحَيَاةِ أَوْجُهٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَحْرُمُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)
[الْأَحْزَابِ: 60] . وَالثَّانِي، يَحِلُّ. وَالثَّالِثُ: يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِهَا فَقَطْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ الصَّحِيحُ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَرْجَحُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَإِنْ حَرَّمْنَا، فَفِي أَمَةٍ يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ وَطْئِهَا وَجْهَانِ.
وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ الْمُخَيَّرَاتِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ، فَفِي حِلِّهَا لِغَيْرِهِ طَرِيقَانِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: فِيهَا الْأَوْجُهُ، وَقَطَعَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ بِالْحِلِّ، لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ. وَمِنْهُ، أَنَّ أَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، سَوَاءٌ مَنْ مَاتَتْ تَحْتَهُ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ تَحْتَهُ، وَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ وَوُجُوبِ احْتِرَامِهِنَّ وَطَاعَتِهِنَّ، لَا فِي النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ، وَلَا يُقَالُ: بَنَاتُهُنَّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا آبَاؤُهُنَّ وَأُمَّهَاتُهُنَّ أَجْدَادُ وَجَدَّاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا إِخْوَتُهُنَّ وَأَخَوَاتُهُنَّ أَخْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَاتُهُمْ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ وَجْهًا أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الْأُخُوَّةِ عَلَى بَنَاتِهِنَّ، وَاسْمُ الْخُئُولَةِ عَلَى إِخْوَتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ، لِثُبُوتِ حُرْمَةِ الْأُمُومَةِ لَهُنَّ، وَهَذَا ظَاهِرُ لَفْظِ (الْمُخْتَصَرِ) .
قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: كُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ خِلَافًا فِي كَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَدْخَلَهُنَّ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)
[الْأَحْزَابِ: 40] قَالَ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: فِي الْحُرْمَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَدَ صُلْبِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَمِنْهُ، تَفْضِيلُ زَوْجَاتِهِ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ، وَجُعِلَ ثَوَابُهُنَّ وَعِقَابُهُنَّ مُضَاعَفًا، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَسْأَلَهُنَّ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُنَّ مُشَافَهَةً.
قُلْتُ: وَأَفْضَلُ زَوْجَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، خَدِيجَةُ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهما قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَاخْتَلَفُوا أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَمِنْهُ، فِي غَيْرِ النِّكَاحِ، أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَشَرِيعَتُهُ مُؤَبَّدَةٌ وَنَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَكِتَابُهُ مُعْجِزٌ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَأُقِيمَ بَعْدَهُ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ، وَمُعْجِزَاتُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ
انْقَرَضَتْ، وَنُصِرَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لَهُ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرَابُهَا طَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ نَاقِصَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ شَفَاعَتَهُ صلى الله عليه وسلم الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا لَيْسَتِ الشَّفَاعَةَ فِي مُطْلَقِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ شَفَاعَاتٍ خَمْسًا.
أُولَاهُنَّ: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ حِينَ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. وَالثَّانِيَةُ: فِي جَمَاعَةٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَالثَّالِثَةُ: فِي نَاسٍ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ فَلَا يَدْخُلُونَهَا. وَالرَّابِعَةُ: فِي نَاسٍ دَخَلُوا النَّارَ، فَيَخْرُجُونَ. وَالْخَامِسَةُ: فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ نَاسٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ (كُلَّهُ) فِي (كِتَابِ الْإِيمَانِ) مِنْ أَوَّلِ شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله، وَالشَّفَاعَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ صلى الله عليه وسلم، هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّالِثَةَ وَالْخَامِسَةَ أَيْضًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَبُعِثَ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَتْبَاعًا، وَأُمَّتُهُ مَعْصُومَةٌ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَصُفُوفُهُمْ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَانَ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَيَرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ كَمَا يَرَى مِنْ قُدَّامِهِ، وَتُطَوُّعُهُ بِالصَّلَاةِ قَاعِدًا كَتَطَوُّعِهِ قَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ ثَوَابُ الْقَاعِدِ النِّصْفُ.
قُلْتُ: هَذَا قَدْ قَالَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) ، وَتَابَعَهُ الْبَغَوِيُّ، وَأَنْكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ هَذَا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ:«أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ: حَدَّثْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قُلْتَ: صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ» وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا: قَالَ: «أَجَلْ وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَيُخَاطِبُهُ صلى الله عليه وسلم الْمُصَلِّي بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَا يُخَاطِبُ سَائِرَ النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ رَفْعُ صَوْتِهِ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ، وَلَا أَنْ يُنَادِيَهُ بِاسْمِهِ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، بَلْ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي إِذَا دَعَاهُ، أَنْ يُجِيبَهُ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَكَانَ يُتَبَرَّكُ وَيُسْتَشْفَى بِبَوْلِهِ وَدَمِهِ، وَمَنْ زَنَا بِحَضْرَتِهِ أَوِ اسْتَهَانَ بِهِ، كُفِّرَ.
قُلْتُ: فِي الزِّنَا، نَظَرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ، وَأَوْلَادُ بَنَاتِ غَيْرِهِ، لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ وَغَيْرِهَا.
قُلْتُ: كَذَا قَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَأَنْكَرَهُ الْقَفَّالُ وَقَالَ: لَا اخْتِصَاصَ فِي انْتِسَابِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ «سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ أُمَّتَهُ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأُمَمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: يُنْتَفَعُ يَوْمَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِسَائِرِ الْأَنْسَابِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «تَسَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتَنِيَ بِأَبِي الْقَاسِمِ، سَوَاءً كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَمْ لَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْكُنْيَةِ، وَجَوَّزَ الْإِفْرَادَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصَحَّ، لِأَنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يَكْتَنُونَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَهُ الرَّافِعِيُّ وَاسْتَبْدَلَ بِهِ فِيهِمَا، ضَعِيفٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَلِغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِمَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَنْ جَوَّزَ مُطْلَقًا، جَعَلَ النَّهْيَ مُخْتَصًّا بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ سَبَبِ النَّهْيِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ تَكَنَّوْا بِهِ، وَكَانُوا يُنَادَوْنَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: لَمْ نَعْنِكَ، إِظْهَارًا لِلْإِيذَاءِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ
الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَقْرَبُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ وَكِتَابِ الْأَسْمَاءِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الضَّرْبِ، أَنَّ شَعْرَهُ صلى الله عليه وسلم طَاهِرٌ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ نَجَّسْنَا شَعْرَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ بَوْلَهُ وَدَمَهُ وَسَائِرَ فَضَلَاتِهِ طَاهِرَةٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَأَنَّ الْهَدِيَّةَ لَهُ حَلَالٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ رَعَايَاهُمْ. وَأُعْطِي جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَمِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم، مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) وَالْقَفَّالُ قَالَا: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا عِنْدَ تَلَقِّي الْوَحْيِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَلَا غَيْرُهَا. وَفَاتَهُ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَضَاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَفِي اخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْمُدَاوَمَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاخْتِصَاصُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُنُونُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاحْتِلَامِ، وَالْأَشْهَرُ امْتِنَاعُهُ. وَمِنْهَا، أَنَّهُ مَنْ رَآهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا. وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي، لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ، وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ.
وَمِنْهَا، أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» . فَالْكَذِبُ عَمْدًا عَلَيْهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَكْفُرُ فَاعِلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ كُفْرٌ. وَلْنَخْتِمِ الْبَابَ بِكَلَامَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: ذِكْرُ الِاخْتِلَافُ فِي مَسَائِلِ الْخَصَائِصِ خَبْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ نَاجِزٌ تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَقْيِسَةَ لَا مَجَالَ لَهَا، وَالْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ تُتْبَعُ فِيهَا النُّصُوصُ، وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ اخْتِيَارٍ فِيهِ، هُجُومٌ عَلَى الْغَيْبِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ.
وَالْكَلَامُ الثَّانِي: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: مَنَعَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ الْكَلَامَ فِي الْخَصَائِصِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ انْقَضَى، فَلَا مَعْنَى لِلْكَلَامِ فِيهِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، فَهَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ. بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ ثَابِتَةً فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَعَمِلَ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي، فَوَجَبَ بَيَانُهَا
لِتُعْرَفَ فَلَا يُعْمَلَ بِهَا، وَأَيُّ فَائِدَةٍ أَهَمُّ مِنْ هَذِهِ؟ وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَقَلِيلٌ لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ لِلتَّدَرُّبِ وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَتَحْقِيقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْبَابُ الثَّانِي فِي مُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ
وَفِيهِ فُصُولٌ.
[الْفَصْلُ] الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ: النَّاسُ ضَرْبَانِ، تَائِقٌ إِلَى النِّكَاحِ، وَغَيْرُهُ. فَالتَّائِقُ، إِنْ وَجَدَ أُهْبَةَ النِّكَاحِ، اسْتُحِبَّ لَهُ، سَوَاءً كَانَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ، أَمْ لَا. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ وَيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ لَمْ تَنْكَسِرْ بِهِ، لَمْ يَكْسِرْهَا بِالْكَافُورِ وَنَحْوِهِ، بَلْ يَتَزَوَّجُ.
وَأَمَّا غَيْرُ التَّائِقِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةً، أَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ عَجْزٌ، بِجَبٍّ أَوْ تَعْنِينٍ أَوْ كِبَرٍ، كُرِهَ لَهُ النِّكَاحُ لِمَا فِيهِ مِنِ الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّةٌ، لَمْ يُكْرَهْ لَهُ النِّكَاحُ، لَكِنَّ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا بِالْعِبَادَةِ، فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ، وَأَصَحُّهُمَا: النِّكَاحُ أَفْضَلُ كَيْلَا تُفْضِيَ بِهِ الْبَطَالَةُ وَالْفَرَاغُ إِلَى الْفَوَاحِشِ. وَالثَّانِي: تَرْكُهُ أَفْضَلُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ بِالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ: أَنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ. وَفِي شَرْحِ (مُخْتَصَرِ) الْجُوَيْنِيِّ وَجْهٌ: أَنَّهُ إِنْ خَافَ الزِّنَا، وَجَبَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ، إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنْهُ أَهْلُ قُطْرٍ، أُجْبِرُوا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: الْوَجْهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ شَرْحِ الْجُوَيْنِيِّ، لَا يُحَتِّمُ النِّكَاحَ، بَلْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَرِّي، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا أَرَادَ النِّكَاحَ، فَالْبِكْرُ أَوْلَى مِنَ الثَّيِّبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وَالْوَلُودُ أَوْلَى، وَالنَّسِيبَةُ أَوْلَى، وَالَّتِي لَيْسَتْ بِقَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْلَى، وَذَاتُ الدِّينِ أَوْلَى.
قُلْتُ: وَبَعْدَ الدِّينِ، ذَاتُ الْجَمَالِ وَالْعَقْلِ أَوْلَى، وَقَرَابَتُهُ غَيْرُ الْقَرِيبَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مَنْ مَعَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، قَالَهُ الْمُتَوَلِّي. وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ لِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها وَمَعَهَا وَلَدُ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنهم. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (فِي ذَلِكَ) . وَالْمُسْتَحَبُّ، أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
إِذَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا، اسْتُحِبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا لِئَلَّا يَنْدَمَ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُسْتَحَبُّ
هَذَا النَّظَرُ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِلْأَحَادِيثِ. وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ هَذَا النَّظَرِ لِيَتَبَيَّنَ هَيْئَتَهَا، وَسَوَاءٌ النَّظَرُ بِإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهَا. فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ النَّظَرُ، بَعَثَ امْرَأَةً تَتَأَمَّلُهَا وَتَصِفُهَا لَهُ، وَالْمَرْأَةُ أَيْضًا تَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا أَرَادَتْ تَزَوُّجَهُ، فَإِنَّهُ يُعْجِبُهَا مِنْهُ مَا يُعْجِبُهُ مِنْهَا، ثُمَّ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ فِي الْمِفْصَلِ الَّذِي بَيْنَ الْكَفِّ وَالْمِعْصَمِ. وَفِي شَرْحِ (مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ) وَجْهٌ: أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا نَظَرَ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيُبَاحُ هَذَا النَّظَرُ وَإِنْ خَافَ الْفِتْنَةَ لِغَرَضِ التَّزَوُّجِ، وَوَقْتُ هَذَا النَّظَرِ، بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِهَا، وَقَبْلَ الْخِطْبَةِ، لِئَلَّا يَتْرُكَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ فَيُؤْذِيَهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يَنْظُرُ حِينَ تَأْذَنُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ. وَقِيلَ: عِنْدَ رُكُونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ حِينَ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ.
قُلْتُ: وَإِذَا نَظَرَ فَلَمْ تُعْجِبْهُ، فَلْيَسْكُتْ، وَلَا يَقُلْ: لَا أُرِيدُهَا، لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَحْكَامِ النَّظَرِ.
جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهِ هُنَا، وَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَمَسَّ.
وَ [الْحَالُ] الْأَوَّلُ: أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ، نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَعَكْسُهُ، وَالرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ.
[الضَّرْبُ] الْأَوَّلُ: نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَيَحْرُمُ نَظَرُهُ إِلَى عَوْرَتِهَا مُطْلَقًا، وَإِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا إِنْ خَافَ فِتْنَةً. وَإِنْ لَمْ يَخَفْ، فَوَجْهَانِ، قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لَا سِيَّمَا الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَحْرُمُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)
[الْأَحْزَابِ: 31] وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، لَكِنْ يُكْرَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ، قَالَهُ الِاصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَالْإِمَامُ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَالرُّويَانِيُّ، وَوَجَّهَهُ الْإِمَامُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ سَافِرَاتٍ، وَبِأَنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَهُوَ مُحَرِّكٌ لِلشَّهْوَةِ، فَاللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرْعِ، سَدُّ الْبَابِ فِيهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ، كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكَفِّ، الْيَدُ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمِعْصَمِ. وَفِي وَجْهٍ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِالرَّاحَةِ. وَأَمَّا أَخْمَصَا الْقَدَمَيْنِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَصَوْتُهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، لَكِنْ يَحْرُمُ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَإِذَا قَرَعَ بَابَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُجِيبَ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ، بَلْ تُغَلِّظُ صَوْتَهَا.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَغْلِيظِ صَوْتِهَا، كَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ: طَرِيقُهَا أَنْ تَأْخُذَ ظَهْرَ كَفِّهَا بِفِيهَا وَتُجِيبَ كَذَلِكَ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ بَالِغًا فَحْلًا، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهَا حُرَّةً كَبِيرَةً أَجْنَبِيَّةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي سِتِّ صُوَرٍ.
إِحْدَاهَا: الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، لَا حِجَابَ مِنْهُ. وَفِي الْمُرَاهِقِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَهُ النَّظَرُ، كَمَا لَهُ الدُّخُولُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ إِلَّا فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى هَذَا، نَظَرُهُ كَنَظَرِ الْمَحَارِمِ الْبَالِغِينَ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ كَنَظَرِ الْبَالِغِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، لِظُهُورِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ. وَنَزَّلَ الْإِمَامُ أَمْرَ الصَّبِيِّ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَبْلُغَ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَرَى. وَالثَّانِيَةُ: يَبْلُغُهُ وَيَكُونُ فِيهِ ثَوَرَانُ شَهْوَةٍ وَتَشَوُّفٌ. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ، وَيَجُوزُ التَّكَشُّفُ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالثَّانِي: كَالْمَحْرَمِ. وَالثَّالِثُ: كَالْبَالِغِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ كَالْبَالِغِ، فَمَعْنَاهُ يَلْزَمُ الْمَنْظُورَ إِلَيْهَا الِاحْتِجَابُ مِنْهُ، كَمَا يَلْزَمُهَا الِاحْتِجَابُ مِنَ الْمَجْنُونِ قَطْعًا.
قُلْتُ: وَإِذَا جَعَلْنَا الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ، لَزِمَ الْوَلِيَّ أَنْ يَمْنَعَهُ النَّظَرَ، كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يَمْنَعَهُ الزِّنَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الثَّانِيَةُ: فِي الْمَمْسُوحِ وَجْهَانِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: نَظَرُهُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، كَنَظَرِ الْفَحْلِ إِلَى الْمَحَارِمِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ)
[الْأَحْزَابِ: 31] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالْفَحْلِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا.
قُلْتُ: وَالْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أَنَّهُ الْمُغَفَّلُ فِي عَقْلِهِ الَّذِي لَا يَكْتَرِثُ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِيهِنَّ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ الَّذِي بَقِيَ أُنْثَيَاهُ، وَالْخَصِيُّ الَّذِي بَقِيَ ذَكَرُهُ، وَالْعِنِّينُ، وَالْمُخَنَّثُ وَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، وَالشَّيْخُ الْهِمُّ، فَكَالْفَحْلِ، كَذَا أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: لَا يَحِلُّ لِلْخَصِيِّ النَّظَرُ، إِلَّا أَنْ يَكْبُرَ وَيَهْرَمَ وَتَذْهَبَ شَهْوَتُهُ، وَكَذَا الْمُخَنَّثُ. وَأَطْلَقَ أَبُو مُخَلَّدٍ الْبَصْرِيُّ الْمُتَأَخِّرُ فِي الْخَصِيِّ وَالْمُخَنَّثِ وَجْهَيْنِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمَذْكُورُ عَنِ الشَّامِلِ قَالَهُ شَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الشَّيْخَ الَّذِي ذَهَبَتْ شَهْوَتُهُ، يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الثَّالِثَةُ: مَمْلُوكُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الْأَصَحِّ (عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ) .
قُلْتُ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: فَإِنْ كَاتَبَتْهُ، فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهَا أَمَةً، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَا يَحْرُمُ مَا سِوَاهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَالثَّانِي: يَحْرُمُ مَا لَا يَبْدُو حَالَ الْمِهْنَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ، وَهَذَا غَرِيبٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْغَزَالِيِّ.
قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ كَثِيرِينَ، وَهُوَ أَرْجَحُ دَلِيلًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْخَامِسَةُ: فِي النَّظَرِ إِلَى الصَّبِيَّةِ، وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ. وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عَوْرَتِهَا وَغَيْرِهَا، لَكِنْ لَا يَنْظُرُ إِلَى الْفَرْجِ.
قُلْتُ: جَزَمَ الرَّافِعِيُّ، بِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ الصَّغِيرَةِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ بِجَوَازِ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى، وَالصَّغِيرِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الصَّغِيرِ إِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ. وَذَكَرَ الْمُتَوَلِّي فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لِتَسَامُحِ النَّاسِ بِذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ تَبْقَى إِلَى بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ، وَمَصِيرُهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ عَنِ النَّاسِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا الْعَجُوزُ، فَأَلْحَقَهَا الْغَزَالِيُّ بِالشَّابَّةِ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ لَا تَنْضَبِطُ، وَهِيَ مَحَلُّ الْوَطْءِ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: إِذَا بَلَغَتْ مَبْلَغًا يُؤْمَنُ الِافْتِتَانُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، جَازَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الْآيَةَ [النُّورِ: 6] .
السَّادِسَةُ: الْمَحْرَمُ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَفِي وَجْهٍ: أَنَّهُ يُبَاحُ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ. وَهَلِ الثَّدْيُ زَمَنَ الْإِرْضَاعِ مِمَّا يَبْدُو؟ وَجْهَانِ. وَسَوَاءٌ الْمُحَرَّمُ بِالنَّسَبِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ، وَقِيلَ: لَا يَنْظُرُ بِالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ إِلَّا إِلَى الْبَادِي فِي الْمِهْنَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
قُلْتُ: وَيَجُوزُ لِلْمَحْرَمِ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الضَّرْبُ الثَّانِي: نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لَكِنْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ وَغَيْرِهِ بِالشَّهْوَةِ، وَكَذَا النَّظَرُ إِلَى الْمَحَارِمِ وَسَائِرِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الضَّرْبِ السَّابِقِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ قَطْعًا. وَلَا يَحْرُمُ
النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً، وَإِنْ خَافَهَا، حَرُمَ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ.
قُلْتُ: أَطْلَقَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَنَقَلَهُ الدَّارَكِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ. أَحَدُهُمَا: حَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهَا كَالْمَحْرَمِ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. الثَّانِي: فِي نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْغَزَالِيِّ: كَالْمُسْلِمَةِ. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: الْمَنْعُ. فَعَلَى هَذَا، لَا تَدْخُلُ الذِّمِّيَّةُ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ، وَمَا الَّذِي تَرَاهُ مِنَ الْمُسْلِمَةِ؟ قَالَ الْإِمَامُ: هِيَ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ. وَقِيلَ: تَرَى مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ.
قُلْتُ: مَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ هُوَ الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ، وَسَائِرُ الْكَافِرَاتِ كَالذِّمِّيَّةِ فِي هَذَا، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. وَالثَّانِي: لَهَا نَظَرُ مَا يَبْدُو مِنْهُ فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: لَا تَرَى مِنْهُ إِلَّا مَا يَرَى مِنْهَا.
قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ، هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ (الْمُهَذَّبِ) وَغَيْرُهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا، أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا نَظَرُهَا إِلَى مَحْرَمِهَا، فَلَا يَحْرُمُ إِلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُحَقِّقُونَ. وَقِيلَ: هُوَ كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا النَّظَرُ إِلَى الرَّجُلِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ قَطْعًا. وَحَدِيثُ أَفَعَمْيَاوَانِ، يُحْمَلُ عَلَى هَذَا أَوْ عَلَى الِاحْتِيَاطِ.
فَرْعٌ
مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُتَّصِلًا كَالذَّكَرِ وَسَاعِدِ الْحُرَّةِ وَشَعْرِ رَأْسِهَا وَشَعْرِ عَانَةِ الرَّجُلِ وَمَا أَشْبَهَهَا، يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَا، وَقَالَ الْإِمَامُ احْتِمَالًا لِنَفْسِهِ: إِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْمُبَانُ مِنَ الْمَرْأَةِ بِصُورَتِهِ وَشَكْلِهِ عَمَّا لِلرَّجُلِ: كَالْقُلَامَةِ، وَالشَّعْرِ، وَالْجِلْدَةِ، لَمْ يَحْرُمْ. وَإِنْ تَمَيَّزَ، حَرُمَ.
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، ضَعِيفٌ، إِذْ لَا أَثَرَ لِلتَّمْيِيزِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ جُزْءٌ يَحْرُمُ نَظَرُهُ. وَعَلَى الْأَصَحِّ: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى قُلَامَةِ رِجْلِهَا دُونَ قُلَامَةِ يَدِهَا، وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَلَقَ عَانَتَهُ، أَنْ يُوَارِيَ الشَّعْرَ، لِئَلَّا يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أُبِينَ شَعْرُ الْأَمَةِ أَوْ ظُفُرُهَا، ثُمَّ عَتَقَتْ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُبَانَ كَالْمُتَّصِلِ، لِأَنَّهُ حِينَ انْفَصَلَ لَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، وَالْعِتْقُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمُنْفَصِلِ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ زَوْجَتِهِ غَيْرَ الْفَرْجِ. وَفِي الْفَرْجِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لَكِنْ يُكْرَهُ. وَبَاطِنُ الْفَرْجِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ نَظَرُهُ إِلَى فَرْجِ نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ، وَنَظَرُ السَّيِّدِ إِلَى أَمَتِهِ الَّتِي يَجُوزُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا كَنَظَرِ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ، سَوَاءً كَانَتْ قِنَّةً، أَوْ مُدَبَّرَةً، أَوْ مُسْتَوْلَدَةً، أَوْ عَرَضَ مَانِعٌ قَرِيبُ الزَّوَالِ كَالْحَيْضِ وَالرَّهْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ وَثَنِيَّةً، أَوْ مُزَوَّجَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، حَرُمَ نَظَرُهُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَا يَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَوْجَتُهُ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ أَجْنَبِيٍّ بِشُبْهَةٍ، كَالْمُكَاتَبَةِ. وَنَظَرُ الزَّوْجَةِ إِلَى زَوْجِهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَجُوزُ نَظَرُهَا إِلَى فَرْجِهِ قَطْعًا.
قُلْتُ: وَنَظَرُهَا إِلَى سَيِّدِهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
حَيْثُ حَرُمَ النَّظَرُ، حَرُمَ الْمَسُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ لَذَّةً، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ دَلْكُ فَخِذِ رَجُلٍ بِلَا حَائِلٍ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَوْقَ إِزَارٍ جَازَ إِذَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً.
وَقَدْ يَحْرُمُ الْمَسُّ دُونَ النَّظَرِ، فَيَحْرُمُ مَسُّ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ جَازَ النَّظَرُ، وَمَسُّ كُلِّ مَا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْإِمَاءِ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ مَسُّ بَطْنِ أُمِّهِ وَلَا ظَهْرِهَا، وَلَا أَنْ يَغْمِزَ سَاقَهَا وَلَا رِجْلَهَا، وَلَا أَنْ يُقَبِّلَ وَجْهَهَا، حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ. قَالَ: وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ بِغَمْزِ رِجْلِهِ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْعَجَائِزُ اللَّاتِي يُكَحِّلْنَ الرِّجَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مُرْتَكِبَاتٌ لِلْحَرَامِ.
فَرْعٌ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَلَا الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي جَانِبٍ مِنَ الْفِرَاشِ، وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوِ الصَّبِيَّةُ عَشْرَ سِنِينَ، وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَأُخْتِهِ وَأَخِيهِ فِي الْمَضْجَعِ.
فَرْعٌ
يُسْتَحَبُّ مُصَافَحَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّقْبِيلُ، إِلَّا تَقْبِيلَ الْوَلَدِ شَفَقَةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ وَمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ تَبَاعُدِ لِقَائِهِ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ لِزُهْدِهِ وَصَلَاحِهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ شَرَفِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ. وَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ وَدُنْيَاهُ وَشَوْكَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَكْرُوهٌ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: لَا يَجُوزُ. وَتَقْبِيلُ الصِّغَارِ شَفَقَةً سُنَّةٌ، سَوَاءٌ وَلَدُهُ وَوَلَدُ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ. وَالسُّنَّةُ مُعَانَقَةُ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَتَقْبِيلُهُ. وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، وَيُكْرَهُ حَنْيُ الظَّهْرِ فِي كُلِّ حَالٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا بَأْسَ بِالْقِيَامِ لِأَهْلِ الْفَضْلِ،
بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلِاحْتِرَامِ، لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ بِكُلِّ مَا ذَكَرْتُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا مَبْسُوطَةً فِي (كِتَابِ السَّلَامِ) مِنْ (كِتَابِ الْأَذْكَارِ) ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي مُتَدَيِّنٌ عَنْ مِثْلِهِ، وَفِي (كِتَابِ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ) . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَخْذُ بِالْأَشَدِّ، فَيُجْعَلُ مَعَ النِّسَاءِ رَجُلًا، وَمَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةً. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ، قَالَهُ الْقَفَّالُ، اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ.
قُلْتُ: قَطَعَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي بِالثَّانِي، وإِبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنِ الْقَاضِي. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْحَالُ الثَّانِي: إِذَا احْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ.
مِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ نِكَاحَهَا، فَلَهُ النَّظَرُ كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُرِيدَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَيْعِ.
وَمِنْهَا: إِذَا عَامَلَ امْرَأَةً بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ تَحَمَّلَ شَهَادَةً عَلَيْهَا، جَازَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا فَقَطْ لِيَعْرِفَهَا. وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا وَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، كُلِّفَتِ الْكَشْفَ عَنْ وَجْهِهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ. فَإِنِ امْتَنَعَتْ، أُمِرَتِ امْرَأَةٌ بِكَشْفِهِ.
وَمِنْهَا: يَجُوزُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِلْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَمُعَالَجَةِ الْعِلَّةِ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحُضُورِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِهَذَا أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ تُعَالِجُ، وَفِي جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ، أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ رَجُلٌ يُعَالِجُ، كَذَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاصِّ خِلَافُهُ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي. قَالَا أَيْضًا: وَلَا يَكُونُ ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
ثُمَّ أَصْلُ الْحَاجَةِ كَافٍ فِي النَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ يُعْتَبَرُ تَأَكُّدُ الْحَاجَةِ، وَضَبَطَهُ الْإِمَامُ فَقَالَ: مَا يُجَوِّزُ الِانْتِقَالَ مِنَ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ وِفَاقًا أَوْ خِلَافًا كَشِدَّةِ الضَّنَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا، يَجُوزُ النَّظَرُ بِسَبَبِهِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى السَّوْءَتَيْنِ، يُعْتَبَرُ مَزِيدُ تَأَكُّدٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ التَّكَشُّفُ بِسَبَبِهَا هَتْكًا لِلْمُرُوءَةِ وَيُعْذَرُ فِي الْعَادَةِ. وَمِنْهَا: يَجُوزُ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ لِتَحَمُّلِ شَهَادَةِ الزِّنَا، وَإِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَإِلَى ثَدْيِ الْمُرْضِعَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الِاصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ كُلُّ ذَلِكَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي الزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: عَكْسُهُ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْخِطْبَةِ - بِكَسْرِ الْخَاءِ -، قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَلَكِنْ لَا ذِكْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا الْجَوَازَ. ثُمَّ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ خَلِيَّةً عَنِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةَ، جَازَتْ خِطْبَتُهَا تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا، وَإِنْ كَانَ مُعْتَدَّةً، حَرُمَ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ، فَيَحْرُمُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَلَا يَحْرُمُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْحَمْلِ، لَمْ تُخْطَبْ، خَوْفًا مِنْ تَكَلُّفِ إِلْقَاءِ وَلَدِهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْبَائِنُ بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، يَحِلُّ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالَّتِي لَا تَحِلُّ لِمَنْ مِنْهُ الْعِدَّةُ بِلِعَانٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ، كَالْمُعْتَدَّةِ عَنِ الْوَفَاةِ. وَقِيلَ: كَالْفَسْخِ. ثُمَّ سَوَاءً كَانَتِ الْعِدَّةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْإِقْرَاءِ أَمْ بِالْأَشْهُرِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِالْإِقْرَاءِ، حَرُمَ قَطْعًا. وَالصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: أَنْ لَا فَرْقَ.
وَفِي الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، طَرِيقَانِ. الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ.
وَالثَّانِي: طَرْدُ الْخِلَافِ. وَالتَّصْرِيحُ، كَقَوْلِهِ: أُرِيدُ نِكَاحَكِ، أَوْ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ نَكَحْتُكِ. وَالتَّعْرِيضُ بِمَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟ أَنْتِ جَمِيلَةٌ، إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، لَا تَبْقَيْنَ أَيِّمًا، لَسْتِ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحُكْمُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا حُكْمُ الْخِطْبَةِ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فِيمَا إِذَا خَطَبَهَا غَيْرُ صَاحِبِ الْعِدَّةِ. فَأَمَّا صَاحِبُهَا الَّذِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا، فَلَهُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا.
فَرْعٌ
تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِجَابَةِ، إِلَّا إِذَا أَذِنَ الْغَيْرُ أَوْ تَرَكَ. وَصَرِيحُ الْإِجَابَةِ أَنْ تَقُولَ: أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا (فِي) أَنْ يُزَوِّجَهَا إِيَّاهُ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةُ الْإِذْنِ. فَلَوْ لَمْ تُصَرِّحْ بِالْإِجَابَةِ، لَكِنْ وُجِدَ مَا يُشْعِرُ بِهَا، كَقَوْلِهَا: لَا رَغْبَةَ عَنْكِ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ، تَحْرِيمُ الْخِطْبَةِ. وَالْجَدِيدُ، الْجَوَازُ. وَلَوْ رَدَّتْهُ، فَلِلْغَيْرِ خِطْبَتُهَا قَطْعًا. وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إِجَابَةٌ وَلَا رَدٌّ، فَقِيلَ: يَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ بِالْقَوْلَيْنِ. وَالْمُعْتَبَرُ، رَدُّ الْوَلِيِّ وَإِجَابَتُهُ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَإِلَّا فَرَدُّهَا وَإِجَابَتُهَا، وَفِي الْأَمَةِ رَدُّ السَّيِّدِ وَإِجَابَتُهُ، وَفِي الْمَجْنُونَةِ رَدُّ السُّلْطَانِ وَإِجَابَتُهُ. ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّ سُكُوتَ الْوَلِيِّ عَنِ الْجَوَابِ، فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ بِسُكُوتِهَا وَقَالَ: سُكُوتُ الْوَلِيِّ لَا يَمْنَعُ قَطْعًا. وَعَنِ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ، وَلَا يَمْنَعُ سُكُوتُ الثَّيِّبِ بِحَالٍ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْخِطْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ أَخُطِبَتْ أَمْ لَا، وَلَمْ يَدْرِ أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ.
فَرْعٌ
سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْخَاطِبُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ إِذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً. وَقِيلَ: يَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ الْمُسْلِمِ.
قُلْتُ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَوْ خَطَبَ خَمْسَ نِسْوَةٍ دَفْعَةً فَأَذِنَّ، لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ خِطْبَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يَتْرُكَهَا الْأَوَّلُ، أَوْ يَعْقِدَ عَلَى أَرْبَعٍ فَتَحِلَّ الْخَامِسَةُ. وَإِنْ خَطَبَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا، فَأَذِنَّ، حَلَّتِ الْخَامِسَةُ دُونَ غَيْرِهَا. هَذَا كَلَامُهُ، وَالْمُخْتَارُ تَحْرِيمُ الْجَمِيعِ، إِذْ قَدْ يَرْغَبُ فِي الْخَامِسَةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ التَّعْرِيضُ بِالْجِمَاعِ لِلْمَخْطُوبَةِ، وَلَا يُكْرَهُ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ لِزَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
يَجُوزُ الصِّدْقُ فِي ذِكْرِ مَسَاوِئِ الْخَاطِبِ لِيُحْذَرَ، وَكَذَا مَنْ أَرَادَ نَصِيحَةَ غَيْرِهِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ مُشَارَكَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
قُلْتُ: الْغَيْبَةُ تُبَاحُ بِسِتَّةِ أَسْبَابٍ قَدْ أَوْضَحْتُهَا بِدَلَائِلِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَطُرُقِ مَخَارِجِهَا فِي آخِرِ (كِتَابِ الْأَذْكَارِ) .
أَحَدُهَا: التَّظَلُّمُ، فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وَلَايَةٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَيَقُولُ: ظَلَمَنِي فُلَانٌ وَفَعَلَ بِي كَذَا.
الثَّانِي: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ، فَيَقُولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ: فُلَانٌ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِفْتَاءُ. بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: ظَلَمَنِي فُلَانٌ أَوْ أَبِي أَوْ أَخِي بِكَذَا، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ لَا؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاصِ (مِنْهُ) وَدَفْعِ ظُلْمِهِ عَنِّي؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: زَوْجَتِي تَفْعَلُ مَعِي كَذَا، وَزَوْجِي يَضْرِبُنِي وَيَقُولُ لِي كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ. وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَقُولَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ وَالِدٍ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ، لِحَدِيثِ هِنْدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَحِيحٌ. . . الْحَدِيثَ.
الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا: جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ وَاجِبٌ، صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ.
وَمِنْهَا: الْإِخْبَارُ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مُوَاصَلَتِهِ.
وَمِنْهَا: إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا، أَوْ عَبْدًا سَارِقًا، أَوْ زَانِيًا، أَوْ شَارِبًا، تَذْكُرُهُ لِلْمُشْتَرِي - إِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ - نَصِيحَةً، لَا بِقَصْدِ الْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ.
وَمِنْهَا: إِذَا رَأَيْتَ مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عَلِمًا، وَخِفْتَ عَلَيْهِ ضَرَرَهُ، فَعَلَيْكَ نَصِيحَتُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَايَةٌ لَا يَقُومُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ فِسْقِهِ، فَتَذْكُرُهُ لِمَنْ عَلَيْهِ وَلَايَةٌ لِيَسْتَبْدِلَ بِهِ، أَوْ يَعْرِفَ حَالَهُ فَلَا يَعْتَبِرَ بِهِ أَوْ يُلْزِمَهُ الِاسْتِقَامَةَ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ، كَالْخَمْرِ، وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ، وَجِبَايَةِ الْمُكُوسِ، وَتَوَلِّي الْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَبٍ آخَرَ.
السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ، فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ، كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَنَحْوِهَا، جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا، وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ، كَانَ أَوْلَى. هَذَا مُخْتَصَرُ مَا تُبَاحُ بِهِ الْغَيْبَةُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي الْخُطْبَةِ، بِضَمِّ الْخَاءِ. يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَخْطُبُ امْرَأَةً أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ خِطْبَتِهِ خُطْبَةً، فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَقُولُ: جِئْتُكُمْ رَاغِبًا فِي كَرِيمَتِكُمْ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتَ بِمَرْغُوبٍ عَنْكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَتُسْتَحَبُّ الْخُطْبَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْعَقْدِ، وَيَحْصُلُ الِاسْتِحْبَابُ سَوَاءٌ خَطَبَ الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ. وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، زَوَّجْتُكَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِلْفَصْلِ، وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: لِلنِّكَاحِ خُطْبَتَانِ مَسْنُونَتَانِ، إِحْدَاهُمَا تَتَقَدَّمُ الْعَقْدَ، وَالثَّانِيَةُ تَتَخَلَّلُهُ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، زَوَّجْتُكَ فُلَانَةً، ثُمَّ يَقُولُ الزَّوْجُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: قَبِلْتُ. ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ: مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ إِذَا لَمْ يَطُلِ الذِّكْرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ طَالَ، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ قَطْعًا. وَلَوْ تَخَلَّلَ كَلَامٌ يَسِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَقْدُ وَلَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، مِنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. وَهَذَا إِنْ ذَكَرَاهُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَذَاكَ. وَإِنْ قَيَّدَ الْوَلِيُّ الْإِيجَابَ بِهِ، وَقَبِلَ الزَّوْجُ مُطْلَقًا أَوْ ذَاكِرًا لَهُ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ كُلَّ زَوْجٍ مَأْخُوذٌ بِهِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ، فَهُوَ ذِكْرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَفَصَلَ الْإِمَامُ فَقَالَ: إِنْ أَجْرَيَاهُ شَرْطًا مُلْزِمًا، فَالْوَجْهُ الْبُطْلَانُ. وَإِنْ قَصَدَا الْوَعْظَ دُونَ الْإِلْزَامِ، لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ أَطْلَقَا، احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، وَقَرِينَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي الْوَعْظَ.
فَرْعٌ
يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَيُقَالُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ.
قُلْتُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الْعَقْدِ، أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِحْضَارُ جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ زِيَادَةً عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، وَأَنْ يَنْوِيَ بِالنِّكَاحِ الْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ، كَإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَصِيَانَةِ دِينِهِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ عَرْضُ مُوَلِّيَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ، لِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَرْكَانِ النِّكَاحِ
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ.
[الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الصِّيغَةُ إِيجَابًا وَقَبُولًا، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، أَوْ أَنَكَحْتُكَ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُ، أَوْ نَكَحْتُ، أَوْ قَبِلْتُ تَزْوِيجَهَا أَوْ نِكَاحَهَا. أَوْ يَقُولُ الزَّوْجُ أَوَّلًا: تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ نَكَحْتُهَا، فَيَقُولُ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ. وَفِي انْعِقَادِهِ بِمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ بِالْعَجَمِيَّةِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: الِانْعِقَادُ. وَالثَّالِثُ: إِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ انْعَقَدَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَإِذَا صَحَّحْنَاهُ، فَذَاكَ إِذَا فَهِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَلَامَ الْآخَرِ. فَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ، فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ عَنْ مَعْنَى لَفْظِهِ، فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ. وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ مِنْهُمَا.
فَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ، فَقَالَ الزَّوْجُ: نَكَحْتُ، أَوْ قَالَ: أَنَكَحْتُكَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ صَحَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ.
فَرْعٌ
إِذَا قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا، فَلْيَقُلْ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا أَوْ تَزْوِيجَهَا، أَوْ قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَبِلْتُ، لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَقِيلَ: قَطْعًا. وَقِيلَ: يَنْعَقِدُ قَطْعًا. وَإِنْ قَالَ: قَبِلْتُ النِّكَاحَ أَوْ قَبِلْتُهَا، فَخِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ. وَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي أَوْ أَنْكِحْنِي، فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ، أَوْ نَعَمْ، أَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا أَوْ أَنْكَحْتُكَهَا، أَقَبِلْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ غَيْرِ قَوْلِ الْوَلِيِّ: أَقَبِلْتَ، فَقِيلَ بِالْمَنْعِ قَطْعًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ، وَهُوَ أَقْيَسُ. وَفِي نَظَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنَ الْبَيْعِ، يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ كَذَا، فَقَالَ: قَبِلْتُ، يَنْعَقِدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ فِيهِ وَجْهًا.
فَرْعٌ
إِذَا كَتَبَ بِالنِّكَاحِ إِلَى غَائِبٍ أَوْ حَاضِرٍ، لَمْ يَصِحَّ. وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْغَائِبِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَاتِ.
وَلَوْ خَاطَبَ غَائِبًا بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، ثُمَّ كَتَبَ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَقَالَ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَشَرْطُهُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ، وَأَنْ يَقَعَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيِ الْإِيجَابِ.
قُلْتُ: لَا يَكْفِي الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
إِذَا اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي فَقِيهًا فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ، لَمْ يَكْفِ الْكِتَابُ، بَلْ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ اعْتِمَادُ الْخَطِّ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَرْعٌ
إِذَا قَالَ (لِلْوَلِيِّ) : زَوِّجْنِي، قَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَهُ: قَبِلْتُ، صَحَّ النِّكَاحُ قَطْعًا، وَإِلَّا، فَالْمَذْهَبُ وَالنَّصُّ صِحَّتُهُ أَيْضًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْبَيْعِ فِي مِثْلِهِ. وَالْخُلْعُ، وَالصُّلْحُ عَنِ الدَّمِ، وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، يَنْعَقِدُ بِالِاسْتِيجَابِ وَالْإِيجَابِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. فَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي أَوْ خَالِعْنِي عَلَى أَلْفٍ، فَأَجَابَهَا الزَّوْجُ، طَلَقَتْ وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَبُولٍ بَعْدَهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: أَعْتِقْنِي عَلَى كَذَا، فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، أَوْ قَالَ: مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ: صَالِحْنِي عَلَى كَذَا، فَقَالَ الْمُسْتَحِقُّ: صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ بِطَرْدِ الطَّرِيقَيْنِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْعُقُودِ كَالنِّكَاحِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَكَالْعِتْقِ، وَقِيلَ: كَالنِّكَاحِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ صِيغَتُهُ: زَوِّجْنِي أَوْ خَالِعْنِي وَأَعْتِقْنِي وَنَحْوَهَا. فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: قُلْ: زَوَّجْتُكَهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَيْسَ هُوَ بِاسْتِيجَابٍ، لِأَنَّهُ اسْتَدْعَى اللَّفْظَ دُونَ التَّزْوِيجِ، فَإِذَا تَلَفَّظَ اقْتَضَى الْقَبُولَ. وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ أَوَّلًا:
تَزَوَّجِ ابْنَتِي، فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: زَوِّجْنِي، فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمُ الْمَنْعَ فِي الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، هَكَذَا قَالُوهُ. وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِهِمُ الْمَنْعَ فِي الْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِهِ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: أَتُزَوِّجُنِي ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ، لَمْ يَنْعَقِدْ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْخَاطِبُ بَعْدَهُ: تَزَوَّجْتُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أَتَتَزَوَّجُ بِنْتِي، أَوْ تَزَوَّجْتَهَا؟ فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ، لَا يَنْعَقِدُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْوَلِيُّ بَعْدَهُ: زَوَّجْتُكَ، لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ. وَلَوْ قَالَ الْمُتَوَسِّطُ لِلْوَلِيِّ: زَوَّجْتَهُ ابْنَتَكَ؟ فَقَالَ: زَوَّجْتُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ: قَبِلْتَ نِكَاحَهَا؟ فَقَالَ: قَبِلْتُهُ، صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُتَرَابِطَيْنِ، وَمَنَعَهُ الْقَفَّالُ، لِعَدَمِ التَّخَاطُبِ.
فَرْعٌ
تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْبَيْعِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: أَنَّ أَصْحَابَنَا الْعِرَاقِيِّينَ اكْتَفَوْا بِوُقُوعِ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ، وَيَضُرُّ الطَّوِيلُ، وَهُوَ مَا أَشْعَرَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْقَبُولِ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَرِيقَتَيِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَمَا ادَّعَاهُ الْهَرَوِيُّ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ جُمْلَةً لَا يُقْبَلُ، وَالْمُشَاهَدَةُ تَدْفَعُهُ، وَالدَّلِيلُ يُبْطِلُهُ، فَلَا اغْتِرَارَ بِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
إِذَا وُجِدَ أَحَدُ شِقَّيِ الْعَقْدِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِصْرَارِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ الشِّقُّ الْآخَرُ، فَلَوْ رَجَعَ عَنْهُ، لَغَا الْعَقْدُ. وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ ثُمَّ جُنَّ