المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حق الإمام في مال المسلمين: - الإسلام وأوضاعنا السياسية

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَةٌ:

- ‌الخَلْقُ وَالتَّسْخِيرُ:

- ‌هَذَا الكَوْنُ خَلَقَهُ اللهُ:

- ‌هَذَا الكَوْنُ مُسَخَّرٌ لِلْبَشَرِ:

- ‌البَشَرُ مُسَخَّرٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:

- ‌الاِسْتِخْلَافُ فِي الأَرْضِ:

- ‌البَشَرُ مُسْتَخْلَفُونَ فِي الأَرْضِ:

- ‌اِسْتِخْلَافُ البَشَرِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ:

- ‌أَنْوَاعُ الاِسْتِخْلَافِ:

- ‌سُنَّةُ اللهِ فِي اِسْتِخْلَافِ الحُكْمِ:

- ‌أمثلة من المستخلفين السابقين:

- ‌مركز المستخلفين في الأرض:

- ‌واجبات المستخلفين في الأرض:

- ‌جزاء تعدي حدود الاستخلاف:

- ‌المَالُ مَالُ اللهِ:

- ‌مَاذَا يَمْلِكُ البَشَرُ فِي هَذَا الكَوْنِ

- ‌المَالُ للهِ وَلِلْبَشَرِ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ:

- ‌حُدُودُ حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ:

- ‌مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ المَالِ للهِ:

- ‌مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ:

- ‌حُقُوقُ الغَيْرِ فِي مَالِ اللهِ:

- ‌أنواع الإنفاق:

- ‌الإنفاق في سبيل الله:

- ‌الإنفاق على ذوي الحاجة:

- ‌إنفاق التطوع:

- ‌حد التطوع:

- ‌بحث محدود:

- ‌للهِ الحُكْمُ وَالأَمْرُ:

- ‌لِمَنْ الحُكْمُ

- ‌الحُكْمُ مِنْ طَبِيعَةِ الإِسْلَامِ:

- ‌الإِسْلَامُ عَقِيدَةٌ وَنِظَامٌ:

- ‌الإِسْلَامُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ:

- ‌الحُكُومَةُ الإِسْلَامِيَّةِ، وَظِيفَتُهَا وَمُمَيِّزَاتُهَا:

- ‌الحُكُومَةُ التِي تُقِيمُ أَمْرَ اللهِ:

- ‌مَنْطِقُ التَّجَارِبِ:

- ‌وَظِيفَةُ الحُكُومَةِ إِقَامَةُ أَمْرِ اللهِ:

- ‌مِيزَاتُ الحُكُومَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الصفة الأولى: حكومة قرآنية:

- ‌الصفة الثانية: حكومة شورى:

- ‌الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة:

- ‌نَوْعُ الحُكُومَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌نَشْأَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الإِسْلَامُ خُلُقُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌سُلْطَانٌ بِلَا أَلْقَابٍ:

- ‌السُّلْطَانُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا:

- ‌دَوْلَةٌ اسْتَكْمَلَتْ أَرْكَانَهَا:

- ‌مَدَى سُلْطَانِ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الخِلَافَةُ أَوْ الإِمَامَةُ العُظْمَى:

- ‌مَعْنَى الخِلَافَةِ:

- ‌إِقَامَةُ الخِلَافَةِ فَرِيضَةٌ:

- ‌مَصْدَرُ فَرْضِيَّةُ الخِلَافَةِ:

- ‌الخِلَافَةُ وَاجِبَةٌ عَقْلاً:

- ‌الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي الإِمَامِ:

- ‌1 - الإِسْلَامُ:

- ‌2 - الذُّكُورَةُ:

- ‌3 - التَّكْلِيفُ:

- ‌4 - العِلْمُ:

- ‌5 - العَدْلُ:

- ‌6 - الكِفَايَةُ:

- ‌7 - السلامة:

- ‌8 - القرشية:

- ‌اِنْعِقَادُ الإِمَامَةِ أَوْ الخِلَافَةِ:

- ‌الطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ لِلإِمَامَةِ:

- ‌بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ:

- ‌بَيْعَةُ عُمَرَ:

- ‌بَيْعَةُ عُثْمَانَ:

- ‌بَيْعَةُ عَلِيٍّ:

- ‌نَتِيجَةٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا:

- ‌تَجَوُّزٌ لَا مَحَلَّ لَهُ:

- ‌وِلَايَةُ العَهْدِ:

- ‌نَتَائِجُ الاِسْتِخْلَافِ وَوِلَايَةِ العَهْدِ:

- ‌إِمَامَةُ المُتَغَلِّبِ:

- ‌مَرْكَزُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ فِي الأُمَّةِ:

- ‌الخَلِيفَةُ فَرْدٌ يَنُوبُ عَنْ الأُمَّةِ:

- ‌الإِسْلَامُ لَا يُقَدِّسُ الخُلَفَاءَ:

- ‌مُدَّةُ الخِلَافَةِ:

- ‌عَزْلُ الخَلِيفَةِ:

- ‌الجَرْحُ فِي العَدَالَةِ:

- ‌نَقْصُ البَدَنِ:

- ‌الشُّورَى:

- ‌الشُّورَى مِنَ الإِيمَانِ:

- ‌نِطَاقُ الشُّورَى:

- ‌القَوَاعِدُ التِي تَقُومُ عَلَيْهَا الشُّورَى:

- ‌فِي الشُّورَى صَلَاحُ العَالَمِ:

- ‌أَهْلُ الشُّورَى:

- ‌الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي أَهْلِ الشُّورَى:

- ‌سُلْطَانُ الأُمَّةِ:

- ‌اخْتِيَارُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ:

- ‌كَيْفِيَّةُ الاِخْتِيَارِ:

- ‌وَحْدَةُ الإِمَامَةِ:

- ‌المُبَايَعَةُ:

- ‌طَلَبُ الوِلَايَةِ:

- ‌السُّلُطَاتُ فِي الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌أَوَّلاً: السُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ:

- ‌ثَانِيًا: السُّلْطَةُ التَّشْرِيعِيَّةُ:

- ‌ثَالِثًا: السُّلْطَةُ القَضَائِيَّةُ:

- ‌القضاة وشرعية القوانين:

- ‌رَابِعًا: السُّلْطَةُ المَالِيَّةُ:

- ‌خَامِسًا: سُلْطَةُ المُرَاقَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ:

- ‌‌‌وَاجِبَاتُ الإِمَامِوَحُقُوقِهِ:

- ‌وَاجِبَاتُ الإِمَامِ

- ‌مَسْؤُولِيَةُ الإِمَامِ فِي أَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ:

- ‌حُقُوقُ الإِمَامِ:

- ‌حَقُّ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ:

- ‌حَقُّ الإِمَامِ فِي مَالِ المُسْلِمِينَ:

- ‌حُقُوقُ الأَفْرَادِ فِي الإِسْلَامِ:

- ‌ المساواة

- ‌الحُرِّيَّةُ:

- ‌ حرية التفكير

- ‌حُرِّيَّةُ الاعْتِقَادِ:

- ‌حُرِّيَّةُ القَوْلِ:

- ‌حُرِّيَّةُ التَّعْلِيمِ:

- ‌حُرِّيَّةُ التَّمَلُّكِ:

- ‌وَحْدَةُ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌إِقْلِيمُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌دَارُ الإِسْلَامِ:

- ‌دَارُ الحَرْبِ:

- ‌الجِنْسِيَّةُ فِي الإِسْلَامِ:

- ‌أَيْنَ أَوْضَاعُنَا الحَالِيَّةُ مِنَ الإِسْلَامِ

- ‌مَنْ المَسْؤُولُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ

- ‌مَسْؤُولِِيَّةُ الجَمَاهِيرِ:

- ‌مَسْؤُولِيَّةُ الحُكُومَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌مَسْؤُولِيَةُ رُؤَسَاءِ الدُّوَلِ:

- ‌مَسْؤُولِيَّةُ عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ:

الفصل: ‌حق الإمام في مال المسلمين:

«إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» وقال: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» وقال: «إِنَّهُ سَيَلِي أَمْرَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ السُّنَّةَ، وَيُحْدِثُونَ بِدْعَةً، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا» ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِي إِذَا أَدْرَكْتُهُمْ؟ قَالَ:«لَيْسَ يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ طَاعَةٌ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ» . قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وهكذا قطع القرآن والسنة في أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلا في طاعة الله، وأن ليس لأحد أن يطيع فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله.

‌حَقُّ الإِمَامِ فِي مَالِ المُسْلِمِينَ:

عرفنا أن الإمام نائب عن الأمة، والنيابة لا تقتضي بطبيعتها أن يأخذ النائب أجرًا على عمله، ولكن لما كان تفرغ الإمام للنيابة يمنعه من تحصيل عيشه فقد رؤي أن يفرض للإمام من بيت مال المسلمين ما يقوم بعيشه وعيش أهله الذين يعولهم فضلاً عما يصيبه كفرد من الأموال العامة التي تقسم بين الجميع كنصيبه في الفيء وحقه في العطاء.

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الدولة يختص نفسه بشيء من الأموال العامة مقابل تفرغه لشؤون الدولة، وكان يكتفي بما أفاء الله عليه من أموال بني النضير، بل كان لا يستبقي من هذا الفيء لنفسه وأهله إلا القليل، أما

ص: 254

الباقي فينفقه في سبيل الله وعلى ذوي الحاجة وما عرض له محتاج إلا آثره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه، بل كان ينفق ما في يده وهو وأهله في حاجة إليه.

ولما ولي أبو بكر مكث ستة أشهر يدير شؤون الدولة ويقوم بعمله الخاص وهو التجارة التي كان يزاولها قبل أن يكون خليفة، ثم رأى أن أمور الناس لا تصلح مع التجارة، وأنه ما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فَحَدَّثَ المُسْلِمِينَ وَحَدَّثُوهُ في ذلك، ورأوا أن يتفرغ لشؤون الدولة، فقال لهم لا بد لعيالي مِمَّا يصلحهم، ففرضوا في كل سنة ستة آلاف درهم وهو ما يقوم بحاجته وحاجة عياله مقابل تفرغه لشؤون الدولة، ولكن لما حضرته الوفاة، قال لأهله: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني، فوجدوه ثمانية آلاف درهم، فأمر بأن يعطي بيت المال أرضًا يملكها مقابل ما أخذ من المال.

وقال لابنته عائشة عند موته: «إنَّا مُنْذُ وُلِيِّنَا أَمْرَ المُسْلِمِينَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِينارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَكِنَّنَا قَدْ أَكَلْنَا جَرِيشَ طَعَامِهِمْ وَلَبِسْنَا خَشِنَ ثِيَابِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ إلَاّ هَذَا العَبْدُ وَهَذَا البَعيرُ وَهَذِهِ القَطِيفَةَ، فَإِذَا مِتُّ فَاِبْعَثِي بِالجَمِيعِ إِلَى عُمَرَ» . فلما مات بعثته إلى عمر، فجعل يبكي ويقول:«رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ» ، وعرض عبد الرحمن بن عوف على عمر أن يرد هذه الأشياء على عيال أبي

ص: 255

بكر، فقال:«وَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا، لَا يَكُونُ هَذَا فِي وِلَايَتِي، يَخْرُجُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُ وَأَتَقَلَّدُهُ أَنَا» .

فهذا أبو بكر يعمل للمسلمين ستة أشهر بلا مقابل، وسنة وأربعة أشهر بمقابل يرده عند وفاته، وهذا عمر يرفض أن يمنح عيال أبي بكر عبدًا وقطعة قطيفة أمر أبو بكر بردها لبيت المال، ولو كان غير أبي بكر من حكام هذا الزمان لأتخم نفسه ثروة في ولايته، ولو كان غير عمر من حكام هذا الزمان لمنح عيال سلفه معاشًا أو أقطعهم إقطاعًا.

ثم يلي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر فيمكث زمانًا لا يأكل من مال المسلمين شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم فقال:«قَدْ شَغَلْتُ نَفْسِي بِهَذَا الأَمْرِ فَمَا يَصْلُحُ لِي مِنْهُ؟» فَقَالَ عُثْمَانُ: «كُلْ وَأَطْعِمْ» ، وَقَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنَ زَيْدٍ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ:«مَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالَ: «غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ» ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِمَا قَالَ عَلِيٌّ، وفي رواية أخرى أن عليًا قال له:«لَيْسَ لَكَ فِي هَذَا المَالِ إِلَاّ مَا أَصْلَحَكَ وَأَصْلَحَ أَهْلَكَ بِالمَعْرُوفِ» ، فَقَالَ عُمَرُ:«القَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ» .

وتساءل البعض ماذا يحل لأمير المؤمنين من مال الله أي مال الدولة فسمع عمر فقال: «أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْتَحِلُّ مِنْهُ، تَحِلُّ لِي حُلَّتَانِ حُلَّةٌ فِي الشِّتَاءِ وَحُلَّةٌ فِي القَيْظِ، وَمَا أَحُجُّ عَلَيْهِ وَأَعْتَمِرُ مِنَ الظُّهْرِ، وَقُوتِي وَقُوتِ أَهْلِي كَقُوتِ رَجُلٍ مِنْ

ص: 256

قُرَيْشٍ لَيْسَ بِأَغْنَاهُمْ وَلَا أَفْقَرِهِمْ، ثَمَّ أَنَا بَعْدَ رَجُلٍ مِنْ المُسْلِمِينَ يُصِيبُنِي مَا أَصَابَهُمْ»، وَقَالَ أَيْضًا:«لَا يَحِلُ لِي مِنْ هَذَا المَالِ إلَاّ مَا كُنْتُ آكِلاً مِنْ صُلْبِ مَالِي» .

وكان عمر ينفق كل يوم درهمين له ولعياله وأنفق في حجته ثماني ومائة درهم.

وكان يقول: «إِنِّي أَنْزَلْتُ مَالَ اللهِ - أي مال الدولة - مِنِّي بِمَنْزِلَةِ مَالِ اليَتِيمِ، فَإِنْ اسْتَغْنَيْتُ عَفَفْتُ عَنْهُ، وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالمَعْرُوفِ» ، وكان ينظر في هذا إلى قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].

وجيء لعمر بمال فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فجاءت فقالت: يا أمير الؤمنين حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله بالأقربين. قال: يا بنية حق أقربائي في مالي، وأما هذا ففيء المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك، قومي. فقامت تجر ذيلها.

ورأى عمر في سكة من سكك المدينة صبية تطيش على وجه الأرض تقوم مرة وتقع أخرى، فقال عمر:«يَا وَيْحَهَا يَا بُؤْسَهَا مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ مِنْكُمْ؟» ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنَ عُمَرَ:«أَوَ مَا تَعْرِفُهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟» ، قَالَ:«لَا وَمَنْ هِيَ؟» : قَالَ: «هَذِهِ إِحْدَى بَنَاتِكَ، هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ» ، قَالَ:«وَيْحُكَ وَمَا صَيَّرَهَا إِلَى مَا أَرَى؟» ، قَالَ:«مَنْعُكَ مَا عِنْدَكَ» ، قَالَ: «وَمَنْعِي مَا عِنْدِي مَنَعَكَ أَنْ تَطْلُبَ لِبَنَاتِكَ مَا يَكْسِبُ الأَقْوِيَاءُ لِبَنَاتِهِمْ؟ إِنَّهُ وَاللهِ مَالَكَ عِنْدِي غَيْرَ

ص: 257

سَهْمِكَ فِي المُسْلِمِينَ وَسِعَكَ أَوْ عَجَزَ عَنْكَ، هَذَا كِتَابُ اللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

وكان عمر يقول: «إِنَّ اللهَ جَعَلَنِي خَازِنًا لِهَذَا المَالِ وَلَمْ يَجْعَلْنِي قَاسِمًا بَلْ اللهُ يُقَسِّمُهُ» .

ويقول: «مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ إِلَاّ كَقَوْمٍ ساَفَرُوا فَدَفَعُوا نَفَقَاتِهِمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَنْفِقْ عَلَيْنَا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ مِنْهَا بِشَيْءٍ؟» ،قَالُوا: لَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قال: «فَكَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُهُمْ» .

ولم يكن أبو بكر وعمر فيما فَعَلَا مبتدعين وحاشاهما أن يفعلا، وإنما كانا فيما فَعَلَا متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعاملين بسنته، وبما جاء من عند ربه، ذلك أن الإسلام جعل الاستخلاف في الأرض والاستخلاف في الحكم أمانة.

{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. وقد أمر الله المسلمين بأداء الأمانات إلى أهلها، وليس ثمة أمانة كالحقوق، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. وحرم عليهم خيانة الله ورسوله بعصيان أمر الله، كما حرم عليهم خيانة أماناتهم في الحكم والعدل وغير ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]. كذلك حرم الله على المسلم أن يغل، والغلول هو الأثرة على الناس، أو عدم القسمة بالعدل، أو

ص: 258

الخيانة {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]. ولقد قامت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على العدل بين الناس {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]. وجعل الله من سيرة رسوله في الناس أسوة حسنة لهم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وما يعدل بين الناس ولايكون لهم أسوة حسنة من يؤثر نفسه عليهم، أو يمز بعضهم على بعض.

وإذا كان الحكم أمانة وكان على الحاكم أن يؤدي أمانته فلا يخون الناس ولا يؤثر نفسه بشيء دونهم، وكان عليه أن يعدل بينهم في كل شيء، وأن يتأسى بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيسير بمثلها في الناس، إذا كان هذا من واجب الحكام فما فعل أبوبكر وعمر إلا أنهما أَدَّيَا ما أوجبه الله عليهما، وَتَأَسَّيَا بسيرة رسول الله وَتَابَعَا فعله.

وَعَمَلُ الرَّسُولِ وَقَوْلُهُ في الأموال العامة معروف مشهور، فعن عمر بن الخطاب قال:«كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، - وفي لفظ: يَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ - وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .

وَعَنْ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 259

كَانَ إِذَا أَتَاهُ الفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى العَزَبَ حَظًّا».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ، إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» ويحتج بهذا الحديث في أن الفيء مَالٌ عَامٌّ جعلت قسمته للرسول على الوجه الذي أراه الله.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّةِ هَوَازِنَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَنَا مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءُ شَيْءٌ وَلَا هَذِهِ إلَاّ الخُمُسَ، وَالخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الخَيْطَ وَالمِخْيَطَ» .

ويروى عن علي بن أبي طالب أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ، إِلَاّ قَصْعَتَانِ، قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ» .

فالإمام ليس له من مال الدولة إلا ما يسد حاجته وما يصلح عياله وما زاد عن ذلك فهو خيانة وغلول. وقد يكون أحد الأئمة كثير العيال فيحتاج إلى أكثر مِمَّا يحتاجه غيره، ولكن هذا وذاك لا يصح أن يأخذ مِمَّا يسد حاجته وحاجة عياله. فقد كان أبو بكر يأخذ ستة آلاف درهم

ص: 260

في العام وكان عمر يأخذ كل يوم درهمين على كثرة الأموال العامة في عهد عمر وازدياد الفيء أضعافًا مضاعفة.

على هذا الهدى سار الأئمة المهديون وبه تمسكوا، فهذا علي بن أبي طالب يموت وهو خليفة المسلمين فما يترك صفراء ولا بيضاء كما قال ابنه الحسن إلا ثمانية مائة أو سبعمائة درهم أرصدها لخادمه. ولقد كان علي وهو خليفة يلبس إزارًا غليظًا اشتراه بخمسة دراهم، وكانت حمائل سيفه من الليف، وعرض سيفه للبيع ليشتري لنفسه إزارًا، وكان يقول:«مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي هَذَا السَّيْفَ؟ فَوَالذِي فَلَقَ الحَبَّةَ لَطَالَمَا كَشَفْتُ بِهِ الكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي ثَمَنُ إِزَارٍ مَا بِعْتُهُ» .

وما كان المال بعيدًا عن علي بن أبي طالب لو حرص على المال، فقد كان يربط الحجر على بطنه من الجوع، ويعرض سيفه للبيع ليشتري به إزارًا، في حين أن الإيراد اليومي للأموال التي تصدق بها وأوقفها صدقة جارية على الفقراء أربعة آلاف دينار.

وما كان المال بعيدًا عن علي لو رضى أن يمد يده للأموال العامة ويأخذ منها حاجته (كما فعل من سبقه من الخلفاء) ولكنه حرم نفسه ذلك يوم بويع للخلافة حيث قال: «أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَمْرٌ دُونَكُمْ، أَلَا إِنَّ مَفَاتِيحَ مَالِكُمْ مَعِي، أَلَا وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ آخُذَ مِنْهُ دِرْهَمًا دُونَكُمْ، أَرَضِيتُمْ؟» قَالُوا: نعم،

ص: 261

قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . وكما حرم على نفسه أن يأخذ شيئًا من المال العام فإنه حرم على نفسه أن يبقى على شيء من ماله الخاص، فقد كانت يده تمتلئ بماله الخاص فينفقه كله في سبيل الله، وعلى الفقراء، وَلَا يُبْقِي لنفسه إلا ما دون الكفاف.

وجاء عمر بن عبد العزيز خليفة على المسلمين فلم يرتزق من بيت مال المسلمين شيئًا ولم يرزأه حتى مات، بل لقد رد عمر كل ما كان يملكه قبل أن يكون خليفة إلى بيت مال المسلمين ولم يترك لنفسه إلا عينًا بالسويداء كان استنبطها بعطائه، فكان يأتيه من غلتها كل سنة مائة وخمسون دينارًا أو أقل أو أكثر وكان أكثر طعامه العدس، ولم يكن له إلا ثوب واحد، وبلغ من ورعه أنه كان يطفئ شمعة بيت المال إذا ما انتهى من عمل الدولة ويجلس في سراجه الخاص ورفض أن يتوضأ أو يغتسل بماء ساخن على حجر مطبخ بيت المال إلا بعد أن دفع ثمن الحطب كله، بالرغم من أن صاحب المطبخ أخبره أن الماء سخن على حجر ولو ترك لخمد حتى يصير رمادًا.

ونخرج مِمَّا سبق بأن الإمام إذا كان له مال يقوم بحاجته وحاجة عياله فليس له أن يأخذ من مال المسلمين إلا بمقدار ما يأخذ أي فرد آخر، فإذا كان ماله لا يكفي حاجته أخذ من بيت المال ما ينقصه وإن لم يكن له مال أصلاً أخذ من بيت المال ما يقوم بحاجته وحاجة عياله كرجل من أوسط الناس ليس بأغناهم ولا أفقرهم.

ص: 262