المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام لا يقدس الخلفاء: - الإسلام وأوضاعنا السياسية

[عبد القادر عودة]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدِّمَةٌ:

- ‌الخَلْقُ وَالتَّسْخِيرُ:

- ‌هَذَا الكَوْنُ خَلَقَهُ اللهُ:

- ‌هَذَا الكَوْنُ مُسَخَّرٌ لِلْبَشَرِ:

- ‌البَشَرُ مُسَخَّرٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:

- ‌الاِسْتِخْلَافُ فِي الأَرْضِ:

- ‌البَشَرُ مُسْتَخْلَفُونَ فِي الأَرْضِ:

- ‌اِسْتِخْلَافُ البَشَرِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ:

- ‌أَنْوَاعُ الاِسْتِخْلَافِ:

- ‌سُنَّةُ اللهِ فِي اِسْتِخْلَافِ الحُكْمِ:

- ‌أمثلة من المستخلفين السابقين:

- ‌مركز المستخلفين في الأرض:

- ‌واجبات المستخلفين في الأرض:

- ‌جزاء تعدي حدود الاستخلاف:

- ‌المَالُ مَالُ اللهِ:

- ‌مَاذَا يَمْلِكُ البَشَرُ فِي هَذَا الكَوْنِ

- ‌المَالُ للهِ وَلِلْبَشَرِ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ:

- ‌حُدُودُ حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ:

- ‌مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ المَالِ للهِ:

- ‌مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حَقِّ البَشَرِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِ اللهِ:

- ‌حُقُوقُ الغَيْرِ فِي مَالِ اللهِ:

- ‌أنواع الإنفاق:

- ‌الإنفاق في سبيل الله:

- ‌الإنفاق على ذوي الحاجة:

- ‌إنفاق التطوع:

- ‌حد التطوع:

- ‌بحث محدود:

- ‌للهِ الحُكْمُ وَالأَمْرُ:

- ‌لِمَنْ الحُكْمُ

- ‌الحُكْمُ مِنْ طَبِيعَةِ الإِسْلَامِ:

- ‌الإِسْلَامُ عَقِيدَةٌ وَنِظَامٌ:

- ‌الإِسْلَامُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ:

- ‌الحُكُومَةُ الإِسْلَامِيَّةِ، وَظِيفَتُهَا وَمُمَيِّزَاتُهَا:

- ‌الحُكُومَةُ التِي تُقِيمُ أَمْرَ اللهِ:

- ‌مَنْطِقُ التَّجَارِبِ:

- ‌وَظِيفَةُ الحُكُومَةِ إِقَامَةُ أَمْرِ اللهِ:

- ‌مِيزَاتُ الحُكُومَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الصفة الأولى: حكومة قرآنية:

- ‌الصفة الثانية: حكومة شورى:

- ‌الصفة الثالثة: حكومة خلافة أو إمامة:

- ‌نَوْعُ الحُكُومَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌نَشْأَةُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الإِسْلَامُ خُلُقُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌سُلْطَانٌ بِلَا أَلْقَابٍ:

- ‌السُّلْطَانُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا:

- ‌دَوْلَةٌ اسْتَكْمَلَتْ أَرْكَانَهَا:

- ‌مَدَى سُلْطَانِ رَئِيسِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌الخِلَافَةُ أَوْ الإِمَامَةُ العُظْمَى:

- ‌مَعْنَى الخِلَافَةِ:

- ‌إِقَامَةُ الخِلَافَةِ فَرِيضَةٌ:

- ‌مَصْدَرُ فَرْضِيَّةُ الخِلَافَةِ:

- ‌الخِلَافَةُ وَاجِبَةٌ عَقْلاً:

- ‌الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي الإِمَامِ:

- ‌1 - الإِسْلَامُ:

- ‌2 - الذُّكُورَةُ:

- ‌3 - التَّكْلِيفُ:

- ‌4 - العِلْمُ:

- ‌5 - العَدْلُ:

- ‌6 - الكِفَايَةُ:

- ‌7 - السلامة:

- ‌8 - القرشية:

- ‌اِنْعِقَادُ الإِمَامَةِ أَوْ الخِلَافَةِ:

- ‌الطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ لِلإِمَامَةِ:

- ‌بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ:

- ‌بَيْعَةُ عُمَرَ:

- ‌بَيْعَةُ عُثْمَانَ:

- ‌بَيْعَةُ عَلِيٍّ:

- ‌نَتِيجَةٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهَا:

- ‌تَجَوُّزٌ لَا مَحَلَّ لَهُ:

- ‌وِلَايَةُ العَهْدِ:

- ‌نَتَائِجُ الاِسْتِخْلَافِ وَوِلَايَةِ العَهْدِ:

- ‌إِمَامَةُ المُتَغَلِّبِ:

- ‌مَرْكَزُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ فِي الأُمَّةِ:

- ‌الخَلِيفَةُ فَرْدٌ يَنُوبُ عَنْ الأُمَّةِ:

- ‌الإِسْلَامُ لَا يُقَدِّسُ الخُلَفَاءَ:

- ‌مُدَّةُ الخِلَافَةِ:

- ‌عَزْلُ الخَلِيفَةِ:

- ‌الجَرْحُ فِي العَدَالَةِ:

- ‌نَقْصُ البَدَنِ:

- ‌الشُّورَى:

- ‌الشُّورَى مِنَ الإِيمَانِ:

- ‌نِطَاقُ الشُّورَى:

- ‌القَوَاعِدُ التِي تَقُومُ عَلَيْهَا الشُّورَى:

- ‌فِي الشُّورَى صَلَاحُ العَالَمِ:

- ‌أَهْلُ الشُّورَى:

- ‌الشُّرُوطُ الوَاجِبَةُ فِي أَهْلِ الشُّورَى:

- ‌سُلْطَانُ الأُمَّةِ:

- ‌اخْتِيَارُ الخَلِيفَةِ أَوْ الإِمَامِ:

- ‌كَيْفِيَّةُ الاِخْتِيَارِ:

- ‌وَحْدَةُ الإِمَامَةِ:

- ‌المُبَايَعَةُ:

- ‌طَلَبُ الوِلَايَةِ:

- ‌السُّلُطَاتُ فِي الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌أَوَّلاً: السُّلْطَةُ التَّنْفِيذِيَّةُ:

- ‌ثَانِيًا: السُّلْطَةُ التَّشْرِيعِيَّةُ:

- ‌ثَالِثًا: السُّلْطَةُ القَضَائِيَّةُ:

- ‌القضاة وشرعية القوانين:

- ‌رَابِعًا: السُّلْطَةُ المَالِيَّةُ:

- ‌خَامِسًا: سُلْطَةُ المُرَاقَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ:

- ‌‌‌وَاجِبَاتُ الإِمَامِوَحُقُوقِهِ:

- ‌وَاجِبَاتُ الإِمَامِ

- ‌مَسْؤُولِيَةُ الإِمَامِ فِي أَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ:

- ‌حُقُوقُ الإِمَامِ:

- ‌حَقُّ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ:

- ‌حَقُّ الإِمَامِ فِي مَالِ المُسْلِمِينَ:

- ‌حُقُوقُ الأَفْرَادِ فِي الإِسْلَامِ:

- ‌ المساواة

- ‌الحُرِّيَّةُ:

- ‌ حرية التفكير

- ‌حُرِّيَّةُ الاعْتِقَادِ:

- ‌حُرِّيَّةُ القَوْلِ:

- ‌حُرِّيَّةُ التَّعْلِيمِ:

- ‌حُرِّيَّةُ التَّمَلُّكِ:

- ‌وَحْدَةُ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌إِقْلِيمُ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌دَارُ الإِسْلَامِ:

- ‌دَارُ الحَرْبِ:

- ‌الجِنْسِيَّةُ فِي الإِسْلَامِ:

- ‌أَيْنَ أَوْضَاعُنَا الحَالِيَّةُ مِنَ الإِسْلَامِ

- ‌مَنْ المَسْؤُولُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ

- ‌مَسْؤُولِِيَّةُ الجَمَاهِيرِ:

- ‌مَسْؤُولِيَّةُ الحُكُومَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ:

- ‌مَسْؤُولِيَةُ رُؤَسَاءِ الدُّوَلِ:

- ‌مَسْؤُولِيَّةُ عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ:

الفصل: ‌الإسلام لا يقدس الخلفاء:

ممثل الدولة ونائب الأمة الأول، ويترتب على اعتبارهم نوابًا عن الأمة أنهم لا ينعزلون بعزل الخليفة أو موته، ولو كانوا نوابًا عن الخليفة دون الأمة لانعزلوا بعزله وبموته. ويترتب أيضًا على اعتبارهم نوابًا عن الأمة أنه لا يجوز للخليفة أن يعزلهم ما داموا قائمين بعملهم على وجهه الصحيح. ويعتبر الموظفون نوابًا عن الأمة شرعًا بالرغم من أن الخليفة هو الذي اختارهم، لأنه اختارهم بصفته نائبًا عن الأمة، واختارهم ليعملوا للأمة لا له، ولأن وجودهم ضروري للقيام على أمر الأمة، ولا يغني وجود الخليفة عن وجودهم شيئًا.

‌الإِسْلَامُ لَا يُقَدِّسُ الخُلَفَاءَ:

ورئيس الدولة الإسلامية وهو القائم على أمر الإسلام لا يعفيه الإسلام من أخطائه، ولا يخفف من مسؤوليته، ولا يميزه عن أي شخص، ولذلك كان الخلفاء والأئمة أشخاصًا لا قداسة لهم ولا يتميزون على غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي فرد آخر يرتكبها.

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نبي ورئيس دولة لا يدعي لنفسه قداسة ولا امتيازًا، وكان يردد قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت: 6]، وقوله:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 93]. وكان قدوة حسنة لخلفائه وللمسلمين في توكيد المساواة بين الحكام والمحكومين ورؤساء الدول والرعايا. دخل عليه

ص: 176

أعرابي فأخذته هيبة الرسول، فقال صلى الله عليه وسلم:«هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيدَ» وتقاضاه غريم له دينًا فأغلظ عليه، فَهَمَّ بِهِ عمر بن الخطاب، فقال الرسول:«مَهْ يَا عُمَرُ كُنْتَ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَنِي بِالوَفَاءِ وَكَانَ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصَّبْرِ» (1).

وخرج أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر، ثم قال: أَيُّهَا النَّاسُ،

مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَلَا يَخْشَ الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِي، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِي، أَلَا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ مِنِّي حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ».

ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الأُولَى (2).

وكان يكره أن يتميز على المسلمين، من ذلك أنه كان يطوف بالبيت، فأتى السقاية فَقَالَ:«اسْقُونِي» ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا يَخُوضُهُ النَّاسُ، وَلَكِنَّا نَأْتِيكَ بِهِ مِنَ البَيْتِ، فَقَالَ:«لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ» ، وكان يكره أن يوصف بغير ما وصفه الله به من أنه بشر رسول، ويحذر المسلمين من أن يطروه فيقول لهم: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى

(1)" زاد المعاد ": جـ 1 ص 59، " التشريع الجنائي الإسلامي ": ص 317 وما بعدها.

(2)

" الكامل " لابن الأثير: جـ 2 ص 132.

ص: 177

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».

وجاء خلفاء الرسول فنسجوا على منواله، واهتدوا بهديه، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصعد المنبر بعد أن بويع بالخلافة فتكون أول كلمة يقولها توكيدًا لمعنى المساواة، ونفيًا لمعنى الامتياز. قال:«أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي» .

وهذا عمر بن الخطاب يولى الخلافة فيكون أشد تمسكًا بهذه المعاني حتى أنه ليرى قتل الخليفة الظالم، خطب يومًا فقال:«لَوَدِدْتُ أَنِّي وَإِيَّاكُمْ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ البَحْرِ تَذْهَبُ بِنَا شَرْقًا وَغَرْبًا، فَلَنْ يَعْجِزَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُوَلُّوا رَجُلاً مِنْهُمْ فَإِنْ اسْتَقَامَ اتَّبَعُوهُ وَإِنْ جَنَفَ قَتَلُوهُ، فَقَالَ طَلْحَةُ:" وَمَا عَلَيْكَ لَوْ قُلْتَ وَإِنْ تَعَوَّجَ عَزَلُوهُ؟ قَالَ: لَا، القَتْلُ أَنْكَى لِمَنْ بَعْدَهُ "» (1).

وأعطى أبو بكر القود من نفسه، وأقاد للرعية من الولاة، وفعل عمر بن الخطاب مثل ذلك وتشدد فيه، فأعطى القود من نفسه أكثر من مرة، ولما قيل له في ذلك قال:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَبَا بَكْرٍ يُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَنَا أُعْطِي القَوَدَ مِنْ نَفْسِي» .

وأخذ عمر الولاة بما أخذ به نفسه، فما ظلم وَالٍ رَعِيَّتَهُ إلا قاد من الوالي للمظلوم وأعلن على رؤوس الأشهاد مبدأه

(1)" التشريع الجنائي الإسلامي ": جـ 1 ص 318.

ص: 178

هذا في موسم الحج، حيث طلب من ولاة الأمصار أن يوافوه في الموسم، فلما اجتمعوا خطبهم وخطب الناس قال:«أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي مَا أُرْسِلُ عُمَّالاً عَلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ بِهِ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ، فَقَالَ: " يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى رَعِيَّةٍ، فَأَدَّبَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ، أَئِنَّكَ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: إِي وَالذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، إِذًا لأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ لَا أَقُصُّهُ مِنْهُ!، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ» (1).

ولقد جرى العمل، يوم كان المسلمون لا يعرفون لهم قانونًا إلا الشريعة الإسلامية، على أن يتحاكم الخلفاء والملوك والولاة إلى القضاء العادي، وأن يحاكموا أمامه، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفقد درعا في خلافته ويجدها مع يهودي يَدَّعِي ملكيتها، فيرفع الأمر إلى القاضي ليحكم لصالح اليهودي ضد علي أمير المؤمنين وخليفتهم.

وهذا هو المغيرة والي الكوفة يتهم بالزنا، فيحاكم على الجريمة المنسوبة إليه بالطريق العادي، ولا ينقذه من العقوبة إلا أن الدليل لم يكن كافيًا لاثبات التهمة.

ويقص علينا التاريخ أن المأمون اختصم مع رجل بين يدي

(1) المرجع السابق: ص 319.

ص: 179

يحيى بن أكثم قاضي بغداد، فدخل المأمون إلى مجلس يحيى وخلفه خادم يحمل طنفسه لجلوس الخليفة، فرفض يحيى أن يميز الخليفة عن أفراد رعيته، وقال: يا أمير المؤمنين لا تأخذ على صاحبك شرف المجلس دونه، فدعا المأمون للرجل بطنفسة أخرى.

وبعض الخصومات التي كانت تثور بين الخليفة والولاة والأفراد كانت تفض بطريق شرعي بحت هو التحكيم، «كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَدْ أَخَذَ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى سَوْمٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلاً فَعَطِبَ، فَخَاصَمَ الرَّجُلُ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: " اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَجُلاً " ، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَإِنِّي أَرْضَى بِشُرَيْحٍ العِرَاقِيِّ ، فَقَالَ شُرَيْحٌ لِعُمَرَ: أَخَذْتَهُ صَحِيحًا سَلِيمًا وَأَنْتَ لَهُ ضَامِنٌ حَتَّى تَرُدَّهُ صَحِيحًا سَلِيمًا» ، وَكَانَ هَذَا الحُكْمُ الذِي صَدَرَ مِنْهُ ضِدَّ عُمَرَ هُوَ الذِي حَفَزَ عُمَرَ لِتَعْيِينِ شُرَيْحٍ قَاضِيًا (1).

وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام أو الخليفة شروطًا لا تتوفر في كل شخص إلا أنهم يسوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شيء، وهم يستندون في هذه التسوية إلى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ

(1) المرجع نفسه: ص 320.

ص: 180

الوَاحِدِ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَاّ بِالتَّقْوَى» وإلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه رؤي وهو يقص من نفسه، وإلى أن نصوص الشريعة في العقوبات وغيرها جاءت عامة فتسري على الجميع دون استثناء.

ولكن الفقهاء بالرغم من اتفاقهم على ما سبق اختلفوا في عقاب الخليفة والإمام الأعظم في بعض الجرائم، واتفقوا على عقابه في بعضها الآخر ولهم في ذلك نظريتان:

النظرية الأولى: وهي نظرية أبي حنيفة، وخلاصتها أن الجرائم التي تمس حقوق الجماعة كالزنا والشرب لا يعاقب عليها الخليفة، لا لأنه معفى من العقاب ولكن لتعذر إقامة العقوبة عليه، إذ أنه صاحب الولاية على غيره وليس لغيره ولاية عليه حتى يقيم عليه العقوبة، وإذا كانت ولاية العقاب للإمام والخليفة في الجرائم التي تمس حقوق الجماعة، فلا يعقل أن يعرض الإمام نفسه للخزي والنكال بإقامة الحد على نفسه، وإذا امتنع تنفيذ العقوبة فقد امتنع الواجب وهو العقاب، وإذا امتنع الواجب لم يعد واجبًا.

فالفعل المحرم في رأي أبي حنيفة يظل محرمًا ويعتبر جريمة ولكن لا يعاقب عليه لعدم إمكان العقاب.

ويترتب على اعتبار الفعل محرمًا أن الإمام لو زنا وهو محصن فقتله أي فرد من الأفراد فإن القاتل لا يعاقب على القتل لأنه قتل شخصًا مباح الدم، إذ أن الزنا من محصن عقوبته الموت،

ص: 181

ولما كانت عقوبة الزنا من الحدود، والحدود لا يجوز تأخيرها ولا العفو عنها، فإن قتل الزاني المحصن يعتبر واجبًا لا بد منه إزالة للمنكر وتنفيذًا لحدود الله، فمن يقتل الزاني المحصن يؤدي واجبًا عليه ومن ثم فلا يمكن اعتباره قاتلاً (1).

أما الجرائم التي تمس حقوق الأفراد كالقتل والجرح فيرى أبو حنيفة أن الخليفة يؤخذ بها ويعاقب عليها، لأن حق استيفاء العقوبة ليس له أصلاً وإنما هو للمجني عليهم وأوليائهم، وإذا قام الخليفة بتنفيذ العقوبة فإنما يقوم به نيابة عن الأفراد، فإذا ارتكب الخليفة جريمة من هذا النوع كان للأفراد، أصحاب الحق الأصلي في استيفاء العقوبة، أن يستوفوها من الخليفة مستعينين في ذلك بالقضاء وبالجماعة وإذا استوفى الأفراد العقوبة الواجبة من غير طريق القضاء كأن قتلوا الخليفة اقتصاصًا لقتله شخصًا آخر فلا حرج عليهم لأنهم فعلوا ما هو حقهم.

على أن بعض الحنفيين يرون أن الخليفة إذا ولى قاضيًا للحكم في كل الجرائم كان من حق القاضي أن يأخذ الخليفة بكل جريمة ارتكبها سواء أمست حقًا لله أم حقًا للأفراد (2).

ويؤخذ على نظرية أبي حنيفة أنها تقوم على أساس ضعيف، لأن الخليفة أو الإمام ليس إلا نائبًا عن الجماعة، ولأن الخطاب

(1)" شرح فتح القدير ": جـ 4 ص 160، 161، " البحر الرائق ": جـ 5 ص 187، " حاشية الطهطاوي ": جـ 4 ص 260.

(2)

" شرح فتح القدير ": جـ 4 ص 161.

ص: 182

في التشريع الإسلامي موجه للجماعة وليس للخليفة أو الإمام، وإنما أقامت الجماعة الخليفة ليقيم أحكام الشريعة نيابة عن الجماعة، فإذا ارتكب الإمام جريمة كان للجماعة - وهي صاحبة الحق الأول - أن تعاقبه على ما فعل تنفيذًا لما هي مخاطبة به ومسؤولة عنه.

ويستطيع القاضي المختص بنظر الجريمة أن يحكم على الخليفة أو الإمام بعقوبتها ولو كان الخليفة الذي ارتكب الجريمة هو الذي عين القاضي، لأن الخليفة عينه باعتباره نائبًا عن الجماعة فهو قاض ينوب عن الجماعة ولا ينوب عن الخليفة، ويستمد سلطانه من الجماعة لا من الخليفة الذي عينه.

النظرية الثانية: وهي النظرية التي يقول بها جمهور الفقهاء وخصوصًا مالك والشافعي وأحمد وأصحاب المذهب الظاهري فهؤلاء جميعًا لا يفرقون بين جريمة وجريمة ويرون الخليفة أو الإمام مسؤولاً عن كل جريمة يرتكبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق للفرد، لأن النصوص عامة، والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم رئيس الدولة فيعاقب عليها من يرتكبها ولو كان الخليفة، ولا ينظر هؤلاء الفقهاء إلى إمكان تنفيذ العقوبة كما يفعل أبو حنيفة لأن تنفيذ العقوبات ليس للخليفة وحده وإنما له باعتباره نائبًا عن الأمة ولنوابه الذين يعتبرون أيضًا نوابًا عن الأمة، فإذا ارتكب الخليفة جريمة وحكم عليه

ص: 183