الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصوص عن الحكم فذلك هو الجهل المطبق والجدل المنكر، وأي جهل أشد من جهل رجل يدعي لنفسه صفة لا يعرف ماهيتها، فيدعي لنفسه الإسلام وهو يجهل حقيقة الإسلام، وأي جدل أنكر من جدال جاهل يحتج على الناس بجهله، ويريد منهم أن ينكروا ما علموه لأنه يجهل أو لا يريد أن يتعلمه.
إن الإسلام يلزم الناس باتباع ما أنزل الله ويوجب عليهم أن يتحاكموا إلى ما جاء من عند الله ويحكموا به وحده دون غيره، وليس لذلك معنى إلا أن الحكم هو الأصل الجامع في الإسلام، والدعامة الأولى التي يقوم عليها الإسلام.
إن كل من له إلمام بالإسلام يعلم حق العلم أن الحكم في الإسلام تقضي به طبيعة الإسلام أكثر مِمَّا تقضي به نصوص القرآن، ففي طبيعة الإسلام أن يسيطر على الأفراد والجماعات ويوجههم ويحكم تصرفاتهم، وفي طبيعة الإسلام، أن يعلو ولا يعلى عليه، وأن يفرض حكمه على الدول، وأن يبسط سلطانه على العالم كله.
إن الإسلام ليس عقيدة فقط، ولكنه عقيدة ونظام، وليس دينًا فحسب ولكنه دين ودولة، ومن المؤلم حقًا أن يجهل أكثر المسلمين ذلك لأنهم يجهلون كل شيء عن حقيقة الإسلام، ولا يعلمون عنه إلا عبادات يتلقونها عن طريق التقليد والمحاكاة.
الإِسْلَامُ عَقِيدَةٌ وَنِظَامٌ:
والإسلام عقيدة ومبدأ ما في ذلك شك ولكنه ما كان عقيدة
تعتقد ومبدأ يعتنق إلا بعد أن استوى نظامًا دقيقًا شاملاً ينظم كل شأن من شؤون النفس البشرية، وينظم كل ما تحيط به النفوس من المعاني وما تدركه من المحسوسات، سواء اتصلت بالأفراد أو الجماعات، وسواء اتصلت بدنيانا التي نعيش فيها أو بالحياة الأخرى التي نرجوها حياة طيبة.
والإسلام كعقيدة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكنه كنظام يسيطر على الإنسان سيطرة تامة ويرسم له منهاجًا في الحياة وهدفه منها، كما يرسم له طرائق العمل التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
الإسلام كنظام يسيطر على المسلم في كل حركاته وسكناته، يسيطر عليه في تفكيره ونيته، وفي قوله وعمله، يسيطر عليه في سره وجهره وفي خلوته وجلوته، يسيطر عليه في قيامه وقعوده وفي نومه ويقظته، يسيطر عليه في طعامه وشرابه وفي ملبسه وحليته، يسيطر عليه في بيعه وشرائه وفي تصرفاته ومعاملاته، يسيطر عليه في جده ولهوه وفي فرحه وحزنه وفي رضاه وغضبه، يسيطر عليه في بأسائه ونعمته وفي مرضه وصحته وفي ضعفه وقوته، يسيطر عليه غنيًا وفقيرًا صغيرًا وكبيرًا عظيما وحقيرًا، يسيطر عليه في بَنِيهِ وَأَهْلِهِ وفي صداقته وعداوته وفي سلمه وحربه، يسيطر عليه فردًا وفي جماعة وحاكمًا ومحكومًا ومالكًا وصعلوكًا، وليس ثمة تصرف يتصوره العقل أو حال يكون عليها الإنسان إلا سيطر فيها الإسلام على المسلم ووجهه الوجهة التي رسمها.
والذين يظنون أن الإسلام عقيدة وليس نظامًا إنما هم جهال لا يعلمون من الإسلام شيئًا، أو هم أغبياء لا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة الإسلام، فالإسلام في حقيقته صبغة يصبغ الله بها عباده المؤمنين {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. ولا يكون المسلم مسلمًا إلا إذا اصطبغ بصبغة الإسلام، وَلَوَّنَ نفسه وأهله وتصرفاته وما يحيط به باللون الإسلامي الخالص.
وأجهل من هؤلاء وأشد غباء من يظنون أن مصلحة المسلمين في أن يحافظوا على الإسلام عقيدة وينبذوه نظامًا، ذلك أن العقائد والمبادئ الإسلامية لا يمكن أن تعيش وتنتشر إلا في ظل النظام الإسلامي الذي تكفل بوضعه الخلاق العليم.
ولست أدري كيف يؤمن هؤلاء بالإسلام عقيدة ولا يؤمنون به نظامًا، أتراه عقيدة من عند الله، ونظامًا من عند غير الله؟ {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].
إن الله الذي جعل الإسلام دينًا هو الذي جعله عقيدة ونظامًا، وأن الله ليأبى على الناس أن يبتغوا لأنفسهم دينًا غير هذا الدين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. ولقد أكمل الله الدين الإسلامي وأتم بإكماله نعمته على الخلق ورضيه دينًا للناس فما يجوز لهم أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وما يجوز لهم أن يرضوا لأنفسهم غير ما رضيه الله لهم {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وإذا كان اللهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - قد اختار الإسلام دينًا ورضيه للناس عقيدة ونظامًا، فكيف يكون لمؤمن أن يختار وقد حرم الله عليه الاختيار:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
أفلا يعلم هؤلاء أن أحكام الإسلام لا تتجزأ ولا تقبل الإنفصال، وأن نصوصه تمنع من العمل ببعضها وإهمال البعض الآخر كما تمنع من الإيمان ببعضها والكفر ببعض، وأن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - توعد من يفعل ذلك بالخزي في الحياة الدنيا وبالعذاب الشديد في الآخرة {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85].
ولقد تمنى قوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك الرسول بعض ما أنزل الله ليحكم بما يتفق مع أهوائهم فنزل الوحي يأمر الرسول بأن يتمسك بما أنزل الله ويحذره من اتباع أهواء هؤلاء الفساق، ويعلمه أن تحكيم الأهواء هو حكم الجاهلية، وأن أفضل حكم وأحسنه هو ما اختاره الله لعباده " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50].
إن الذين يريدون أن يفصلوا بين العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي إنما هم أعداء الإسلام عن عمد أو جهل، فالنظام الإسلامي أشبه ما يكون بالآلة التي تنتج الكهرباء والعقيدة الإسلامية هي النور الذي تعمل الآلة لإنتاجه، فإذا عطلت الآلة انقطع النور وانتهى الإسلام.
إن الدين الإسلامي يمتاز بأنه استطاع أن يوحد بين الأجناس والألوان والأمم، وأن يوجههم جميعًا وجهة واحدة، وأن يحملهم على نهج واحد وغاية واحدة، وما استطاع الدين الإسلامي أن يصل لهذا إلا لأنه عقيدة ونظام.
ولقد جاءنا الإسلام بعقائد معينة ولكنه لم يأتنا بها مجردة، وإنما أتى معها بالنظام الذي تقوم عليه وتحيا به، وألزمنا اتباعه والتزامه، وهو نظام دقيق من التربية والتوجيه، يشمل كل شيء كما قدمنا، ويتدخل في كل حالة من حالات الإنسان، وينتقل بالفرد من مرحلة إلى مرحلة حتى ينتهي به إلى مرحلة التخلي عن أنانيته وأهوائه ويصل به إلى مرحلة التجرد لخدمة المبادئ القرآنية والفناء فيها.
وهكذا يربي الإسلام المسلمين تربية واحدة ويوجههم توجيهًا موحدًا، ويجردهم لخدمة أهداف واحدة، فما يطلبه أحدهم هو ما يطلبه الآخر، وما تعمل له مجموعة منهم هو نفسه