الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما دامت النيابة ملحوظًا فيها شخصية النائب، كذلك فإن الجماعة استخلفت أبا بكر لمدة حياته فإذا صح له أن يختار من ينوب عنه في حياته فليس له أن يختار من يقوم مقامه بعد وفاته، لأن نيابته تنتهي بوفاته فإذا اختار من يقوم على أمر الأمة بعد وفاته فقد خرج على حدود نيابته، أو لا يكون اختياره إلا ترشيحًا إن شاءت الجماعة التي هي صاحبة الحق في الاختيار أن تأخذ به فعلت، وإن شاءت رفضت ولا تثريب عليها.
ولو كان فعل أبي بكر اختيارًا واستخلافًا فعليًا لما كان هناك ما يدعو لأن يبايع الناس عمر بعد ذلك، فبيعة الناس لعمر هي التي جعلته خليفة وما انعقدت خلافته إلا بهذا دون غيره.
وإذا كان ما فعله أبو بكر ليس إلا ترشيحًا فينبغي أن نعلم أن أبا بكر لم يرشح عمر للخلافة إلا بعد أن استشار خاصة الصحابة، فلما قبلوا هذا الترشيح كتب وعلق الأمر على اختيار عامة الناس.
وبعد فإن أبا بكر أبر وأتقى من أن يعطل قول الله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، واختيار الخليفة القائم لمن يتولى بعده دون رجوع أهل الرأي وتكينهم من الاختيار في حرية تامة ليس إلا تعطيلاً صريحًا لهذا النص الذي أوجب الله على الأمة العمل به.
بَيْعَةُ عُثْمَانَ:
ولما طعن عمر طلب منه المسلمون أن يستخلف، فقال:
فخرجوا ثم عادوا فقالوا له يا أمير المؤمنين: لو عهدت عهدًا، فقال:«مَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَحَمَّلَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ "، وَهُمْ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلاً، فَإِذَا وَلَّوْا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُوَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ» .
فلما مات عمر جمع المقداد أهل الشورى في حجرة السيدة عائشة بإذنها وطلحة غائب فتنافسوا في الأمر، فقال عبد الرحمن:«أَيُّكُمْ يُخْرِجُ مِنْهَا نَفْسَهُ وَيَتَقَلَّدُهَا عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا أَفْضَلَكُمْ؟» فلم يجب أحد، فقال:«أَنَا أَنْخَلِعُ مِنْهَا» فرضوا به وأعطوه موثقهم على أن يكونوا معه على من بَدَّلَ وَغَيَّرَ، وأن يرضوا من يختاره لهم. وأعطاهم موثقة ألا يخص ذا رحم وألا يألوا المسلمين نُصْحًا.
وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها يلقى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن في المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم في الأمر، حتى أنه لم ينم في الليلة الأخيرة، وظل يجتمع بهذا وبذاك حتى صلاة الصبح، وفي صباح اليوم الرابع جمع المهاجرين والأنصار وأهل الفضل والسابقة وأمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، ثم قال:«أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ» ، فقال عمار بن ياسر:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْمُسْلِمُونَ فَبَايِعْ عَلِيًّا» ، وأيد المقداد بن الأسود رأي عمار، وقال ابن
أبي سرح: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ قُرَيْشٌ فَبَايِعْ عُثْمَانَ» ، وأيد هذا الرأي عبد الله بن أبي ربيعة، واختلف الناس، فقال عبد الرحمن:«إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ وَشَاوَرْتُ، فَلَا تَجْعَلُنَّ أَيُّهَا الرَّهْطُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ سَبِيلاً» ، ودعا عليًا وقال:«عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَتَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ» ، قال:«أَرْجُو أَنْ أَفْعَلَ فَأَعْمَلَ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَطَاقَتِي» ، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال:«نَعَمْ» فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: «اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ. اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَلِكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ» ، ثم بايعه فبايع الناس جميعًا (1).
وقدم طلحة في يوم المبايعة وبعد تمامها، فقال له عثمان:«أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ وَإِنْ أَبَيْتَ رَدَدْتُهَا» ، قال:«أَتَرُدُّهَا؟» ، قال:«نَعَمْ» ، قال:«أَكُلُّ النَّاسِ بَايَعُوكَ؟» ، قال:«نَعَمْ» ، قال:«قَدْ رَضِيتُ لَا أَرْغَبُ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ» .
هذه هي الوقائع فلننظر فيها لنراها على حقيقتها، وأول ما يطالعنا فيها أن الناس طلبوا من عمر أن يستخلف فاختار لهم ستة أشخاص ليختاروا من بينهم رجلاً واحدًا يلي أمر الأمة، وتعبير الكتب التاريخية يوهم أن الناس طلبوا من عمر أن يختار لهم الخليفة بعده، ولكنهم في الحقيقة لم يطلبوا منه إلا أن يرشح لهم من يخلفه كما فعل أبو بكر، لأن الخليفة القائم لا يملك أن يختار خلفه كما قررنا من قبل وإنما يملك أن يرشح للخلافة من
(1)" الكامل " لابن الأثير: جـ 3 ص 27، 32.
يراه أقدر عليها، ولأن الخلافة لا تنعقد إلا ببيعة أهل الرأي في الأمة، فكل ما يحدث من الاختيار قبل البيعة ليس إلا ترشيحًا للخلافة قد يأخذ ذَوُو الرأي به وقد يهملونه.
ولقد كان اختيار عمر ترشيحًا لا شك فيه، لأنه اختار ستة أشخاص وما يصح أن يلي الأمر إلا واحد منهم، وإذا كان عمر قد ترك لهم أن يختاروا من بينهم فإن اختيارهم هذا ليس إلا ترشيحًا ثانيًا، أي أن عمر رشح ستة للخلافة على أن يرشحوا من بينهم واحدًا، ولو كان الرأي لهؤلاء الستة فقط لما كان عبد الرحمن في حاجة إلى أن يستشير المهاجرين والأنصار والأشراف وأمراء الجند ثلاثة أيام بلياليها حتى لقد ذكر أنه لم ينم في الليلة الأخيرة، ولما كان في حاجة لأن يجمع الناس في المسجد بعد الصلاة ويسألهم أن يشيروا عليه، ولو كان الرأي لهؤلاء الستة دون غيرهم لانعقدت الخلافة بمبايعة خمسة منهم لسادسهم، ولما كان هناك ما يدعو لأن يبايع الناس جميعًا.
فاختيار عمر إذن كان ترشيحًا، واختيار عبد الرحمن كان ترشيحًا، ولم تنعقد البيعة لعثمان إلا برضاء الجماعة عنه ومبايعتهم إياه، وإذا كان عبد الرحمن قد اختار عثمان وبايعه فتابعه الناس على ما رأى فما ذلك إلا لأنهم يثقون في عبد الرحمن وتلك طبيعة البشر في كل الأزمان يتابعون من يثقون فيه ويحسنون به الظن.