الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منصبه إلى وفاته يؤدي إلى استقرار أمور الأمة وَيَحُولُ دون الخلاف على شخص الخليفة أو التنافس على منصب الخلافة إلا للضرورة القصوى، ويحصر هذه الضرورة في حالات ثلاث هي: حالة الموت وحالة العزل وحالة الاستقالة، والحالتان الأخيرتان نادرتان.
وليس ثمة نصوص صريحة توجب أن يكون الخليفة في منصبه إلى وفاته، ولكن إجماع الأمة على هذا يقوم مقام النص، لأن الإجماع من مصادر الشريعة الإسلامية.
عَزْلُ الخَلِيفَةِ:
وإذا كان من حق الخليفة أن يبقى في منصبه طول حياته فإن من حق الأمة أن تعزله إذا تغير حاله، لأن اختياره للخلافة مشروط بتوفر شروط معينة فيه، فإذا ظلت هذه الشروط قائمة فيه فهو قائم في منصبه، وإذا انتفت عنه كان أهلاً لأن ينفى عن المنصب.
وتتغير حال الخليفة أو الإمام الأعظم إما بجرح في عدالته أو بنقص في بدنه على ما يرى أبو الحسن الماوردي.
الجَرْحُ فِي العَدَالَةِ:
هو الفسق، وهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه
الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة (1).
فالأول متعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى كالزنا وشرب الخمر والغصب، فهذا نوع من الفسق يمنع من انعقاد الإمامة ويمنع من استدامتها، وإذا طرأ على من انعقدت له الإمامة انعزل بفسقه، فإذا عاد إلى العدالة لم يعد للإمامة إلا بعقد جديد على رأي الماوردي وبعض الفقهاء، وإن كان من يرى أنه يعود للإمامة دون عقد ولا بيعة ما دام يعزل فعلاً.
أما الضرب الثاني من الفسق فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تعترض فيتناول لها خلاف الحق، ومن رأي الماوردي وغيره أن فسق الاعتقاد حكمه حكم فسق الجوارح يمنع من انعقاد الإمامة ويمنع من استدامتها، على حين يرى بعض علماء البصرة أن الفسق المتعلق بالاعتقاد لا يؤدي إلى عزل الإمام، بل هناك من يرى أن الفسق بنوعيه لا يترتب عليه العزل ما لم يكن كفرًا.
وقد استدل من قال بعزل الخليفة بالكفر دون المعصية بحديث عُبادة بن الصامت قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا ، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَاّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا ، عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» .
(1)" الأحكام السلطانية ": ص 16.
والقائلون بالعزل يرون أن المقصود بالكفر هو المعصية، خصوصًا وقد ذكرت روايات أخرى للحديث بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، فما دام الخليفة أو الإمام قد أتى منكرًا محققًا يعلمه الناس من قواعد الإسلام فلهم أن ينكروا ذلك، وأن يتنازعوا ولاة الأمر في ولايتهم وأحقيتهم لها (1).
وجمهورا لفقهاء يرون، كقاعدة عامة، أن للمسلمين عزل الخليفة للفسق، ولأي سبب آخر يوجب العزل، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها.
وإذا كانت القاعدة عند جمهور الفقهاء أن للأمة خلع الخليفة أو عزله بسبب يوجبه، إلا أنهم اختلفوا في حالة ما إذا استلزم العزل فتنة، فرأى فريق أن يعزل الخليفة لسبب يوجبه ولو أدى ذلك إلى فتنة، ورأى فريق أنه إذا أدى العزل لفتنة احتمل أدنى المضرتين، ورأى الفريق الثالث أن لا يعزل الخليفة إذا استلزم العزل فتنة ولو أنه مستحق العزل بفعله (2).
(1)" نيل الأوطار ": جـ 7 ص 81 وما بعدها، " الخلافة ": ص 38 وما بعدها، " الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 16، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 4، " المسامرة ": جـ 2 ص 167.
(2)
" شرح الزرقاني ": جـ 8 ص 60. " حاشية ابن عابدين ": جـ 3 ص 429، " أسنى المطالب " و" حاشية الرملي ": جـ 4 ص 111، " كشاف القناع ": جـ 4 ص 95، " المواقف ": ص607، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 175، 176، " المحلى ": جـ 4 ص 175، 176 و " المحلى ": جـ 9 ص 361، 362.
ونرى أن أصح هذه الآراء الثلاثة هو الرأي الأول الذي يرى عزل الخليفة للفسق ولأي سبب آخر يوجب العزل ولو أدى العزل إلى فتنة، لأن هذا الذي سيؤدي إليه العزل ليس في حقيقته فتنة، وإنما حركة إصلاح وإعلاء لكلمة الحق وتمكين للإسلام وقطع لدابر الفساق، وما الفتنة إلا في إتيان الخليفة ما يوجب العزل والسكوت عليه، فتلك هي الفتنة التي إذا لم يوصد بابها تفتح منها كل يوم باب والتي تنتهي دون شك بالقضاء على الإسلام، وكل مسلم مطالب بإقامة الإسلام وحفظه.
ولقد دعا أصحاب الرأيين الأخيرين إلى ما اتجهوا إليه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حثه على ترك قتال الأئمة والخلفاء، وعلى عدم مفارقة الجماعة، مثل قوله:«مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» وقوله: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» ، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ:«لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» (*) ومثل حديث عبادة بن الصامت وقد أوردناه فيما سبق. وهذه الأحاديث يجب ألا تؤخذ على ظاهرها. وأن تفسر على هدى ما أوجبه القرآن والأحاديث الأخرى على كل مسلم من إقامة الإسلام والجهاد
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) انظر " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي:(33) كتاب الإمارة (17) باب خيار الأئمة وشرارهم، حديث رقم 1855، 3/ 1482. الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.
في إقامته بالنفس والمال، وعدم موادة من يكره الإسلام ويعمل على إضعافه، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتال الباغين فإذا فسرت هذه الأحاديث على هذا الوجه كان معناها وجوب الصبر على الأئمة فيما لا يضر بالإسلام وعامة المسلمين، وفيما لا يمس التحليل والتحريم، وفيما يستطاع فيه حمل الأئمة بالحسنى على التزام الحق والرجوع إليه.
ولقد استعرض ابن حزم هذه الأحاديث وغيرها مِمَّا يماثلها وَبَيَّنَ أنها لا تؤدي لما فهمه بعض الفقهاء منها، وأن من الواجب على المسلمين «إذا وقع شيء من الجور ولو قل أن يكلموا الإمام في ذلك ويمنعوه منه، فإن اقتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع» (1).
ولو أننا أخذنا رأي الفقهاء القائلين باحتمال أدنى المضرتين إذا أدى العزل لفتنة وفسرنا هذا الرأي على ضوء التجارب التاريخية وعلى الواقع الذي يعيش فيه السلام لتبين لكل ذي
(1)" الملل والنحل ": جـ 4 ص 171 - 176.