الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشاهدين، وقال آخرون تنعقد بواحد لأن الأمر فيها لا يحتاج لشهود (1).
وكل هذه الآراء لا تتفق مع قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، فلا يكون الأمر شورى إذا اكتفى برأي واحد أو اثنين أو خمسة، وإنما يجب أن يقوم على رأي كل من يستطاع أخذ رأيه، ولعل أقرب هذه الآراء جميعًا للصحة هو الرأي الذي كان يرى الاكتفاء برأي أهل الشورى في عاصمة الخلافة لصعوبة الحصول في الوقت المناسب على رأي الآخرين، ولكن ظروف العصر لا تجعل لهذا الرأي محلاً اليوم، فلا بد إذن أن يقوم الاختيار على رأي أهل الشورى في جميع البلاد الإسلامية ما دام في الاستطاعة أن يُبْدُوا رأيهم جميعًا في وقت مناسب، فإذا اجتمعوا جميعًا أو أكثرهم على اختيار شخص انعقدت له الإمامة باختيار الجميع أو كثرتهم.
وَحْدَةُ الإِمَامَةِ:
المقصود بوحدة الإمامة أنه لا يختار لرئاسة الدولة الإسلامية إلا شخص واحد وأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا دولة واحدة، وذلك أن الله - جَلَّ شَأْنُهُ - جعل المسلمين أمة موحدة
(1)" الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 5، 6، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 7، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 167، 171، " المسامرة ": جـ 2 ص 171، 173، " المواقف ": ص 606، " أسنى المطالب ": جـ 4 ص 109.
وما يكون للأمة الموحدة إلا رئيس واحد ودولة واحدة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
والله يوجب على المسلمين أن يتحدوا ويلتفوا حول راية القرآن ويحرم عليهم التفرق والاختلاف، ولا يتم اتحادهم ويمتنع تفرقهم واختلافهم إلا إذا كانوا أمة موحدة تكون دولة واحدة لها رئيس واحد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وما يصدق على المسلمين أنهم معتصمون بحبل الله غير متفرقين ولا مختلفين إذا كانوا شعوبًا متفرقة ودولاً متعددة.
ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاني في قوله: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» فالرسول يرى أن يكون للمسلمين جميعًا خليفة واحد وإذا بويع لاثنين قتل الآخر منهما حفظًا لوحدة الأمة، وهذا إذا لم ينزل هو عن التمسك ببيعته. وفي مثل هذا المعنى قوله:
«مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ [جَمِيعٌ] عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ» (*) وقوله: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ [جَمِيعٌ]، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» ،.
فهذه الأحاديث قاطعة في أن الأمة الإسلامية أمة موحدة تكون دولة واحدة لها رئيس واحد ولا يجوز للأمة بأي حال أن تتفرق وتتوزعها الحكومات والأئمة.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) قارن نفس الحديث بما ورد في صفحة 130 من هذا الكتاب.
وليس ثمة ما يمنع أن يتعدد المرشحون للخلافة، ولكن لا يصح أن يختار منهم جميعًا إلا واحدًا، وأهل الشورى مقيدون باختيارهم بأن يختاروا واحدًا توفرت فيه شروط الخلافة فإن توفرت الشروط في أكثر من واحد قدم أهل الشورى أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطًا، وليس لهم أن يختاروا من أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلى اختياره قبل أن يعرضوا الأمر عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وإن امتنع عن الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها وعدل إلى سواء ممن تتوفر فيه شروطها.
وإذا تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم أسنهما وإن لم يكن ذلك شرطًا، فإن بويع أصغرهما جاز، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما توجبه الظروف، فإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى كان الأعلم أحق.
وإذا تعين لأهل الشورى واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة ثم وجد بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه.
أما إذا ابتدأوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل فإن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبًا أو مريضًا أو كون المفضول أطوع الناس وأقرب إلى القلوب انعقدت بيعة المفضول وصحت إمامته، فإن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته وصحة إمامته فذهبت طائفة إلى أن بيعته لا تنعقد
لأن الاختيار إذا دعا إلى أولي الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مِمَّا ليس بأولى، وقال أكثر الفقهاء تجوز الإمامة وتصح البيعة ولا يكون وجود الأفضل مانعًا من إمامة المفضول إذا لم يكن مُقَصِّرًا عن شروط الإمامة لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط استحقاق الإمامة.
ولا يجوز أن تعقد الإمامة لشخصين، فإن حدث ذلك في عقد واحد فالعقد باطل لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه،، وإذا بطل العقد تعين أن يستأنف الاختيار، وكان على أهل الشورى أن يختاروا من جديد أحدهما أو شخصًا غيرهما.
وإذا عقدت الإمامة لشخصين في وقت واحد وكان العقد لكل منهما على انفراد، فالإمام في رأي الغزالي من انعقدت له البيعة من الأكثرين أي من اختاره أكثر أهل الشورى، أما جمهور الفقهاء فيرون أن الإمام هو من سبقت له البيعة سواء اختاره الكثيرون أو القليلون، فإن جهل السابق بطل العقدان واستؤنف الاختيار على رأي، أو أقرع على رأي آخر.
وَرَأْيُ حجة الإسلام الغزالي يتفق مع أوضاعنا العصرية. فيما تجري عليه من انعقاد النيابة لأعضاء مجالس الشورى بأكثر الأصوات، وفيما تأخذ به الدول الجمهورية من اختيار من نال أكثر أصوات الناخبين رئيسًا لها.
أما رأي القائلين بالأسبقية فهو رأي لا يقوم على سند
صحيح من المنطق أو الفقه إذ أن اختيار الإمام إنما هو من الأمة التي ينوب عنها أهل الشورى ولا يمكن عقلاً أو منطقًا أن يقال أهل الشورى اختاروا إذا اختار أحدهم أو بعضهم، وإنما يصح أن يقال إنهم اختاروا إذا اختار كلهم أو أكثرهم شخصًا بعينه، ولما كان إجماعهم غير متيسر وجب أن يختار أكثرهم أو يرضى بمن اختير، والبيعة ليست إلا مظهر الاختيار فيجب أن يبايع الأكثرون لتنعقد الإمامة، فمن لم يبايعه إلا القلة لم تنعقد إمامته خصوصًا إذا لم ترض الكثرة ببيعته أو بايعت غيره.
ويلاحظ أن الذين أجازوا وجود إمامين في وقت واحد إنما أجازوا ذلك للضرورة، وبعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه واستقلال بعض ذوي العصبية ببعض الأقطار والتفرد بحكمها لا لمصلحة الإسلام وإنما لاستغلال هذه الأقطار والاستعلاء على سكانها (1).
فالذين أجازوا تعدد الإمامة لم يجيزوا ذلك لأن الإسلام يجيزه، وإنما أجازوه للضرورة وهم يسلمون بوجوب الوحدة والاتحاد. وإذا قامت هذه الضرورة قديمًا على بعد المسافات وتعذر المواصلات وصعوبة تنفيذ الأحكام ومباشرة السلطان
(1)" الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 6، 7، " الأحكام السلطانية " للفراء: ص 8، 9، " الخلافة ": ص 48 - 51، " الملل والنحل ": جـ 4 ص 163 وما بعدها.
(*) فانها قد سقطت اليوم، ولم يعد ثمة مبرر لتفرق المسلمين وتمزيق وحدتهم بعد أن قربت المسافات وسهلت المواصلات وتطورت الأفكار وأصبح الضعفاء في هذه الدنيا مطمعًا للأقوياء وهدفًا للاستغلال والاستذلال، وبعد أن علم الناس كافة أن القوة والكرامة والسعادة والسيادة إنما هي في الوحدة والاتحاد، وأن الأمر للأمم والشعوب وليس للحكام والأفراد، وبعد أن بلغت الأمم من الرشد ما هيأ لها أن تتخلص من استبداد الأفراد واستغلال الأسر وذوي العصبيات.
وإذا كانت الأمم الأوروبية تحاول أن تحمي نفسها من الضعف بتكوين دولة موحدة منها على ما بينها من ترات وأحقاد، وعلى ما بينها من اختلاف في اللغات والآداب والمذاهب الدينية والاجتماعية، فأولى بالشعوب الإسلامية أن تكون دولة موحدة أو واحدة، وَحَّدَهَا الدِّينُ والتاريخ والثقافة، وألف بين قلوب أبنائها الإسلام.
وإذا كانت الأمم الأوروبية تستجيب فيما تحاول لمصلحتها فإن الأمم الإسلامية حينما تكون دولة واحدة إنما تستجيب للمصلحة وتلبي أوامر الدين، وتنشد القوة والعزة والكرامة، وتتخلص من الاستذلال والاستغلال، وتحمي نفسها من الاستبداد والاستعلاء، وتمهد طريق العودة إلى قيادة العالم وتوجيهه إلى الخير والسعادة.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) في الكتاب المطبوع أعيد تكرار الجملة الأخيرة من الصفحة السابقة: في السطر الأول من هذه الصفحة: (وتعذر المواصلات وصعوبة تنفيذ الأحكام ومباشرة السلطان).