الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وِلَايَةُ العَهْدِ:
تختلف ولاية العهد عن الاستخلاف بعض الشيء وإن كان حكمها واحدًا، فالأصل أن الاستخلاف لا يكون إلا عندما تحضر الوفاة الخليفة، فيستخلف غيره أي يرشحه للخلافة كما فعل أبوبكر وعمر فإنهما لم يستخلفا إلا لما حضرتهما الوفاة، ولا يقصد الخليفة من الاستخلاف إلا توجيه أهل الحل والعقد إلى الرجل الصالح للخلافة على أن لا يألو الخليفة جهدًا في الاختيار، وأن لا يختار من ذوي قرباه. أما ولاية العهد فتكون والخليفة في صحته وعافيته، وتحدث غالبًا قبل وفاته بزمن طويل أو على أثر توليه الخلافة، ولا يقصد من ولاية العهد إلا ايثار ذوي القربى بالخلافة، وحفظ الخلافة في أسرة بعينها دون رعاية لمصلحة الأمة.
وإذا كان الاستخلاف سُنَّةً حَسَنَةً سَنَّهَا أبو بكر وتبعه فيها عمر، فان ولاية العهد بدعة ابتدعها معاوية، ليمكن لولده يزيد الفاسق من رقاب المسلمين، وليحول الخلافة مُلْكًا عَضُوضًا مستقرًا في غلمان بني أمية وَفُسَّاقِهَا.
ولقد بذل معاوية في سبيل أخذ العهد لولده يزيد ما بذل من الدهاء والخديعة والرشوة، ثم لجأ أخيرًا إلى التهديد والإكراه والادعاء بأن كبار أبناء الصحابة كالحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بايعوا يزيد وهم لم يبايعوه، حتى إذا ظن أنه مكن لولده يزيد كان قد مكن للفساد والفتنة، وأقام أمر الأمة
الإسلاميةعلى المحاباة والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَحَوَّلَ الحكم الفاضل العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة وَالصَّغَارِ.
ومن المحتمل أن يكون معاوية قد أدرك نتائج فعلته، ومن المحتمل أن تكون قد فاتته، ولكن الذي لاشك فيه أن كل من جاءوا بعده إلى عصرنا هذا قد عملوا بسنته وتشبثوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة اثمها واثم من عمل بها إلى يوم القيامة إن لم يكن قد اجتهد فأخطأ.
وولاية العهد ليست إلا استخلافًا لمن يلي الخليفة القائم على ما بين الاستخلاف وولاية العهد من فروق، فإذا كان الاستخلاف في حقيقته ترشيحًا للخلافة فإن ولاية العهد ليست إلا ترشيحًا للخلافة أيضا، وليس لها في ذاتها أي أثر شرعي، فلا يمكن أن يكون ولي العهد إماما إلا باختيار الأمة له بعد وفاة الإمام الذي عهد إليه، أما الاختيار الذي يحدث في حياة العاهد فليس اختيارًا صحيحًا، لأنه يحدث عادة تحت التهديد والإكراه، ولأنه سابق لأوانه، إذ أن ولي العهد لن يصبح خليفة إلا بعد وفاة الخليفة الذي عهد إليه وإلا اجتمع خليفتان، وربما لا تتوفر فيه شروط الخلافة وقت العهد إليه كأن يكون صغيرًا، أو لا تتوفر فيه وقت توليته الخلافة كأن يكون فاسقًا، وفضلاً عن ذلك فإن الإمام وهو نائب الأمة ليس له أن يأخذ
الأمة التي أنابته في إدارة شؤونها والقيام على أمرها باختيار من ينوب عنها بعده، فذلك خروج عن حدود نيابته، وتدخل منه فيما هو من شأن الأمة الخاص، خصوصًا أن النيابة عن الأمة تستلزم شروطًا خاصة يجب توفرها في شخص النائب، والقاعدة أنه إذا روعي في النيابة شخصية النائب فليس للنائب أن ينيب عنه أحدًا كذلك فإن النيابة مرتبطة بالحاجة إليها وما دامت الأمة في غير حاجة إلى من ينوب عنها بقيام خليفة على أمرها فليس ثمة ما يدعو لاختيار خلف له لانعدام الحاجة إليه، فإذا توفي الإمام القائم قامت الحاجة لاختيار غيره وكان للأمة أن تختار من تراه صالحًا للنيابة عنها.
وقد تَجَوَّزَ الفقهاء في ولاية العهد كما تجوزوا في الاستخلاف واعتبروا ولاية العهد عقدًا للإمامة، ولكنهم اشترطوا أن يعهد الإمام إلى من هو أحق بالإمامة وأقوم بها، ثم اختلفوا بعد ذلك، ففريق اشترط أن يرضى أهل الاختيار لتلزم البيعة الأمة، لأن اختيار الخليفة حق للأمة فلا تلتزم الأمة بخليفة إلا إذا رضيته واختارته، وفريق رأى لزوم البيعة للأمة باختيار الخليفة القائم دون حاجة إلى أن تختار هي، وحجة هذا الفريق أن بيعة أبي بكر لعمر لزمت الأمة ولم تتوقف على رضائها، وهذا خطأ لا شك فيه أو مغالطة في التدليل - كما بَيَّنَّا ذلك من قبل - قصد منها إرضاء الملوك والخلفاء وتبرير خروجهم على أحكام الإسلام.
واختلفوا بعد ذلك في جعل ولاية العهد للأبناء، فالذين
يستلزمون الرجوع للأمة ويجعلون البيعة متوقفة على رضاها واختيارها يجيزون أن يعهد الخليفة إلى من ينتسب إليه ببنوة إذا كان المعهود إليه على صفات الأئمة، وحجتهم أن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد باختيار المسلمين للمعهود إليه، ومن ثم تنتفي التهمة عن الخليفة العاهد.
أما الذين يرون انعقاد البيعة بالعهد ولا يستلزمون الرجوع للأمة فيوجبون في حالة العهد الى ولد أو والد الرجوع للأمة، ولا يجيزون للخليفة أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيروه أهلاً لها، فيصح حينئذ عقد البيعة. على أن من هؤلاء من يرى أن للخليفة أن ينفرد بعقد البيعة لولده أو والده ويكون عقده صحيحًا، وهم بعد ذلك قسمان: قسم يرى رضاء أهل الاختيار بعد صحة العهد معتبرًا في لزومه للأمة، وقسم يرى العهد ملزمًا للأمة دون حاجة للرجوع إليها.
والجميع يشترطون رضاء المعهود إليه به، ولكنهم اختلفوا في زمان القبول ففريق رأى أن القبول لا يكون إلا بعد وفاة العاهد في الوقت الذي يصح فيه للمعهود إليه أن يتولى الأمر، وفريق رأى أن القبول يكون فيما بين العهد والموت.
ويشترط في المعهود إليه اتفاقًا توفر شروط الإمامة فيه وقت العهد إليه، واستدامتها إلى ما بعد موت العاهد، فإن كان المعهود إليه صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا عدلاً وقت