الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرِّسَالَةُ عَمِلْتُهَا رَدّاً علَىالرَّافِضَةِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُم كَانُوا يَحْضُرُوْنَ مَجْلِسَ بَعْضِ الوُزَرَاءِ، وَكَانُوا يُغْلُوْنَ فِي حَالِ عَلِيٍّ، فَعَمِلْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ (1) .
قُلْتُ: قَدْ بَاءَ بِالاخْتِلَافِ عَلَى عَلِيٍّ الصَّفْوَةُ، وَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَسَائِرُهَا كَذِبٌ بَيِّنٌ.
78 - هِشَامٌ المُؤَيَّدُ بِاللهِ بنُ المُسْتَنْصِرِ *
صَاحِبُ الأَنْدَلُسِ، بَايَعُوْهُ صَبِيّاً، فَقَامَ بِتَشْيِيْدِ الدَّوْلَةِ الحَاجِبُ المَنْصُوْرُ (2) مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عَامِرٍ، فَكَانَ مِنْ رِجَالِ الدَّهْرِ رَأْياً، وَحَزْماً، وَدَهَاءً، وَشَجَاعَةً، وَإِقدَاماً - أَعْنِي: الحَاجِبَ - فَعَمَدَ أَوَّلَ تَغَلُّبِهِ إِلَى خَزَائِنِ كُتُبِ الحَكَمِ، فَأَبْرَزَ مَا فِيْهَا بِمِحْضَرٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَأَمَرَ بِإِفْرَازِ مَا فِيْهَا مِنْ تَصَانِيْفِ الأَوَائِلِ وَالفَلاسِفَةِ حَاشَا كُتُبِ الطِّبِّ وَالحِسَابِ، وَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهَا، فَأُحْرِقَتْ، وَطَمَرَ بَعْضَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ تَحَبُّباً إِلَى العَوَامِّ، وَتَقْبِيْحاً لِمَذْهَبِ الحَكَمِ (3) .
وَلَمْ يَزَلِ المُؤَيَّدُ بِاللهِ هِشَامٌ غَائِباً عَنِ النَّاسِ لَا يَظْهَرُ وَلَا يُنَفِّذُ أَمْراً.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي عَامِرٍ مِمَّنْ طَلَبَ العِلْمَ وَالأَدَبَ، وَرَأَسَ وَتَرَقَّى، وَسَاعَدَتْهُ المَقَادِيْرُ، وَاسْتَمَالَ الأُمَرَاءَ وَالجَيْشَ بِالأَمْوَالِ، وَدَانَتْ لِهَيْبَتِهِ الرِّجَالُ،
(1) انظر " ميزان الاعتدال " 4 / 518، و" لسان الميزان " 7 / 38. قال ابن حجر: فقد اعترف بالوضع.
(*) جذوة المقتبس 17، بغية الملتمس 21، الكامل لابن الأثير 8 / 677 - 679، النبراس 22، تاريخ ابن خلدون 4 / 147، المغرب في حلي المغرب 1 / 193 - 196، البيان المغرب 2 / 253 و3 / 197، نفح الطيب 1 / 396.
(2)
تقدمت ترجمته برقم (7) .
(3)
انظر الصفحة 15 تعليق رقم (2 و3)
وَتَلَقَّبَ بِالمَنْصُوْرِ، وَاتَّخَذَ الوُزَرَاءَ لِنَفْسِهِ، وَبَقِيَ المُؤَيَّدُ مَعَهُ صُوْرَةً بِلَا مَعْنَى، لأَنَّ المُؤَيَّدَ كَانَ أَخْرَقَ ضَعِيْفَ الرَّأْي.
وَكَانَ لِلْمَنْصُوْرِ نِكَايَةٌ عَظِيْمَةٌ فِي الفِرَنْجِ، وَلَهُ مَجْلِسٌ فِي الأُسْبُوْعِ، يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِيْهِ الفُضَلَاءُ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَيُكْرِمُهُم، وَيَحْتَرِمُهُم، وَيَصِلُهُمْ، وَيُجِيْزُ الشُّعَرَاءِ، وَافتَتَح عِدَّةَ أَمَاكِنَ، وَمَلأَ الأَنْدَلُسَ سَبْياً وَغَنَائِمَ حَتَّى بِيْعَتْ بِنْتُ عَظِيْمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّوْمِ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ بِعِشْرِيْنَ دِيْنَاراً.
وَكَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ العَدُوِّ، نَفَضَ مَا عَلَيْهِ مِنْ غُبَارِ المَصَافِّ، ثُمَّ يَجْمَعُهُ وَيَحْتَفِظُ بِهِ، فَلَمَّا احْتُضِرَ أَمَرَ بِمَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُذَرَّ عَلَى كَفَنِهِ.
وَغزَا نَيِّفاً وَخَمْسِيْنَ غَزْوَةً، وَتُوُفِّيَ مَبطوناً شَهِيْداً وَهُوَ بِأَقصَى الثَّغْر، بقُرْبِ مَدِيْنَةِ سَالِمٍ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِيْنَ وَثَلَاثِ مائَةٍ.
وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ حَاجِباً للمُؤَيَّدِ بِاللهِ، فَكَانَ يَدخُلُ عَلَيْهِ القَصرَ، وَيَخْرُجُ فَيَقُوْلُ: أَمَرَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بكذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، فَلَا يُخَالِفُهُ أَحَدٌ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ، وَكَانَ يَمْنَعُ المُؤَيَّدَ مِنَ الاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَإِذَا كَانَ بَعْد مُدَّةٍ ركّبَه، وَجَعَلَ عَلَيْهِ بُرْنُساً، وَأَلبس جَوَارِيه مثلَه، فَلَا يُعْرَفُ المُؤَيَّدُ مِنْ بَيْنِهِنَّ، فَكَانَ يَخْرُجُ يَتَنَزَّهُ فِي الزَّهْرَاء، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى القصرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَة.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ الحَاجِبُ ابْنُ أَبِي عَامِر، قَامَ فِي مَنْصِبِهِ ابْنُهُ المُلَقَّب بِالمُظَفَّر: أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ مُحَمَّدٍ، وَجرَى عَلَى مِنْوَالِ وَالِدِه، فَكَانَ ذَا سَعْدٍ عَظِيْمٍ، وَكَانَ فِيْهِ حَيَاءٌ مُفْرِطٌ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ، لَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّجَعَان المُذْكُورِين، فَدَامَتِ الأَنْدَلُسُ فِي أَيَّامه فِي خَيْرٍ وَخِصْبٍ وَعِزٍّ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي صَفَرٍ، سَنَة تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَثَلَاثِ مائَةٍ (1) .
(1) انظر " نفح الطيب " 1 / 423، و" الكامل " 8 / 678، و" الذخيرة " ق 4 / ج 1 / 78 - 86.
وقَام بتدبِير دَوْلَةِ المُؤَيَّدِ بِاللهِ النَّاصرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو المُظَفَّر المَذْكُوْر المَعْرُوف بشنشولَ (1) ، فَعتَا وَتَمَرَّدَ، وَفسقَ وَتَهَتَّك، وَلَمْ يَزَلْ بِالمُؤَيَّد بِاللهِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَه مِنَ الخِلَافَةِ، وَفوَّضهَا إِلَى شَنشولَ هَذَا مُكْرَهاً، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَة تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَثَلَاثِ مائَةٍ.
وَمن قصَة شنشول - وَيُقَالُ: شَنجولُ وَهُوَ أَصحّ -:أَنَّ أَبَاهُ المَنْصُوْر غَزَا غَزْوَةَ البررت، وَهُوَ مَكَانٌ مضيقٌ بَيْنَ جَبَلَين لَا يمْشِيه إِلَاّ فَارسٌ بَعْد فَارس، فَالتَقَى الرُّوْمُ هُنَاكَ، ثُمَّ نَزَلَ، وَأَمر برفعِ الخيَامِ وَبنَاءِ الدُّورِ وَالسُّور، وَاخْتَطَّ قَصْراً لِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ وَمَوْلَاهُ وَاضِحٍ بِالنِّيَابَةِ عَلَى البِلَادِ، يَقُوْلُ فِي كِتَابِهِ:
وَلَمَّا أَبصرتُ بلَاد أَرغون، اسْتَقصرتُ رَأْي الخُلَفَاءِ فِي تَرْكِ هَذِهِ المَمْلَكَة العَظِيْمَة.
فَلَمَّا عَلِمَتِ الرُّوْمُ بِعَزْمِه، رَغِبُوا إِلَيْهِ فِي أَدَاء القطِيْعَةِ، فَأَبَى عَلَيْهِم إِلَاّ أَنْ يهبُوهُ ابْنَةَ مَلِكِهِم الَّذِي مِنْ ذُرِّيَّة هِرقل، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَعَارٌ.
فَالتقوهُ فِي أُمَمٍ لَا تُحْصَى فِي وَسَطِ بِلَادهم، وَهُوَ فِي عِشْرِيْنَ أَلْف فَارس، فَكَانَ للمُسْلِمِيْنَ جَوْلَةٌ، فثبتَ المَنْصُوْرُ وَولدَاهُ، وَكَاتبه ابْنُ برد، وَالقَاضِي ابْنُ ذَكْوَان فِي جَمَاعَةٍ، فَأَمَرَ أَنْ تُضْرَبَ خَيْمَةٌ لَهُ، فَرَآهَا المُسْلِمُوْنَ، فَتَرَاجَعُوا، فَهَزَمَ اللهُ الكَافرينَ، وَنَزَلَ النَّصْرُ، ثُمَّ حَاصَرَ مَدِينَةً لَهُم، فَلَمَّا هَمَّ بِالظَّفَر، بَذَلُوا لَهُ ابْنَةَ المَلِكِ، وَكَانَتْ فِي غَايَة الجَمَال وَالعَقْلِ، فَلَمَّا شَيَّعَهَا أَكَابِرُ دَوْلَتهَا، سَأَلُوهَا البِرَّ وَالعنَايَةَ بِهِم، فَقَالَتْ: الجَاهُ لَا يُطْلَبُ بِأَفخَاذِ النِّسَاء بَلْ بِرِمَاحِ الرِّجَال، فَوَلَدَتْ لِلْمَنْصُوْرِ شنجولَ هَذَا، وَهُوَ لَقَبٌ لِجَدِّه لأُمِّهِ لُقِّب هُوَ بِهِ.
وَمن مفَاخر المَنْصُوْر: أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امرَأةٌ عِنْدَ
(1) انظر " نفح الطيب " 1 / 424 و" الكامل " 8 / 678، 679، و" تاريخ " ابن خلدون 4 / 148، و" البيان المغرب " 3 / 44، وأعمال الاعلام: 91، و" جذوة المقتبس "17.
الْقصر، فَقَالَتْ: يَا مَنْصُوْرُ! يَفْرَحُ النَّاسُ وَأَبكِي؟ إِنَّ ابْنِي أَسِيْرٌ فِي بِلَادِ الرُّوْم.
فثنَى عِنَانَه وَأَمَرَ النَّاسَ بِغَزْو الجِهَةِ الَّتِي فِيْهَا ابْنُهَا، وَقَدْ عَصَاهُ مرَّةً وَلدٌ لَهُ، فَهَرَبَ، وَلجأَ إِلَى مَلِكِ سَمّورَةَ، فَغَزَاهَا المَنْصُوْرُ، وَحَاصَرَهَا، وَحَلَفَ أَلَاّ يَرْحَلَ إِلَاّ بِابنِهِ، فَسَلَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ بِقُرْبِ سَمُّورَةَ.
وَمن رُجْلَة المَنْصُوْرِ: أَنَّهُ أُحِيْطَ بِهِ فِي مَدِيْنَةِ فُتَّةَ، فَرَمَى بِنَفْسِهِ مِنْ أعَلَى جَبَلِهَا، وَصَارَ فِي عَسْكَرِهِ، فَبَقِيَ مُفْدَعَ (1) القَدَمِين لَا يَرْكَبُ، إِنَّمَا يُصْنَعُ لَهُ مَحْمَلٌ عَلَى بَغْلٍ يُقَادُ بِهِ فِي سَبْعِ غَزَوَاتٍ وَهُوَ بَضْعَةُ لَحْمٍ، فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الهِمَّة العليَّة، وَالشَّجَاعَةِ الزَّائِدَة.
وَكَانَ مَوْتُه آخِرَ الصَّلَاحِ وَأَوّلَ الفَسَادِ بِالأَنْدَلُسِ، لأَنَّ أَفعَالَه كَانَتْ حَسَنَةً فِي الحَالِ، فَاسِدَةً فِي المآلِ، فَكَانَتْ قبله القبَائِلُ، كُلُّ قَبِيْلَةٍ فِي مَكَانٍ، فَإِذَا كَانَ غَزْو، وَضعتِ الخُلَفَاءُ عَلَى كُلِّ قَبِيْلَةٍ عَدَداً، فيغزُونَ، فَلَمَّا اسْتولَى المَنْصُوْرُ، أَدخل مِنْ صِنْهَاجَة وَنَفْزنَ عِشْرِيْنَ أَلْفاً إِلَى الأَنْدَلُسِ، وَشَتَّتَ العَرَبَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَخْمَلَهُم، وَأَبقَى عَلَى نَفْسه لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ بُيُوتِ المُلْكِ، ثُمَّ قَتَلَ فِي بَنِي أُمَيَّةَ جَمَاعَةً وَاحتَاطَ عَلَى المُؤَيَّدِ، وَمَنَعَهُ مِنَ الاجْتِمَاعِ بِأَحَدٍ، وَرُبَّمَا أَخْرَجَهُ لَهُم فِي يَوْم العِيْدِ لِلهَنَاء، فَلَمَّا مَاتَ المَنْصُوْرُ وَابنُهُ المُظَفَّر أَبُو مَرْوَانَ، انْخَرَمَ النِّظَامُ، وَشرع الفسَادُ، وَهَلَكَ النَّاسُ، فَقَامَ شنجولُ وَطغى وَبغى، وَفعل العظَائِمَ، وَالمُؤَيَّدُ بِاللهِ تَحْتَ الاحْتِجَارِ، فَدَسَّ عَلَى المُؤَيَّدِ مِنْ خَوّفه وَهدّده، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُوَلِّه عهدَهُ، ثُمَّ أَمرَ شنجول القُضَاةَ وَالأَعلَام بِالمُثُولِ إِلَى القصرِ الَّذِي بِالزَّهرَاءِ،
(1) الفدع محركة: عوج وميل في المفاصل، كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها، لا يستطاع بسطها معه، وأكثر ما يكون في الرسغ من اليد والقدم.
فَأَخْرَجَ لَهُم المُؤَيَّدَ، وَأَخْرَجَ كِتَاباً قُرِئَ بَيْنهُم بِأَنَّ المُؤَيَّد قَدْ خَلَعَ نَفْسه، وَسَلَّمَ الأَمْرَ إِلَى النَّاصرِ لِدِيْنِ اللهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي عَامِرٍ.
فَشَهِدَ مَنْ حَضَرَ بِذَلِكَ علَى المُؤَيَّدِ (1) ، وَأَخَذَ النَّاصرُ هَذَا فِي التهتُّك وَالفِسْقِ، وَكَانَ زِيُّهُم المكشوفَة، فَأَمَرَ جُنده بِحَلْقِ الشَّعر، وَلبس العَمائِم تَشَبُّهاً ببنِي زِيرِي (2) ، فَبقُوا أَوْحَشَ مَا يَكُونُ وَأَسمَجَهُ، لفُّوا العَمَائِم بِلَا صنعَةٍ، وَبقُوا ضُحْكَةً، ثُمَّ سَارَ غَازياً، فَجَاءهُ الخَبَرُ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بنَ هِشَامِ بن عَبْدِ الجَبَّارِ الأُمَوِيّ ابْنَ عَمِّ المُؤَيَّد بِاللهِ قَدْ توثّب بِقُرْطبَة، وَهدم الزَّهرَاءَ، وَأَقَامَ مَعَهُ القَاضِي ابْنَ ذَكْوَانَ، وَأَنْفَقَ الأَمْوَالَ فِي الشُّطَّار، فَاجْتَمَعَ لَهُ أَرْبَع مائَة رَجُلٍ، وَأَخَذَ يُرتِّبُ أَموره فِي السِّرِّ، ثُمَّ ركب، وَقصدَ دَارَ وَالِي قُرطبَةَ، فَقطع رَأْسَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الأُسْتَاذُ جُوذَرُ الكَبِيْر.
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ هِشَام: أَيْنَ المُؤَيَّد بِاللهِ؟ أَخْرِجْهُ.
فَقَالَ: أَذَلَّ نَفْسه، وَأَذلَّنَا بضَعْفِه فَخَرَجَ يَطْلُبُ أَمَانَهُ.
فَقَالَ: أَنَا إِنَّمَا قُمْتُ لأُزيل الذُّلَّ عَنْكَ، فَإِن خَلعتَ نَفْسَكَ طَائِعاً، فلك كُلُّ مَا تُحِبُّ، ثُمَّ طلبَ ابْنَ المَكْوِيِّ (3) الفَقِيْه، وَابنَ ذَكْوَانَ (4) القَاضِي وَالوُزَرَاء، فَدَخَلُوا عَلَى
(1) انظر " نفح الطيب " 1 / 424 - 426، و" الكامل " 8 / 679، و" تاريخ " ابن خلدون 4 / 148، 149.
(2)
هم من البربر، وكانوا ملوك وأمراء إفريقية وما والاها من بلاد المغرب، وجدهم هو الأمير زيري بن مناد، الحميري الصنهاجي، ومن أولاده أبو الفتوح بلكين بن زيري جد باديس بن المنصور بن بلكين، وباديس سترد ترجمته في هذا الجزء برقم (126) .
وانظر تراجم بني زيري في " وفيات الأعيان " 1 / 265، 266 و286، 287، و304 - 306، و2 / 343، 344، و5 / 233 - 235.
وانظر " معجم الأنساب والاسرات الحاكمة ": 109، و" تاريخ " ابن خلدون 6 / 155، وما بعدها.
(3)
هو أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم، المعروف بابن المكوي، سترد ترجمته برقم (120) .
(4)
هو أبو العباس أحمد بن محمد ذكوان القاضي، متوفى سنة 413، مترجم في " المغرب في حلي المغرب " 1 / 215، 216، و" بغية الملتمس ":174.
المُؤَيَّد فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِتَفْوِيض الأَمْرِ إِلَى ابْنِ عَمِّه هَذَا، وَضعف أَمرُ شنجول، وَظفر بِهِ مُحَمَّدٌ، فَذَبَحه فِي أَثْنَاء هَذَا العَامِ، وَلَهُ بِضْعٌ وَعِشْرُوْنَ سَنَةً (1) .
قَالَ ابْنُ أَبِي الفيَاض: كَانَ خِتَان شُنشول فِي سَنَةِ ثَمَانِيْنَ وَثَلَاثِ مائَةٍ، فَانتهت النَّفقَةُ يَوْمَئِذٍ إِلَى خَمْس مائَة أَلْف دِيْنَار، وَخَتَنُوا مَعَهُ خَمْسَ مائَةٍ وَسبعَةً وَسَبْعِيْنَ صَبِيّاً.
وأَمَا مُحَمَّدُ بنُ هِشَام بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ بن النَّاصر لِدِيْنِ اللهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فتلقَّب بِالمَهْدِيّ (2) ، وَنصبَ الدِّيْوَان، وَاسْتخدمَ، فَلَمْ يَبْقَ زَاهدٌ وَلَا جَاهِلٌ وَلَا حجَّامٌ حَتَّى جَاءهُ، فَاجْتَمَعَ لَهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِيْنَ أَلْفاً، وَدَانت لَهُ الوُزَرَاءُ وَالصَّقَالِبَةُ، وَبَايعُوهُ، فَأَمر بِنَهْب دُورِ آل المَنْصُوْر أَبِي عَامِر، وَانتهبَ جَمِيْعَ مَا فِي الزَّهْرَاءِ مِنَ الأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ، وَقُلعتِ الأَبْوَابُ.
فَقِيْلَ: وَصل مِنْهَا إِلَى خِزَانَة المَهْدِيّ هَذَا خَمْسَةُ آلَاف أَلف دِيْنَار سِوَى الفِضَّة، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الجُمُعَة بقُرطُبَة، وَقُرِئ كِتَابهُ بلعنَة شنشول، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَربه، فَكَانَ القَاضِي ابْنُ ذَكْوَان يُحرِّضُ عَلَى قِتَاله، وَيَقُوْلُ: هُوَ كَافِرٌ.
وَكَانَ شنشول قَدِ اسْتَعَان بِعَسْكَر الفِرنج لأَنَّ أُمَّه مِنْهُم، وَقَامَ مَعَهُ ابْنُ غومِش، فَجَاءَ إِلَى قُرطبَة، فتسحّب جُنده.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ غومش: ارْجِع بِنَا قَبْلَ أَنْ تُؤخذ.
فَأبَى، وَمَال إِلَى دير شربش جوعَانَ سَهرَان، فَأَنزل لَهُ رَاهبٌ دجَاجةً وخُبزاً فَأَكل وَشرب وَسَكِرَ، وَجَاءَ لِحَرْبِهِ ابْنُ عَمِّ المَهْدِيِّ وَحَاجِبُه مُحَمَّدُ بنُ المُغِيْرَةِ الأُمَوِيُّ، فَقبضَ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ الجَزَعُ، وَقبَّل قَدَمَ ابْنِ المُغِيْرَةِ.
وَقَالَ: أَنَا
(1) انظر " نفح الطيب " 1 / 426، و" الكامل " 8 / 679، و" تاريخ " ابن خلدون 4 / 149، 150.
(2)
انظر " الكامل " 8 / 679، 680 و" تاريخ " ابن خلدون 4 / 149، 150، و" جذوة المقتبس " 18، و" نفح الطيب " 1 / 426، و" بغية الملتمس " 22، 23.
فِي طَاعَةِ المَهْدِيّ، ثُمَّ ضُربت عُنُقُه، وَطيف بِرَأْسِهِ: هَذَا شنشول المأَبُوْنُ المَخْذُول.
فَلَمَّا اسْتوثق الأَمْرُ للمَهْدِيّ، أَظهرَ مِنَ الخَلَاعَة وَالفسَادِ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِله شنشول.
قَالَ الحُمَيْدِيّ (1) :فَقَامَ عَلَى المَهْدِيّ ابْنُ عَمِّهِ هِشَامُ بنُ سُلَيْمَانَ بن النَّاصر لِدِيْنِ اللهِ فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ، وَقَامَ مَعَهُ البَرْبَرُ، وَأُسر هِشَام هَذَا، فَقَتَلَهُ المَهْدِيّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: زَادَ المَهْدِيُّ فِي الغَيِّ وَأَخْذِ الْحرم وَعمد إِلَى نَصْرَانِي يُشبه المُؤَيَّد بِاللهِ، فَفَصَده حَتَّى مَاتَ، وَأَخرجهُ إِلَى النَّاس، وَقَالَ: هَذَا المُؤَيَّد.
فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَه (2) ، وَقَدِمَ عَلَى المَهْدِيِّ رَسُوْلُ فُلفلِ بنِ سَعِيْدٍ الزَّنَاتِي صَاحِب طَرَابُلُس دَاخلاً فِي طَاعَتِهِ، يلتمسُ إِرسَالَ سِكَّةٍ عَلَى اسْمِه لِيُعينَه عَلَى بَادِيس، فَغلبَ بَادِيسُ عَلَى طَرَابُلُس وَتَمَلَّكَهَا، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَمِّه حَمَّاد ليُغْرِيَ القبَائِل عَلَى المَهْدِيّ لخِذْلَانه، قَدْ هَمَّ بِالغَدْرِ بِالبَرْبَرِ الَّذِي حَوْلَهُ، وَلوَّحَ بِذَلِكَ، فَهَذَا سَبَبُ خُرُوْجِهِم عَلَيْهِ مَعَ ابْنِ عَمِّه هِشَامِ بن سُلَيْمَانَ فَقتلُوا أَوَّلاً وَزيرَيه: مُحَمَّدَ بن دُرِّي، وَخَلَفَ بنَ طَرِيْف، وَأَحرقُوا السَّرَّاجين، وَعبرُوا القنطرَةَ، ثُمَّ تَخَاذلُوا عَنْ هِشَامٍ حَتَّى قُتِلَ، وَتَحيَّزَ جُلُّهُم إِلَى قَلْعَةِ رَبَاح، فَهَرَبَ مَعَهُم سُلَيْمَانُ بنُ الحَكَمِ بنِ سُلَيْمَانَ بن النَّاصر، وَهُوَ ابْنُ أَخِي هِشَامٍ المَقْتُولِ، فَبَايَعُوهُ، وَسَمَّوهُ: المُسْتَعِيْن بِاللهِ (3) ، وَجَمَعُوا لَهُ مَالاً، حَتَّى صَارَ لَهُ نَحْوٌ مِنْ مائَةِ أَلْف دِيْنَار، فَتَوَجَّه بِالبَرْبَرِ إِلَى طُلَيْطُلَة، فَتَمَلَّكَهَا، وَقَتَلَ وَالِيَهَا، فَجَزِعَ المَهْدِيُّ، وَاعْتَدَّ لِلْحِصَار، وَتَجَرَّأَت عَلَيْهِ
(1) في " جذوة المقتبس "18. وانظر " الكامل " لابن الأثير 8 / 680.
(2)
انظر " الكامل " 8 / 679.
(3)
سترد ترجمته عقب هذه الترجمة مباشرة.
العَامَّةُ، ثُمَّ بعثَ عَسْكَراً، فَهَزمهُم سُلَيْمَانُ المُسْتَعِيْن.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى شَارف قُرْطُبَة، فَبرز لِحَرْبِهِ عَسْكَرُ المَهْدِيِّ، فَنَاجَزَهُم سُلَيْمَانُ، فَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْهُم فِي الوَادِي أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، وَكَانَتْ وَقعَة هَائِلَة هَلَكَ فِيْهَا خَلْقٌ مِنَ الأَخْيَار وَالأَئِمَّةِ المُؤَذِّنِيْن، فَلَمَّا أَصْبَحَ المَهْدِيُّ بِاللهِ، أَخرج لِلنَّاسِ الخَلِيْفَةَ المُؤَيَّد بِاللهِ هِشَامَ بنَ الحَكَمِ، الَّذِي كَانَ أَظْهَرَ لَهُم مَوْتَهُ، فَأَجْلَسَهُ لِلنَّاسِ، وَأَقبلَ قَاضِي الجَمَاعَةِ يَقُوْلُ:
هَذَا أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، وَإِنَّمَا مُحَمَّدُ بنُ هِشَام بنِ عَبْدِ الجَبَّارِ نَائِبُه.
فَقَالَ لَهُ البَرْبَرُ: يَا ابْنَ ذَكْوَانِ، بِالأَمْسِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاليَوْمَ تُحييه؟!
ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ قُرْطُبَة إِلَى المُسْتَعِيْن سُلَيْمَانَ، فَأحسنَ مَلقَاهُم وَاختفى مُحَمَّد المَهْدِيّ، وَاسْتوثق أَمرُ المُسْتَعِيْن، وَدَخَلَ قصرَ الإِمَارَةِ، وَوَارَى النَّاسُ قَتْلَاهُم، فَكَانُوا نَحْواً مِنِ اثنَيْ عشرَ أَلْفاً، ثُمَّ تسحّب المَهْدِيُّ إِلَى طُلَيْطُلة، فَقَامُوا مَعَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الفِرنجِ، وَوعدَهُم بِالأَمْوَال، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ عَظِيْم، وَهُوَ أَوّلُ مَالٍ انْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ المَالِ بِالأَنْدَلُسِ إِلَى الفِرنج، وَكَانَتِ الثُّغُوْرُ كُلُّهَا بَاقِيَةً عَلَى طَاعَة المَهْدِيِّ، فَقَصَدَ قُرْطُبَة فِي جحفلِ عَظِيْمٍ، فَالتَقَى الجَمْعَان عَلَى عقبَة الْبَقر عَلَى بَرِيْدٍ مِنْ قُرْطُبَةَ، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ قِتَال، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَانُ المُسْتَعِيْنُ، وَاسْتَوْلَى المَهْدِيُّ عَلَى قُرْطُبَة ثَانياً، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى قِتَالِ جَمَاهِيْرِ البَرْبَر، فَالتقَاهُم بوَادِي آرُهْ، فَهَزمُوهُ أَقْبَحَ هَزِيْمَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ جُنْدِهِ الفِرَنجِ ثَلَاثَةُ آلَاف، وَغَرِقَ خَلْقٌ فَجَاءَ إِلَى قُرْطُبَة، ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ العَبِيْدُ، فَضُرِبَتْ عُنُقُه، وَقُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ وَكَفَى الله شَرَّهُ فِي ثَامنِ ذِي الحِجَّةِ، عَامَ أَرْبَعِ مائَةٍ، وَعَاشَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِيْنَ سَنَةً (1) .
قَالَ الحُمَيْدِيُّ (2) :أُعِيْدَ المُؤَيَّد بِاللهِ إِلَى الخِلَافَةِ فِي آخر سَنَةِ أَرْبَع
(1)" جذوة المقتبس " 18، 19.
(2)
" جذوة المقتبس "17.
مائَة، فَحَاصَرَتْهُ جُيُوْشُ البَرْبَر مَعَ سُلَيْمَان المُسْتَعِيْن مُدَّةً، وَاتَصَلَ ذَلِكَ إِلَى شَوَّال سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَع مائَة، فَدَخَلَ البَرْبَرُ قُرْطُبَةَ بِالسَّيْفِ، وَقُتِلَ المُؤَيَّد بِاللهِ.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي الوَلِيْد بن الحَاج: أَنَّ طَائِفَةً وثَبُوا عَلَى المَهْدِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوا المُؤَيَّد بِاللهِ، فَطيَّر عَنْبَرٌ رَأْسَ المَهْدِيّ بَيْنَ يدِي المُؤَيَّد، وَسَكَنَ النَّاسُ، وَكَتَبَ المُؤَيَّد إِلَى البَرْبَر ليدخُلُوا فِي الطَّاعَة، فَأَبُوا، وَصَارَ يَرْكَبُ وَيَظْهَرُ فَهَابَه النَّاسُ، وَعَاثت البَرْبَرُ، وَعملت مَا لَا يعملُه مُسْلِمٌ، وَنَازلُوا قُرْطُبَة سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَع مائَة، وَاشَتَدَّ القَحطُ وَالبلَاءُ، وَفنِي النَّاسُ، وَدَخَلَ البَرْبَرُ بِالسَّيْفِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ فَقَتَلُوا حَتَّى الولدَانَ، وَهَرَبَ الخَلْقُ، وَهَرَبَ المُؤَيَّدُ بِاللهِ إِلَى المَشْرِقِ، فَحَجَّ، وَلَقَدْ تصرّف فِي الدُّنْيَا عَزِيْزاً وَذليلاً، وَالعزَةُ للهِ جَمِيْعاً (1) .
وَقَالَ غَيْرُهُ: أَمَا المُؤَيَّدُ، فَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَنُسِي ذِكره.
وَقَالَ عُزيز فِي (تَاريخ القَيروَانِ) :إِنَّ المُؤَيَّدَ بِاللهِ هَرَبَ بِنَفْسِهِ مِنْ قُرْطُبَة، فَلَمْ يَزَلْ فَارّاً وَمُسْتَخْفِياً حَتَّى حَجَّ، وَكَانَ مَعَهُ كِيْسُ جَوْهَرٍ، فَشَعَرَ بِهِ حرَّابَةُ مَكَّةَ، فَأَخَذُوْهُ مِنْهُ، فَمَالَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الحَرَمِ، وَأَقَامَ يَوْمَين لَمْ يَطْعَم طَعَاماً، فَأَتَى المَرْوَةَ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: تُحْسِنُ تَجبلُ الطِّيْنَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبَ بِهِ، فَلَمْ يُحْسِنَ الجَبْل، وَشَارط عَلَى دِرْهَمٍ وَرَغِيْفٍ، فَقَالَ: عجِّلِ القرصَ، فَإِنِّي جَائِع.
فَأتَاهُ بِهِ، فَأَكلَه، وَعَمِلَ حَتَّى تَعِبَ، وَهَرَبَ، وَخَرَجَ مَعَ الرَّكبِ إِلَى الشَّامِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، فَقَدم القُدْسَ، فَمَشَى، فَرَأَى رَجُلاً يَعْمَلُ الحُصُرَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: غَرِيْبٌ.
قَالَ: تُحْسِنُ هَذِهِ الصَّنْعَة؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فتكُونُ عِنْدِي تُنَاوِلُنِي
(1) انظر " الكامل " لابن الأثير 9 / 216 - 219.
الحَلْفَاءَ (1) وَأُعْطِيْكَ أُجْرَةً؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَقَامَ عِنْدَهُ يُعَاوِنه، وَيَأْكُلُ مَعَهُ، فَتَعَلَّمَ صَنْعَة الحُصُر، وَأَقَامَ بِالقُدْسِ سِنِيْنَ، وَلَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الأَنْدَلُسِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قَالَ عُزَيْزٌ: فَهَذَا نَصُّ مَا رَوَاهُ مَشَايخُ مِنْ أَهْل الأَنْدَلُس، وَالَّذِي ذكره ابْنُ حَزْم فِي كِتَابِ (نُقط الْعَرُوس) أَنَّهُ قَالَ:
أُخلوقهٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا: ظهر رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: خَلَفٌ الحُصْرِي بَعْد اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً مِنْ مَوْت المُؤَيَّد بِاللهِ هِشَامِ، فَبُوْيِع لَهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ الأَنْدَلُسِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، وَادُّعِي أَنَّهُ المُؤَيَّد بِاللهِ هِشَامٌ، وَسُفِكت الدِّمَاءُ وَتَصَادمتِ الجُيُوشُ فِي أَمره.
قَالَ عُزَيْزٌ: فَأَقَامَ المُدَّعَى أَنَّهُ هِشَامٌ نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً وَالقَاضِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ ابْن عَبَّاد كَالوَزِيْر بَيْنَ يَدَيْهِ وَالأَمْرُ إِلَيْهِ، فَاسْتقَام بِذَلِكَ لابْنِ عَبَّاد أَكْثَرُ بِلَادِ الأَنْدَلُسِ، وَدَفَعَ عَنْهُ كَلَام الحُسَّاد إِلَى أَنْ مَاتَ هِشَامٌ.
قُلْتُ: هَذِهِ الحِكَايَة شبهُ خُرَافَة، وَمن بَعْد سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَع مائَة انْقَطع خَبَرُ المُؤَيَّد بِاللهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى اللهِ، وَأَظُنُّهُ قُتِلَ سِرّاً، فَكَانَ لَهُ حِيْنَئِذٍ خَمْسُوْنَ سَنَةَ وَكَانَ ضَعِيْف الرَّأْي، قَلِيْلَ العَقْلِ، يُصَدِّق بِمَا لَا يَكُون، وَلَهُ نَهْمَةٌ فِي جمع الْبَقر البُلْق (2) ، وَأَعطى مَرَّةً مَالاً عَظِيْماً لِمَنْ جَاءهُ بِحَافِرِ حِمَارٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ حافرُ حِمَارِ العُزَيْزِ، وَأَتَاهُ آخرُ بِحَجَرٍ، فَقَالَ: هَذَا مِنَ الصَّخْرَةِ.
(1) قال الازهري: الحلفاء: نبت أطرافه محدودة كأنها أطراف سعف النخل والخوص، ينبت في مغايض الماء والنزور، الواحدة حلفه مثل قصبة وقصباء
…
وكان الاصمعي يقول: الواحدة: حلفة. وقال سيبويه: الحلفاء واحد وجميع. " تهذيب اللغة " 5 / 69.
وفي " معجم متن اللغة ": قال الشهابي: هو من فصيلة النجيليات، يكثر في الجزائر والمغرب والاندلس، يصنعون بورقه الحصر والقفف والحبال، ويستخرجون منها أليافا وكاغدا.
(2)
البلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين.