الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - البيت ليس وحدة القصيدة العربية القديمة:
زعم نقّاد الشعر العربي القديم، أن القصيدة العربية مفككة الأوصال، ولا يربطها رابط، وأن البيت وحدة القصيدة وليس بين أبيات القصيدة وأجزائها وحدة عضوية.
وقد شاعت هذه المقولة منذ بداية العصر الحديث، وأصبحت من المسلّمات التي يتناقلها النقاد خلفا عن سلف، وما زالت سائدة في الكتب الجامعية والمدرسية.
وفي المعجم الذي بين يديك أيها القارئ نحو أربعة آلاف شاهد شعري وإذا تتبعت الشواهد التي استلّت من مقطوعة أو قصيدة، فإنك ستجد مئات أو آلافا من الشواهد التي تبطل مقولة النّقاد.
إننا نجد البيت المفرد في كتاب النحو؛ لأن المؤلف لا يهمه إلا كلمة واحدة من هذا البيت، ولذلك يرويه مفردا، ولكن مفهوم البيت لا يتم إلا بقراءة سابقة ولاحقة.
وقد أصدر النقّاد حكمهم بناء على قراءة ناقصة لنماذج قليلة من الشعر الجاهلي مع عدم استشعار الروح الفنية التي تسود في القصيدة الواحدة، ويمكننا أن نقول:
إن الذين أصدروا هذه الأحكام كانوا غرباء عن الحياة العربية، ولم يتقمصوا شخصية الشاعر وهم يقرؤون قصيدته.
ونحن نقول: إنّ قراءة نماذج قليلة من قصائد الشعر الجاهلي، لا تؤدي إلى إصدار حكم عام .. لأن كثيرا من النماذج الجاهلية، جاءها التفكك المزعوم من الرواية، فربما قدم الرواة ما حقه التأخير، وربما أنقص بعضهم أبياتا، وزاد بعضهم أبياتا أخرى. وكيف يقولون إن البيت وحدة القصيدة - يعني أنه يفهم وحده - ونحن نجد آلاف النماذج من الأبيات التي لا تفهم إلا في سياق ما بعدها، وما قبلها. واقرأ قول عنترة بن شداد:
ومدجج كره الكماة نزاله
…
لا ممعن هربا ولا مستسلم
فهذا البيت لا يفهم إلا إذا قرأت ما بعده، وهو:
جادت يداي له بعاجل طعنة
…
بمثقّف صدق الكعوب مقوّم
واقرأ قوله:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضّحا
…
إذ تقلص الشّفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب
…
لما رأيت القوم
…
يدعون عنتر والرماح كأنّها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم ..
فازورّ من وقع القنا ..
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
فكل هذه الأبيات متعانقة تأخذ برقاب بعضها البعض؛ لأنها تؤدي معاني متسلسلة، وكل بيت يمثل حلقة.
واقرأ مطولات «المفضليات» واقرأ ما كتبه المحققان أحمد محمد شاكر وعبد السّلام محمد هارون، تحت عنوان «جوّ القصيدة» فإن هذا الجوّ يشعرك بالرابط النفسي، والرابط المعنوي بين أبيات القصيدة وأجزائها مهما كانت طويلة.
وقد وضع المرزوقي في مقدمة شرحه «الحماسة» ، معيار الشعر الجيد، مستنبطا من نصوص الشعر العربي فقال: «فالواجب أن يتبيّن ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب؛ ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث، ولتعرف مواطئ أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسم إقدام المزيّفين على ما زيّفوه، ويعلم أيضا فرق ما بين المصنوع والمطبوع
…
فنقول، وبالله التوفيق:
إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه
الأسباب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكله اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار».
ويعنينا هنا أن نذكر ما قاله في المعيار الدال على وحدة القصيدة والتئام أجزائها، أو ما يسمونه اليوم:«الوحدة العضويّة» ، وهو التحام أجزاء النظم - حيث يقول:
«وعيار التحام أجزاء النظم والتئامه على تخير من لذيذ الوزن: الطبع واللسان.
فما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله بل استمرا فيه واستسهلاه، بلا ملال ولا كلال، فذاك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة تسالما لأجزائه وتقارنا وألّا يكون كما قيل فيه:
وشعر كبعر الكبش فرّق بينه
…
لسان دعيّ في القريض دخيل
وكما قال خلف:
وبعض قريض الشعر أولاد علّة
…
يكدّ لسان الناطق المتحفّظ (1)
وكما قال رؤبة لابنه عقبة وقد عرض عليه شيئا مما قاله فقال:
قد قلت لو كان له قران. [المرزوقي 10/ 11].
ونقتبس بعض ما كتبه ابن قتيبة في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» مما له دلالة على التحام أجزاء النظم في القصيدة العربية، حيث يقول: «وتتبيّن التكلّف في الشعر بأن ترى البيت فيه مقرونا بغير جاره، ومضموما إلى غير لفقه، ولذلك قال عمر بن لجأ - شاعر أموي - لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟
فقال: لأني أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمه. وقال عبد الله بن سالم لرؤبة بن العجاج: مت يا أبا الجحاف إذا شئت! قال رؤبة: وكيف ذلك؟
قال: رأيت ابنك عقبة ينشد شعرا له أعجبني - يريد أنه وجد من يرثك ويخلّد ذكرك - قال رؤبة: نعم، ولكن ليس لشعره قران» يريد أنه لا يقارن البيت بشبهه».
* ونفهم من مجموع الأقوال السابقة: أن من أركان القصيدة العربية: أن تكون مترابطة الأجزاء، ويأتي هذا الترابط: من وحدة القصيدة الموسيقية، باختيار لذيذ
(1) أولاد علّة: بنو رجل واحد من أمهات شتى، فهم مختلفون.