الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه رزقه، وأمن الفتان" (1).
خامسًا: الصغار والمجانين
؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟
قال بعض العلماء: إنهم يفتنون، لدخولهم في العموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حال الحياة، فإن حال الممات تخالف حال الحياة.
وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين، فإنه لا حساب عليهم، إذ لا حساب إلا على من كان مكلفًا يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملًا صالحًا يثابون عليه.
* إذًا؛ خرج من قول المؤلف: "فإن الناس": خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له، كالمجانين والصبيان.
تنبيه:
الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص ومنافقون، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص، ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب "الروح" أنهم يفتنون.
* وهل تسأل الأمم السابقة؟
(1) رواه مسلم (1913) عن سلمان رضي الله عنه.
ذهب بعض العلماء -وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانتا هذه الأمة -وهي أشرف الأمم- تسأل، فمن دونها من باب أولى.
* قوله: "في قبورهم": جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم، فيشمل البرزخ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو أتلفته الرياح.
والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى عالم الآخرة، فإذا تأخر دفنه يومًا أو أكثر، لم يكن السؤال حتى يدفن.
* قوله: "فيقال للرجل": القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه، وقال:"استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل"(1).
* وورد في بعض الآثار أن اسمهما: منكر، ونكير (2).
(1) رواه أبو داود (3221)، والبيهقي (4/ 56)، وصححه الحاكم (1/ 370)، ووافقه الذهبي، وجوَّد إسناده النووي في "المجموع"(5/ 292)، وانظر "أحكام الجنائز" للألباني (156).
(2)
لما رواه الترمذي (1083)، وابن أبي عاصم في "السنة"(864)، والآجري في "الشريعة" (365)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا =
وأنكر بعض العلماء هذين الاسمين؛ قال: كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الاسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك.
وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، ولكنهما منكران من حيث إن الميت لا يعرفهما، وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة:{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]؛ لأنه لا يعرفهم؛ فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت.
* ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان اللذان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟
- منهم من قال: إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة.
- ومنهم من قال: بل هما ملكان آخران، والله عز وجل يقول:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ} [المدثر: 31] والملائكة خلق كثير؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطت السماء، وحق لها أن تئط (والأطيط: صرير الرحل)؛ ما من موضع شبر (أو قال: أربع أصابع)؛ إلا وفيه
= قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير
…
". والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (1391).
ملك قائم لله أو راكع أو ساجد" (1)، والسماء واسعة الأرجاء؛ كما قال الله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
فالمهم أنه لا غرابة أن ينشئ الله عز وجل لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه، والله على كل شيء قدير.
* قوله: "من ربك؟ "؛ يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
* وقوله: "ما دينك؟ ": يعني: ما عملك الذي تدين به لله عز وجل، وتتقرب به إليه؟
* والثالث: "من نبيك؟ ": يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟
* قوله: "فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] "؛ أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب.
* والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
(1) رواه أحمد (5/ 173)، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 510)؛ عن أبي ذر رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "الصحيحة"(1722).
* وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} : يحتمل أنها متعلقة بـ {يُثَبِّتُ} ؛ يعني: أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. ويحتمل أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفًا للقول؛ يعني: أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة.
ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]؛ فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت.
* قوله: "فيقول المؤمن: ربي الله، والإِسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي":
فيقول المؤمن: ربي الله. عندما يقال له: من ربك؟ ويقول إذا قيل له: ما دينك؟ فيقول: الإِسلام ديني. ويقول كذلك: محمَّد صلى الله عليه وسلم نبيي. إذا قيل له: من نبيك؟
وحينئذ يكون الجواب صوابًا، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة.
* قوله: "وأما المرتاب، فيقول: هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته":
* المرتاب: الشاك والمنافق وشبههما.
* "فيقول: هاه! هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا
فقلته"؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه، وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه.
وتأمل قوله: "هاه! هاه! "؟ كأن شيئًا غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه، ويقول: هاه! هاه! ثم يقول: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. ولا يقول: ربي الله! ولا: ديني الإِسلام! ولا: نبيي محمَّد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك!
هذا إذا سئل في قبره وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول: لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.
إذًا؛ إيمانه قول فقط!!
* قوله: "فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان":
* "يضرب"؛ يعني: الذي لم يجب؛ سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه.
* والمرزبة: هي مطرقة من حديد، وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أهل منى؛ ما أقلوها.
فإذا ضرب؛ يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان.
* قوله: "يضرب فيصيح"؛ أي: صياحًا مسموعًا؛ يسمعة كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار
الدنيا يسمعه، وأحيانًا يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأقبر للمشركين على بغلته؛ فحادت به، حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذَّبون (1).
* قوله: "إلا الإنسان"؟ يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة؛ منها:
أولًا: ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"(2).
ثانيًا: أن في إخفاء ذلك سترًا للميت.
ثالثًا: أن فيه عدم إزعاج لأهله؛ لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.
رابعًا: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامسًا: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليست هيئة، بل صيحة توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادسًا: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون
(1) رواه مسلم (2867) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(2)
جزء من الحديث السابق.