الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الإيمان
* قوله: "فَصْلٌ: وَمِنْ أصولِ أهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ أنَّ الدِّينَ وَالإيمانَ قَولٌ وَعَمَلٌ".
* "الدين": هو ما يدان به الإنسان، أو يدين به؛ فيطلق على العمل ويطلق على الجزاء:
ففي قوله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19]؛ فالمراد بالدين في هذه الآية: الجزاء.
وفي قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ أي: عملًا تتقربون به إلى الله.
ويقال: كما تَدينُ تُدان؛ أي: كما تعمل تجازى.
والمراد بالدين في كلام المؤلف: العمل.
* وأما "الإيمان"؛ فأكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في
اللغة التصديق.
ولكن في هذا نظر؛ لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديتها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فتقول مثلًا: صدقته، ولا تقول: آمنته! بل تقول: آمنت به. أو: آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلًا لازمًا لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به بنفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت)، فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت).
ولهذا؛ لو فسر الإيمان بالإقرار؛ لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق؛ فتقول: أقرَّ به؛ كما تقول: آمن به، وأقرَّ له؛ كما تقول: آمن له.
هذا في اللغة.
* وأما في الشرع؛ فقال المؤلف: "قول وعمل".
* وهذا تعريف مجمل فصله المؤلف بقوله: "قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
* فجعل المؤلف للقلب قولًا وعملًا، وجعل للسان قولًا وعملًا.
- أما قول اللسان؛ فالأمر فيه واضح، وهو النطق، وأما عمله؛ فحركاته، وليست هي النطق، بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس.
- وأما قول القلب؛ فهو اعترافه وتصديقه. وأما عمله؛ فهو عبارة عن تحركه وإرادته؛ مثل الإخلاص في العمل؛ فهذا عمل قلب، وكذلك التوكل والرجاء والخوف؛ فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب، بل هناك حركة في القلب.
- وأما عمل الجوارح؛ فواضح؛ ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، فيكون عمل الجوارح إيمانًا شرعًا؛ لأن الحامل لهذا العمل هو الإيمان.
* فإذا قال قائل: أين الدليل على أن الإيمان يشمل هذه الأشياء؟
قلنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره"(1)؛ فهذا قول القلب. أما عمل القلب واللسان والجوارح؛ فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(2)؛ فهذا قول اللسان وعمله وعمل الجوارح، والحياء عمل قلبي، وهو انكسار يصيب الإنسان ويعتريه عند وجود ما يستلزم الحياء.
فتبين بهذا أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعًا.
(1) تقدم تخريجه (1/ 54)، وهو عند مسلم (8).
(2)
رواه مسلم (35) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري (9) بلفظ:"الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".
ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ قال المفسرون (1): أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الله تعالى الصلاة إيمانًا؛ مع أنها عمل جوارح وعمل قلب وقول لسان.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* وشموله لهذه الأشياء الأربعة لا يعني أنه لا يتم إلا بها، بل قد يكون الإنسان مؤمنًا مع تخلف بعض الأعمال، لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.
* وخالف أهل السنة في هذا طائفتان بدعيتان متطرفتان:
الطائفة الأولى: المرجئة: يقولون: إن الإيمان هو الإقرار بالقلب، وما عدا ذلك؛ فليس من الإيمان!!
ولهذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص عندهم؛ لأنه إقرار القلب، والناس فيه سواء؛ فالإنسان الذي يعبد الله آناء الليل والنهار كالذي يعصي الله آناء الليل والنهار عندهم، ما دامت معصيته لا تخرجه من الدين إ!
فلو وجدنا رجلًا يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعتدي على الناس، ورجلًا آخر متقيًا لله بعيدًا عن هذه الأشياء كلها؛ لكانا عند المرجئة في الإيمان والرجاء سواء؛ كل منهما لا يعذب؛ لأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
(1) انظر: "تفسير ابن كثير"(1/ 167)، و"الدر المنثور"(1/ 268).