الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد يقول: أنا إذا نهيت أبي؛ غضب علي، وزعل، وهجرني؛ فماذا أصنع؟
نقول: اصبر على هذا الَّذي ينالك بغضب أبيك وهجره، والعاقبة للمتقين، واتبع ملة أبيك إبراهيم عليه السلام؛ حيث عاتب أباه على الشرك؛ فقال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
…
} إلى أن قال: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ} أي: أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 42 - 46]. وقال إبراهيم أيضًا لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74].
* * *
* قوله: "ويرون
إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد؛ مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا
".
* الأبرار: جمع بَر، وهو كثير الطاعة، والفجار: جمع فاجر وهو العاصي كثير المعصية.
* فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تمامًا؛ فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله.
* وكان الناس فيما سبق يجعلون على الحج أميرًا؛ كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الحج في العام التاسع من الهجرة، وما
زال الناس على ذلك، يجعلون للحج أميرًا قائدًا يدفعون بدفعه ويقفون بوقوفه، وهذا هو المشروع؛ لأن المسلمين يحتاجون إلى إمام يقتدون به، أما كون كل إنسان على رأسه؛ فإنه يحصل به فوضى واختلاف.
فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء، وإن كانوا فساقًا، حتَّى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقًا، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الَّذي عندنا فيه من الله برهان؛ فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الَّذي دون الفسق مهما بلغ؛ فإن الولاية لا تزول به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية:
- خلافًا للخوارج، الذين يرون أنَّه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصيًا، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من الملة.
- وخلافًا للرافضة الذين يقولون: إنه لا إمام إلا المعصوم، وإن الأمة الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنَّه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعًا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلى اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان؛ لأن الإمام لم يأت بعد.
* لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبرارًا أو فجارًا، وكذلك إقامة الجهاد مع
الأمير، ولو كان فاسقًا، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله.
فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر؛ لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلى فتن عظيمة.
فما الَّذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الآراء إلا الخروج على الأئمة؟!
فيرى أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجارًا.
* ولكن هذا لا يعني أن أهل السنة والجماعة لا يرون أن فعل الأمير منكر، بل يرون أنَّه منكر، وأن فعل الأمير للمنكر قد يكون أشد من فعل عامة الناس؛ لأن فعل الأمير للمنكر يلزم منه زيادة على إثمه محذوران عظيمان:
الأول: اقتداء الناس به وتهاونهم بهذا المنكر.
والثاني: أن الأمير إذا فعل المنكر سيقل في نفسه تغييره على الرعية أو تغيير مثله أو مقاربه.
* لكن أهل السنة والجماعة يقولون: حتَّى مع هذا الأمر المستلزم لهذين المحذورين أو لغيرهما؛ فإنه يجب علينا طاعة ولاة الأمور، وإن كانوا عصاة؛ فنقيم معهم الحج والجهاد، وكذلك الجمع؛ نقيمها مع الأمراء، ولو كانوا فجارًا.
فالأمير إذا كان يشرب الخمر مثلًا، ويظلم الناس بأموالهم؛
نصلي خلفه الجمعة، وتصح الصلاة، حتَّى إن أهل السنة والجماعة يرون صحة الجمعة خلف الأمير المبتدع إذا لم تصل بدعته إلى الكفر؛ لأنهم يرون أن الاختلاف عليه في مثل هذه الأمور شر، ولكن لا يليق بالأمير الَّذي له إمامة الجمعة أن يفعل هذه المنكرات.
وكذلك أيضًا إقامة الأعياد مع الأمراء الذين يصلون بهم، أبرارًا كانوا أو فجارًا.
* وبهذه الطريق الهادئة يتبين أن الدين الإسلامي وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
* فقد يقول قائل: كيف نصلي خلف هؤلاء ونتابعهم في الحج والجهاد والجمع والأعياد؟!
فنقول: لأنهم أئمتنا، ندين لهم بالسمع والطاعة:
امتثالًا لأمر الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: "أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم". رواه مسلم (1). وحقهم: طاعتهم في غير معصية الله.
(1) رواه البخاري (7052)، ومسلم (1843)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فعن وائل بن حجر؛ قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا؛ فما تأمرنا؟ قال: "اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". رواه مسلم (1).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال:"إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان"(2).
ولأننا لو تخلفنا عن متابعتهم؛ لشققنا عصا الطاعة الَّذي يترتب على شقه أمور عظيمة، ومصائب جسيمة.
* والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور؛ لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه؛ مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام؛ لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم؛ فليس من طريق أهل السنة والجماعة.
* * *
(1) رواه مسلم (1846).
(2)
رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709).