المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اتباع سبيل السابقين الأولين - شرح العقيدة الواسطية - العثيمين - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌فصل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌السُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبيِّنُهُ

- ‌فصل في أحاديث الصفات

- ‌ الحديث الأول في إثبات نزول الله إلى السماء الدنيا:

- ‌ الحديث الثاني في إثبات الفرح

- ‌ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذُّنوب

- ‌ الحديث الثالث في إثبات الضحك

- ‌ الحديث الرابع: في إثبات العجب وصفات أخرى

- ‌ الحديث الخامس: في إثبات الرجل أو القدم:

- ‌الفائدة المسلكية من هذا الحديث:

- ‌ الحديث السادس: في إثبات الكلام والصوت:

- ‌ الحديث السابع في إثبات الكلام أيضًا:

- ‌ الحديث الثامن: في إثبات العلو لله وصفات أخرى:

- ‌ الحديث التاسع: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الحديث العاشر: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الفائدة المسلكية من هذا الحديث:

- ‌ الحديث الحادي عشر: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الحديث الثاني عشر: في إثبات المعية:

- ‌ الحديث الثالث عشر: في إثبات كون الله قبل وجه المصلي:

- ‌ الحديث الرابع عشر: في إثبات العلو وصفات أخرى:

- ‌ الحديث الخامس عشر: في إثبات قرب الله تعالى:

- ‌ الحديث السادس عشر: إثبات رؤية المؤمنين لربهم:

- ‌فصل مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة وأتصافهم بالوسطية

- ‌ الأصل الأول: باب الأسماء والصفات:

- ‌ الأصل الثاني: أفعال الله:

- ‌ الأصل الثالث: الوعيد:

- ‌ الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين:

- ‌فصل في المعية وبيان الجمع بينها وبيان علو الله واستوائه على عرشه

- ‌فصل في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته

- ‌فصل في الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة

- ‌فصل في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية

- ‌فصل في الإيمان باليوم الآخر

- ‌خامسًا: الصغار والمجانين

- ‌ تنبيه:

- ‌ الإجماع

- ‌فصل في القيامة الكبرى

- ‌ الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه:

- ‌الكلام على الحوض من عدة وجوه:

- ‌ الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط:

- ‌ الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة:

- ‌ تتمة:أبواب الجنة

- ‌ الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة:

- ‌فصل في الإيمان بالقدر

- ‌فصل في درجات الإيمان بالقدر

- ‌ما مِن مَخْلوقٍ في الأرضِ وَلا في السَّماءِ إلَّا اللهُ خالِقُهُ

- ‌لا يرضى لعباده الكفر

- ‌العِبادُ فاعِلونَ حَقيقَةً، وَاللهُ خالِقُ أفْعالِهِم

- ‌لِلعِبادِ قدرَةٌ عَلى أعمالِهِم، وَلَهُم إرادَةٌ، وَاللهُ خالِقُهم وَخالِقُ قدرَتِهم وَإرادَتِهِم

- ‌فصل في الإيمان

- ‌ الإيمانَ يَزيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ

- ‌أسباب زيادة الإيمان

- ‌ أسباب نقص الإيمان

- ‌فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر

- ‌من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في كرامات الأولياء

- ‌الآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأمته

- ‌ الكرامات لها أربع دلالات:

- ‌فصل في طريقة أهل السنة العملية

- ‌ آثار الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر:

- ‌اتباع سبيل السابقين الأولين

- ‌ هل الإجماع موجود أو غير موجود

- ‌فصل في منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

- ‌ إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد؛ مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا

- ‌النصح للأمة

- ‌المؤمن للمؤمن كالبنيان

- ‌الصبر عند البلاء

- ‌الشكر عند الرخاء

- ‌الرضى بمر القضاء

- ‌ المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات:

- ‌القضاء يطلق على معنيين:

- ‌ أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌اتباع سبيل السابقين الأولين

- صلى الله عليه وسلم للذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه؛ فنهاهم عن ذلك، وقال:"احلقوا كله أو ذروا كله"(1)، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا؛ لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئًا!

وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة؛ إلا بدليل؛ لأن الأصل في العبادات المنع؛ إلا ما قام الدليل على مشروعيته.

* * *

* قوله: "و‌

‌اتباع سبيل السابقين الأولين

من المهاجرين والأنصار"؛ أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع

إلخ؛ فهي معطوفة على "اتباع الآثار".

* قوله: "السابقين"؛ يعني: إلى الأعمال الصالحة.

* وقوله: "الأولين"؛ يعني: من هذه الأمة.

* والمهاجرون: من هاجروا إلى المدينة.

* والأنصار: أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) رواه مسلم (2120)؛ عن ابن عمر من طريق معمر عن أيوب عن نافع، ولم يسق لفظه. وهو عند عبد الرزاق في "مصنفه"(19564)، وأبو داود (4195)، والنسائي (8/ 130)، وأحمد (2/ 88)؛ بلفظ:"احلقوا كله أو ذروا كله".

قال الحميدي: وحكى أبو مسعود الدمشقي أن في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غلامًا قد حلق بعض رأسه وترك بعض، فنهاهم عن ذلك وقال:"احلقوا كله أو ذروا كله"، انظر:"جامع الأصول"(4/ 753).

ص: 311

* وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنهم أقرب إلى الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة؛ بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة؛ قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؛ كان أقرب إلى الحق.

ولهذا ترى اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشارًا وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصورًا.

فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها؛ لأن اتباعها يؤدي إلى محبتهم، مع كونهم أقرب إلى الصواب والحق؛ خلافًا لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال! ولا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي قول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة!! وهذا خطأ وضلال؛ فالصحابة أقرب إلى الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم والتقوى والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم.

* * *

* قوله: "واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ": حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل

ص: 312

بدعة ضلالة" (1)

* "اتباع": معطوفة على "اتباع الآثار".

* والوصية: العهد إلى غيره بأمر هام.

* ومعنى: "عليكم بسنتي

" إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: "وعضوا عليها بالنواجذ"، وهي أقصى الأضراس؛ فأمر بالتمسك بها باليد والعض عليها بالأضراس مبالغة في التمسك بها.

* والسنة: هي الطريقة ظاهرًا وباطنًا.

* والخلفاء الراشدون: هم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علمًا وعملًا ودعوة.

* وأول من يدخل في هذا الوصف وأولى من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

* ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة؛ لأنه ليس معروفًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نقتصر على الأذان الثاني فقط!

(1) رواه أحمد (4/ 126)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجة (43 - 44)، والحاكم (1/ 95 - 96)، وابن حبان (1/ 187)؛ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي.

وقد نقل الألباني في "إرواء الغليل"(8/ 107) تصحيح جماعةٍ من أهل العلم له.

ص: 313

فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم.

ثم إن عثمان رضي الله عنه اعتمد على أصل، وهو أن بلالًا يؤذن قبل الفجر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة (1)، لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس؛ لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام؛ من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام.

* فأهل السنة والجماعة يتبعون ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحث على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ إلا إذا خالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة؛ فالواجب علينا أن نأخذ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه.

* قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور": "إياكم": هذه

(1) لما رواه السائب بن يزيد: "إن الَّذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة؛ عثمان بن عفان رضي الله عنه".

أخرجه البخاري (912، 913).

ص: 314

للتحذير؛ أي: أحذركم.

* و"الأمور": بمعنى: الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا؛ فلا تدخل في هذا الحديث؛ لأن الأصل في أمور الدنيا الحل؛ فما ابتدع منها؛ فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر؛ فما ابتدع منها؛ فهو حرام بدعة؛ إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته.

* قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فإن كل بدعة ضلالة": الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة.

* "كل بدعة ضلالة": هذا كلام عام مسور بأقوى لفظ دال على العموم، وهو لفظ (كل)، فهو تعميم محكم صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بيانًا، وأصدقهم خبرًا؛ فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله:"كل بدعة ضلالة".

فعلى هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن شريعة الله؛ فهو مبتدع.

- فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله.

والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.

ص: 315

- والذين أحدثوا أذكارًا معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.

- والذين أحدثوا أفعالًا يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا.

كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال؛ كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة؛ لأنها مركب، ولأنها انحراف عن الحق.

- والبدعة تستلزم محاذير فاسدة:

فأولًا: تستلزم تكذيب قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبوها دينًا؛ فمقتضاه أن الدين لم يكمل.

ثانيَّا: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع.

ثالثًا: تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها؛ فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير!!

رابعًا: من لوازم هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة؛ انشغل عن سنة؛ كما قال بعض السلف: "ما أحدث قوم بدعة؛ إلا هدموا مثلها من السنة".

خامسًا: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة؛ لأن هؤلاء

ص: 316

المبتدعة يعتقدون أنهم هم أصحاب الحق، ومن سواهم على ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال! فتتفرق قلوبهم.

فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب على البدعة من حيث هي بدعة، مع أنَّه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين.

* وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلى أقسام ثلاثة أو خمسة أو ستة؛ فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين:

- إما أن لا ينطبق شرعًا وصف البدعة على ما سماه بدعة.

- وإما أن لا يكون حسنًا كما زعم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكل بدعة ضلالة"؛ فقال: "كل"؛ فما الَّذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتَّى نقسم البدع إلى أقسام؟

* فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه. فأثنى عليها، وسماها بدعة (1)؟!

فالجواب أن نقول: ننظر إلى هذه البدعة التي ذكرها؛ هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا.

فإذا نظرنا ذلك؛ وجدنا أنَّه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان ثلاث

(1) رواه البخاري (2010).

ص: 317

ليال، ثم تركه خوفًا من أن تفرض عليهم، فثبت أصل المشروعية، وانتفى أن تكون بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد صلاها!!

وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة؛ لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعًا؛ الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم على إمام واحد؛ صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولًا من هذا التفرق.

فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد؛ لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدى عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه.

إذًا، هي بدعة نسبية؛ باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخرى.

فهذا وجه تسميتها ببدعة.

وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر؛ فكلَّا.

وبهذا نعرف أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه.

* فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى

ص: 318

يوم القيامة"؛ فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسنة في الإسلام؟

فنقول: كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضًا، ولا يتناقض؛ فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروعة، ويكون المراد بسنها المبادرة إلى فعلها.

يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة (يعني: من الدراهم)، ووضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من حالهم، فدعا إلى التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال:"من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"(1).

أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلى ما ثبتت مشروعيته؛ كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك.

وبهذا نعرف أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضًا، بل هو متفق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.

* * *

* قوله: "ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله":

* هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب،

(1) رواه مسلم (1017) عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

ص: 319

بل هو أصدق الكلام؛ فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون؛ فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا؛ فإن صفته كذا وكذا.

* فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير؛ فإنما ظَنّه خطأ؛ لقصوره أو تقصيره.

مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عز وجل أخبر أن الأرض قد سطحت، فقال:{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20]، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة؛ فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟

فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره؛ فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه؛ حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية.

فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله؛ فلازم ذلك أنَّه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر الله به في كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته.

* قوله: "وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم":

* "الهدي": هو الطريق التي كان عليها السالك.

والطرق شتى، لكن خيرها طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد

ص: 320

والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد صلى الله عليه وسلم ليس بقاصر؛ لا في حسنه وتمامه وانتظامه وموافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوادث التي لم تزل ولا تزال تقع إلى يوم القيامة؛ فإن هدي محمد صلى الله عليه وسلم كامل تام، فهو خير الهدي؛ أهدى من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي.

فإذا كنا نعتقد ذلك؛ فوالله؛ لا نبغي به بديلًا.

* وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كائنًا من كان، حتَّى لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخذنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة:

- قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].

- وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر: "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"(1).

ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرِّط ومفرِط، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بين هذا وهذا.

(1) رواه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

ص: 321

* قوله: "ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس":

* "يؤثرون"؛ أي: يقدمون.

* "كلام الله على كلام غيره": من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم؛ فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد.

* فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها؛ فإننا نكذبها.

مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب؛ لأن القرآن يكذبه؛ كما قال تعالى:{* إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وإدريس من النبيين؛ كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا

} [مريم: 56]، إلى أن قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]؛ فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط.

* * *

* قوله: "ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد":

* "يقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم"؛ أي: طريقته وسنته التي هو عليها.

* "على هدي كل أحد": في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا

ص: 322

صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

* * *

* قوله: "ولهذا": اللام في قوله: "ولهذا" للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* "سموا أهل الكتاب والسنة": لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرهما. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعى أنَّه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب؛ لأن من كان من أهل شيء لا بد أن يلزمه ويلتزم به.

* * *

* قوله: "وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة":

* قوله: "وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة"؛ فالجماعة اسم مصدر اجتمع يجتمع اجتماعًا وجماعة؛ فالجماعة هي الاجتماع؛ فمعنى أهل الجماعة أهل الاجتماع؛ لأنهم مجتمعون على السنة، متآلفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضًا، ولا يبدع بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع.

* قوله: "وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين": هذا في استعمال ثان، حيث صار لفظ (الجماعة)

ص: 323

عرفًا: اسمًا للقوم المجتمعين.

* وعلى ما قرره المؤلف تكون (الجماعة) في قولنا: "أهل السنة والجماعة": معطوفة على (السنة)، ولهذا عبر المؤلف بقوله:"سموا أهل الجماعة"، ولم يقل: سموا جماعة؛ فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟!

نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع؛ فأهل الجماعة؛ يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلى القوم المجتمعين نقلًا عرفيًّا.

* * *

* قوله: "والإجماع هو الأصل الثالث الَّذي يعتمد عليه في العلم والدين":

* يعني به الدليل الثالث؛ لأن الأدلة أصول الأحكام؛ حيث تبنى عليها.

* والأصل الأول هو الكتاب، والثاني السنة، والإجماع هو الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة.

* فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب والسنة؛ فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع؛ فأصل مبني على غيره؛ إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة.

* أما كون الكتاب والسنة أصلًا يُرجع إليه؛ فأدلته كثيرة؛

ص: 324