الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينال إلا بوجود أسبابه، فيشكر الله على نيل هذا المقام.
* ويُذْكَر أن بعض العابدات أصيبت في أصبعها، فشكرت الله، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
* فأهل السنة والجماعة رحمهم الله يأمرون بالصبر على البلاء والشكر عند الرخاء والرضى بمر القضاء.
تتمة:
القضاء يطلق على معنيين:
أحدهما: حكم الله تعالى الَّذي هو قضاؤه ووصفه؛ فهذا يجب الرضى به بكل حال، سواء كان قضاء دينيًّا أم قضاء كونيًّا، لأنه حكم الله تعالى، ومن تمام الرضى بربوبيته.
- فمثال القضاء الديني قضاؤه بالوجوب والتحريم والحل، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23].
- ومثال القضاء الكوني: قضاؤه بالرخاء والشدة والغنى والفقر والصلاح والفساد والحياة والموت، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
المعنى الثاني: المقضي، وهو نوعان:
الأول: المقضي شرعًا، فيجب الرضى به وقبوله، فيفعل
المأمور به، ويترك المنهي عنه، ويتمتع بالحلال.
والنوع الثاني: المقضي كونًا:
- فإن كان من فعل الله؛ كالفقر والمرض والجدب والهلاك ونحو ذلك؛ فقد تقدم أن الرضى به سنة، لا واجب، على القول الصحيح.
- وإن كان من فعل العبد؛ جرت فيه الأحكام الخمسة؛ فالرضى بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب، وبالمباح مباح، وبالمكروه مكروه، وبالحرام حرام.
* * *
* قوله: "ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال":
* "مكارم الأخلاق"؛ أي: أطايبها، والكريم من كل شيء هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء منه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"إياك وكرائم أموالهم"(1)؛ حين أمره بأخذ الزكاة من أهل اليمن.
* والأخلاق: جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان؛ يعني: السجايا والطبائع؛ فهم يدعون إلى أن يكون الإنسان سريرته كريمة؛ فيحب الكرم والشجاعة والتحمل من الناس والصبر، وأن يلاقي الناس بوجه طلق وصدر منشرح ونفس مطمئنة؛ كل هذه من مكارم الأخلاق.
(1) رواه: البخاري (4347)، ومسلم (19)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
* وأما "محاسن الأعمال"؛ فهي مما يتعلق بالجوارح، ويشمل الأعمال التعبدية والأعمال غير التعبدية؛ مثل البيع والشراء والإجارة؛ حيث يدعون الناس إلى الصدق والنصح في الأعمال كلها، وإلى تجنب الكذب والخيانة، وإذا كانوا يدعون الناس إلى ذلك؛ فهم بفعله أولى.
* قوله: "ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" (1).
* هذا الحديث ينبغي أن يكون دائمًا نصب عيني المؤمن؛ فأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا مع الله ومع عباد الله.
- أما حسن الخلق مع الله؛ فأن تتلقى أوامره بالقبول والإذعان والانشراح وعدم الملل والضجر، وأن تتلقى أحكامه الكونية بالصبر والرضى وما أشبه ذلك.
- أما حسن الخلق مع الخَلْق؛ فقيل: هو بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه.
بذل الندى؛ يعني: الكرم، وليس خاصًّا بالمال، بل بالمال والجاه والنفس، وكل هذا من بذل الندى.
وطلاقة الوجه ضده العبوس.
(1) رواه: أحمد (2/ 250)، والترمذي (2612)، وأبو داود (4682)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 53)، وابن حبان (2/ 227)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث حسنه الألباني في "الصحيحة"(284).
وكذلك كف الأذى بأن لا يؤذي أحدًا لا بالقول ولا بالفعل.
* * *
* قوله: "ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك":
* "يندبون"، أي: يدعون.
* "أن تصل من قطعك": من الأقارب ممن تجب صلتهم عليك، إذا قطعوك؛ فصلهم، لا تقل: من وصلني؛ وصلته! فإن هذا ليس بصلة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من إذا قطعت رحمه؛ وصلها"(1)، فالواصل هو الَّذي إذا قطعت رحمه؛ وصلها.
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إن لي أقارب؛ أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن كنت كما قلت" فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك" (2).
"تسفهم المل"، أي: كأنما تضع التراب أو الرماد الحار في أفواههم.
* فأهل السنة يندبون إلى أن تصل من قطعك، وأن تصل من وصلك بالأولى؛ لأن من وصلك وهو قريب، صار له حقان: حق
(1) رواه البخاري (5991) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (2558) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
القرابة، وحق المكافأة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"من صنع إليكم معروفًا؛ فكافئوه"(1).
* "وتعطي من حرمك"؛ أي: من منعك، ولا تقل: منعني؛ فلا أعطيه.
* "وتعفو عمن ظلمك"؛ أي: من انتقصك حقك: إما بالعدوان، وإما بعدم القيام بالواجب.
* والظلم يدور على أمرين: اعتداء وجحود: إما أن يعتدى عليك بالضرب وأخذ المال وهتك العرض، وإما أن يجحدك فيمنعك حقك.
وكمال الإنسان أن يعفو عمن ظلمه.
* ولكن العفو إنما يكون عند القدرة على الانتقام، فأنت تعفو مع قدرتك على الانتقام.
أولًا: رجاء لمغفرة الله عز وجل ورحمته؛ فإن من عفا وأصلح؛ فأجره على الله.
ثانيًا: لإصلاح الود بينك وبين صاحبك؛ لأنك إذا قابلت إساءته بإساءة؛ استمرت الإساءة بينكما، وإذا قابلت إساءته بإحسان؛ عاد إلى الإحسان إليك، وخجل.
قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
(1) تقدم تخريجه (2/ 190).
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فالعفو عند المقدرة من سمات أهل السنة والجماعة، لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحًا؛ فإن تضمن العفو إساءة؛ فإنهم لا يندبون إلى ذلك؛ لأن الله اشترط، فقال:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40]؛ أي: كان في عفوه إصلاح، أما من كان في عفوه إساءة، أو كان سببًا للإساءة؛ فهنا نقول: لا تعف! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفوه هذا سببًا لاستمرار هذا المجرم في إجرامه؛ فترك العفو هنا أفضل، وربما يجب ترك العفو حينئذ.
* * *
* قوله: "ويأمرون ببر الوالدين": وذلك لعظم حقهما.
* ولم يجعل الله لأحد حقًّا يلي حقه وحق وسوله إلا للوالدين، فقال:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
وحق الرسول في ضمن الأمر بعبادة الله؛ لأنه لا تتحقق العبادة حتى يقوم بحق الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بمحبته واتباع سبيله، ولهذا كان داخلًا في قوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، وكيف يعبد الله إلا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
وإذا عبد الله على مقتضى شريعة الرسول؛ فقد أدى حقه.
ثم يلي ذلك حق الوالدين؛ فالوالدان تعبا على الولد، ولا سيما الأم، قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]، وفي آية أخرى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]، والأم تتعب في الحمل، وعند الوضع، وبعد الوضع، وترحم صبيها أشد من رحمة الوالد له، ولهذا كانت أحق الناس بحسن الصحبة والبر، حتى من الأب.
قال رجل: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". ثم قال في الرابعة: "ثم أبوك"(1).
والأب أيضًا يتعب في أولاده، ويضجر بضجرهم، ويفرح لفرحهم، ويسعى بكل الأسباب التي فيها راحتهم وطمأنينتهم وحسن عيشهم، يضرب الفيافي والقفار من أجل تحصيل العيش له ولأولاده.
فكل من الأم والأب له حق؛ مهما عملت من العمل؛ لن تقضي حقهما، ولهذا قال الله عز وجل:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]؛ فحقهم سابق؛ حيث ربياك صغيرًا حين لا تملك لنفسك نفعًا ولا ضرًّا؛ فواجبهما البر.
* والبر فرض عين بالإجماع على كل واحد من الناس، ولهذا قدمه النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله؛ كما في حديث ابن مسعود؛ قال: قلت: يا رسول الله! أي العمل حب إلى الله؟
(1) رواه: البخاري (5971)، ومسلم (2548)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين".
قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(1).
* والوالدان هما الأب والأم، أما الجد والجدة؛ فلهما بر، لكنه لا يساوي بر الأم والأب؛ لأن الجد والجدة لم يحصل لهما ما حصل للأم والأب من التعب والرعاية والملاحظة؛ فكان برهما واجبًا من باب الصلة، لكن هما أحق الأقارب بالصلة، أما البر؛ فإنه للأم والأب.
* لكن؛ ما معنى البر؟
البر: إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وكف الشر.
إيصال الخير بالمال، إيصال الخير بالخدمة، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما، من طلاقة الوجه، وحسن المقال والفعال، وبكل ما فيه راحتهما.
* ولهذا كان القول الراجح وجوب خدمة الأب والأم على الأولاد، إذا لم يحصل على الولد ضرر، فإن كان عليه ضرر؛ لم يجب عليه خدمتهما، اللهم إلا عند الضرورة.
ولهذا نقول: إن طاعتهما واجبة فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الولد فيه، أما ما فيه ضرر عليه، سواء كان ضررًا دينيًّا؛ كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم؛ فإنه لا طاعة لهما في ذلك، أو كان ضررًا بدنيًّا؛ فلا يجب عليه طاعتهما. أما المال، فيجب عليه
(1) رواه: البخاري (5970)، ومسلم (85)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أن يبرهما ببذله، ولو كثر، إذا لم يكن عليه ضرر، ولم تتعلق به حاجته، والأب خاصة له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ما لم يضر.
* وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم؛ وجدنا كثيرًا منهم لا يبر بوالديه، بل هو عاق؛ تجده يحسن إلى أصحابه، ولا يمل الجلوس معهم، لكن لو يجلس إلى أبيه أو أمه ساعة من نهار؛ لوجدته متململًا، كأنما هو على الجمر؛ فهذا ليس ببار، بل البار من ينشرح صدره لأمه وأبيه ويخدمهما على أهداب عينيه، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع.
وكما قالت العامة: "البر أسْلاف"؛ فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة؛ فإنه يجازى به في الدنيا. فالبر والعقوق كما يقول العوام: "أسلاف"، أقراض؛ تستوفى، إن قدمت البر؛ برك أولادك، وإن قدمت العقوق؛ عقك أولادك
…
وهنا حكايات كثيرة في أن من الناس من بر والديه فبر به أولاده، وكذلك العقوق فيه حكايات تدل على أن الإنسان عقه أولاده كما عق هو آباءه.
فأهل السنة والجماعة يأمرون ببر الوالدين.
* * *
* وكذلك يأمرون بصلة الأرحام.
* ففرق بين الوالدين والأقارب الآخرين، الأقارب لهم
الصلة، والوالدان لهما البر، والبر أعلى من الصلة؛ لأن البر كثرة الخير والإحسان، لكن الصلة ألا يقطع، ولهذا يقال في تارك البر: إنه عاق، ويقال فيمن لم يصل: إنه قاطع!
* فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحرمان من دخول الجنة.
قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة قاطع"(1)؛ أي: قاطع رحم.
* والصلة جاءت في القرآن والسنة مطلقة.
وَكُلُّ ما أتى وَلَمْ يُحَدَّدِ
…
بِالشَّرْعِ كَالحِرْزِ فَبِالعُرْفِ احْدُدِ (2)
وعلى هذا؛ يرجع إلى العرف فيها؛ فما سماه الناس صلة؛ فهو صلة، وما سماه قطيعة؛ فهو قطيعة، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأمم.
- إذا كان الناس في حالة فقر، وأنت غني، وأقاربك فقراء؛ فصلتهم أن تعطيهم بقدر حالك.
(1) رواه: البخاري (5984)، ومسلم (2556)؛ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(2)
من منظومة الشيخ حفظه الله في أصول الفقه، انظر "مجلة الحكمة" العدد (1).
- وإذا كان الناس أغنياء، وكلهم في خير؛ فيمكن أن الذهاب إلى أقاربك في الصباح أو المساء يعد صلة.
* وفي زماننا هذا الصلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض، والصلة التامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وترى مشاكلهم، ولكن هذه مع الأسف مفقودة؛ كما أن البر التام مفقود عند كثير من الناس.
* * *
* قوله: "وحسن الجوار":
* أي: ويأمرون؛ يعني: أهل السنة والجماعة بحسن الجوار مع الجيران، والجيران هم الأقارب في المنزل، وأدناهم أولاهم بالإحسان والإكرام:
قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، فأوصى الله بالإحسان إلى الجار القريب والجار البعيد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم جاره"(1).
وقال: "إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك".
وقال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
(1) رواه: البخاري (6135)، ومسلم (48)؛ عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه.
سيورثه" (1).
وقال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"(2).
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالجار والإحسان إليه وإكرامه.
* والجار إن كان مسلمًا قريبًا؛ كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان قريبًا جارًا؛ فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار.
وإن كان مسلمًا غير قريب وهو جار؛ فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
وإن كان جارًا كافرًا بعيدًا؛ فله حق واحد، وهو حق الجوار.
* فأهل السنة والجماعة يأمرون بحسن الجوار مطلقًا، أيًّا كان الجار، ومن كان أقرب؛ فهو أولى.
* ومن المؤسف أن بعض الناس اليوم يسيئون إلى الجار أكثر مما يسيئون إلى غيره؛ فتجده يعتدي على جاره بالأخذ من ملكه وإزعاجه.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله في آخر باب الصلح في الفقه
(1) رواه: البخاري (6014)، ومسلم (2624)؛ عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري (6016)؛ عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه.
شيئًا من أحكام الجوار؛ فليرجع إليه.
* * *
* قوله: "والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل":
* كذلك يأمرون؛ أي: أهل السنة والجماعة بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة.
* اليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه.
وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث عليه في عدة أحاديث (1).
ووجه ذلك أن اليتيم قد انكسر قلبه بفقد أبيه؛ فهو في حاجة إلى العناية والرفق.
والإحسان إلى اليتامى يكون بحسب الحال.
* والمساكين: هم الفقراء، وهو هنا شامل للمسكين والفقير.
فالإحسان إليهم مما أمر به الشرع في آيات متعددة من القرآن، وجعل لهم حقوقًا خاصة في الفيء وغيره.
ووجه الإحسان إليهم أن الفقر أسكنهم وأضعفهم وكسر قلوبهم، فكان من محاسن الإسلام أن نحسن إليهم جبرًا لما حصل
(1) والتي منها ما رواه البخاري (6005)؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال: بالسبابة والوسطى.
لهم من النقص والانكسار.
والإحسان إلى المساكين يكون بحسب الحال: فإذا كان محتاجًا إلى طعام؛ فالإحسان إليه بأن تطعمه، وإذا كان محتاجًا إلى كسوة؛ فالإحسان إليه بأن تكسوه، وإلى اعتبار بأن توليه اعتبارًا، فإذا دخل المجلس؛ ترحب به، وتقدمه لأجل أن ترفع من معنويته.
فمن أجل هذا النقص الذي قدره الله عز وجل عليهم بحكمته أمرنا عز وجل أن نحسن إليهم.
* كذلك ابن السبيل، وهو المسافر، وهو هنا المسافر الذي انقطع به السفر، أو لم ينقطع؛ بخلاف الزكاة؛ لأن المسافر غريب، والغريب مستوحش، فإذا آنسته بإكرامه والإحسان إليه؛ فإن هذا مما يأمر به الشرع.
فإذا نزل ابن سبيل بك ضيفًا؛ فمن إكرامه أن تكرم ضيافته.
لكن قال بعض العلماء: إنه لا يجب إكرامه بضيافته إلا في القرى دون الأمصار!
ونحن نقول: بل هي واجبة في القرى والأمصار؛ إلا أن يكون هناك سبب؛ كضيق البيت مثلًا، أو أسباب أخرى تمنع أن تضيف هذا الرجل، لكن على كل حال ينبغي إذا تعذر أن تحسن الرد.
* * *
* قوله: "والرفق بالمملوك"؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة يأمرون بالرفق بالمملوك.
* وهذا يشمل المملوك الآدمي والبهيم:
- فالرفق بالمملوك الآدمى أن تطعمه إذا طعمت، وتكسوه إذا اكتسيت، ولا تكلفه ما لا يطيق.
- والرفق بالمملوك من البهائم سواء كانت مما تركب أو تحلب أو تقتنى؛ يختلف بحسب ما تحتاج إليه؛ ففي الشتاء تجعل في الأماكن الدافئة إذا كانت لا تتحمل البرد، وفي الصيف في الأماكن الباردة إذا كانت لا تتحمل الحر، ويؤتى لها بالطعام وبالشراب إن لم تحصل عليه بنفسها بالرعي، وإذا كانت مما تحمل؛ فلا تحمل ما لا تطيق.
وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه لم ينس حتى البهائم، وعلى شمولية طريقة أهل السنة والجماعة.
* * *
* قوله: "وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق".
* الفخر بالقول، والخيلاء بالفعل، والبغي العدوان، والاستطالة الترفع والاستعلاء.
فينهون عن الفخر: أن يتفاخر الإنسان على غيره بقوله، فيقول: أنا العالم! أنا الغني! أنا الشجاع!
وإن زاد على ذلك أن يستطيل على الآخرين ويقول: ماذا أنتم عندي؟ فيكون هذا فيه بغي واستطالة على الخلق.
والخيلاء تكون بالأفعال؛ يتخايل في مشيته وفي وجهه وفي رفع رأسه ورقبته إذا مشى، كأنه وصل إلى السماء، والله عز وجل وبخ من هذا فعله، وقال:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].
فأهل السنة والجماعة ينهون عن هذا، ويقولون: كن متواضعًا في القول وفي الفعل، حتى في القول، لا تثن على نفسك بصفاتك الحميدة؛ إلا حيث دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك؛ كقول ابن مسعود رضي الله عنه:"لو أعلم أحدًا هو أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل؛ لركبت إليه"(1)؛ فإنه رضي الله عنه قصد بذلك أمرين:
الأول: حث الناس على تعلم كتاب الله تعالى.
والثاني: دعوتهم للتلقي عنه.
والإنسان ذو الصفات الحميدة لا يظن أن الناس تخفى عليهم خصاله أبدًا، سواء ذكرها للناس أم لم يذكرها، بل إن الرجل إذا صار يعدد صفاته الحميدة أمام الناس؛ سقط من أعينهم؛ فاحذر هذا الأمر.
* والبغي: العدوان على الغير، ومواقعه ثلاثة بينها الرسول
(1) رواه مسلم (2463).
- صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"(1).
فالبغي على الخلق بالأموال والدماء والأعراض.
- في الأموال؛ مثل أن يدعي ما ليس له، أو ينكر ما كان عليه، أو يأخذ ما ليس له؛ فهذا بغي على الأموال.
- وفي الدماء: القتل فما دونه؛ يعتدي على الإنسان بالجرح والقتل.
- وفي الأعراض: يحتمل أن يراد بها الأعراض؛ يعني: السمعة، فيعتدى عليه بالغيبة التي يشوه بها سمعته، ويحتمل أن يراد بها الزنى وما دونه، والكل محرم؛ فأهل السنة والجماعة ينهون عن الاعتداء على الأموال والدماء والأعراض.
* وكذلك الاستطالة على الخلق؛ يعني: الاستعلاء عليهم بحق أو بغير حق.
فالاستعلاء على الخلق ينهى عنه أهل السنة والجماعة، سواء كان بحق أو بغير حق، والاستعلاء هو أن الإنسان يترفع على غيره.
وحقيقة الأمر أن من شكر نعمة الله عليك أن الله إذا من عليك بفضل على غيرك من مال أو جاه أو سيادة أو علم أو غير ذلك؛ فإنه ينبغي أن تزداد تواضعًا، حتى تضيف إلى الحسن حسنًا؛ لأن الذي يتواضع في موضع الرفعة هو المتواضع حقيقة.
(1) رواه البخاري (1739)؛ من حديث ابن عباس، ومسلم (1679)؛ من حديث أبي بكرة.
* ومعنى قوله: "بحق"؛ أي: حتى لو كان له الحق في بيان أنه عال مترفع؛ فإن أهل السنة والجماعة ينهون عن الاستعلاء والترفع.
أو يقال: إن معنى قوله: "الاستطالة بحق": أن يكون أصل استطالته حقًّا؛ بأن يكون قد اعتدى عليه إنسان، فيعتدي عليه أكثر.
فأهل السنة والجماعة رحمهم الله ينهون عن الاستطالة والاستعلاء على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق.
* * *
* قوله: "ويأمرون بمعالي الأخلاق".
أي: ما كان عاليًا منها، كالصدق والعفاف وأداء الأمانة ونحو ذلك.
* "وينهون عن سفسافها"؛ أي: رديئها؛ كالكذب والخيانة والفواحش ونحو ذلك.
* * *
* قوله: "وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره؛ فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم".
* "كل ما يقولونه"؛ أي: أهل السنة والجماعة.
* "ويفعلونه": من هذا وغيره.
* "فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة": وهذه حال ينبغي أن يتنبه لها، وهو أننا كل ما نقوله وكل ما نفعله نشعر حال قوله أو فعله أننا نتبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله؛ لتكون أقوالنا وأفعالنا كلها عبادات لله عز وجل، ولهذا يقال: إن عبادات الغافلين عادات، وعادات المنتبهين عبادات.
فالإنسان الموفق يمكن أن يحول العادات إلى عبادات، والإنسان الغافل يجعل عباداته عادات.
فليحرص المؤمن على أن يجعل أقواله وأفعاله كلها تبعًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينال بذلك الأجر، ويحصل به كمال الإيمان والإنابة إلى الله عز وجل.
* * *
* قوله: "لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة"(1):
(1) رواه: أحمد (4/ 102)، وأبو داود (4597)، وابن ماجه (2/ 479)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 33)، والآجري في "الشريعة"(18)، واللالكائي في "شرح السنة"(150)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 128)؛ من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق حديث معاوية:"هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو، وعن الأزهر بن عبد الله الحزازي، وعن أبي عامر عبد الله بن لحي، عن معاوية، رواه عنه غير واحد .. "، وانظر:"اقتضاء الصراط"(1/ 118)، و"السلسلة الصحيحة" للألباني (204).
* "أن أمته"؛ يعني: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة؛ لأن أمة الدعوة يدخل فيها اليهود والنصارى، وهم مفترقون؛ فاليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين؛ كلها تنسب نفسها إلى الإسلام واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وقوله: "كلها في النار إلا واحدة": لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإنما المعنى أن عملها مما تستحق به دخول النار.
* وهذه الثلاث والسبعون فرقة؛ هل وقعت الآن وتمت أو هي في المنظور؟
أكثر الذين تكلموا على هذا الحديث قالوا: إنها وقعت وانتهت، وصاروا يقسمون أهل البدع إلى خمسة أصول رئيسة، ثم هذه الخمسة الأصول يفرعون عنها فرقًا، حتى أوصلوها إلى اثنتين وسبعين فرقة، وأبقوا فرقة واحدة، وهي أهل السنة والجماعة.
وقال بعض العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أبهم هذه الفرق، ولا حاجة أن نتكلم فنقسم البدع الموجودة الآن إلى خمسة أصول، ثم نقسم هذه الأصول إلى فروع، حتى يتم العدد، حتى إننا نجعل الفرع أحيانًا فرقة تامة من أجل مخالفتها في فرع واحد؛ فإن هذا لا يعد فرقة مستقلة.
فالأولى أن نقول: إن هذه الفرق غير معلومة لنا، ولكننا نقول: بلا شك أنها فرق خرجت عن الصراط المستقيم؛ منها ما
خرج فأبعد، ومنها ما خرج خروجًا متوسطًا، ومنها ما خرج خروجًا قريبًا، ولا نلزم بحصرها؛ لأنه ربما يخرج فرق تنتسب للأمة الإسلامية غير التي عدها العلماء؛ كما هو الواقع؛ فقد خرج فرق تنتسب إلى الإسلام من غير الفرق التي كانت قد عدت في عهد العلماء السابقين.
وعلى كل حال؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن أمته أمة الإجابة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها ضالة، وفي النار؛ إلا واحدة:
* قال: "وهي الجماعة"؛ يعني: التي اجتمعت على الحق ولم تتفرق فيه.
* قوله: "وفي حديث عنه أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (1)؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة".
* قال: "وفي حديث عنه أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"": والذين كانوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الجماعة الذين اجتمعوا على شريعته، وهم الذين امتثلوا ما وصى الله به:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]؛ فهم لم يتفرقوا، بل كانوا جماعة واحدة.
* قال: "صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن
(1) سبق تخريجه في الجزء الأول.
الشوب هم أهل السنة والجماعة": جملة "صار" جواب الشرط في قوله: "لكن لما".
* فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟
فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب.
* وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيمية يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة؛ لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع.
وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة.
وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟!
لأنه يقال: إما أن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف؛ لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم. فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم؛ صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك.
* * *
* قوله: "وفيهم"؛ أي: في أهل السنة.
* "الصديقون": جمع صديق، من الصدق، وهذه الصيغة للمبالغة، وهو الذي جاء بالصدق وصدق به؛ كما قال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]؛ فهو صادق في قصده، وصادق في قوله، وصادق في فعله.
- أما صدقه في قصده؛ فعنده تمام الإخلاص لله عز وجل، وتمام المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، قد جرد الإخلاص والمتابعة، فلم يجعل لغير الله تعالى شركًا في العمل، ولم يجعل لغير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا في عمله؛ فلا شرك عنده ولا ابتداع.
- صادق في قوله، لا يقول إلا صدقًا، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا"(1).
- صادق في فعله؛ بمعنى: أن فعله لا يخالف قوله، فإذا قال؛ فعل، وبهذا يخرج عن مشابهة المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.
- وأيضًا يصدق بما قامت لبينة على صدقه؛ فليس عنده رد للحق، ولا احتقار للخلق.
* ولهذا كان أبو بكر أول من سمي لصديق من هذه الأمة؛ لأنه لما أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يتكلم أنه أسري
(1) رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء؛ صار الكفار يضحكون به ويكذبونه ويقولون: كيف تذهب يا محمد في ليلة وتصل في ليلة إلى ما وصلت إليه في السماء ونحن إذا ذهبنا إلى الشام نبقى شهرًا حتى نصله وشهرًا للرجوع؟! فاتخذوا من هذا سلمًا ليكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما وصلوا إلى أبي بكر، وقالوا: إن صاحبك يحدث ويقول كذا وكذا! قال: إن كان قال ذلك؛ فقد صدق (1). فمن ذلك اليوم سمي الصديق، وهو أفضل الصديقين من هذه الأمة وغيرها.
* قوله: "وفيهم الشهداء": جمع شهيد؛ بمعنى: شاهد.
* فمن هم الشهداء؟
- قيل: هم العلماء؛ لأن العالم يشهد بشرع الله، ويشهد على عباد الله بأنها قامت عليهم الحجة، ولهذا يعد العالم مبلغًا عن الله عز وجل ورسوله شريعته التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون شاهدًا بالحق على الخلق.
- وقيل: إن الشهيد من قتل في سبيل الله.
والصحيح أن الآية عامة لهذا وهذا.
* قوله: "وفيهم الصالحون"، والصالح ضد الفاسد، وهو
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3/ 62)، وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء للبيهقي. وانظر:"السلسلة الصحيحة" للألباني (306).
الذي قام بحق الله وحق عباده، وهو غير المصلح؛ فالإصلاح وصف زائد على الصلاح؛ فليس كل صالح مصلحًا، فإن من الصالحين من همه هم نفسه، ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح.
* * *
* قوله: "ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى":
* الأعلام: جمع علم، وهو في الأصل الجبل؛ قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]؛ يعني: الجبال، وسمي الجبل علمًا، لأنه يهتدى به ويستدل به.
* و"أعلام الهدى": الذين يستدل الناس بهم ويهتدون بهديهم، وهم العلماء الربانيون؛ فإنهم هم الهداة، وهم مصابيح الدجى.
* والمصابيح: جمع مصباح، وهو ما يستصبح به للإضاءة.
* والدجى: جمع دجية، وهي الظلمة، أي: هم مصابيح الظلم، يستضيء بهم الناس، ويمشون على نورهم.
* قوله: "أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة":
* "المناقب": جمع منقبة، وهي المرتبة؛ أي: ما يبلغه الإنسان من الشرف والسؤدد.
* وأما "الفضائل"؛ فهي جمع فضيلة، وهي الخصال الفاضلة، التي يتصف بها الإنسان من العلم والعبادة والزهد والكرم
وغير ذلك؛ فالفضائل سلم للمناقب.
* * *
* قوله: "وفيهم الأبدال": "الأبدال": جمع بدل، وهم الذين تميزوا عن غيرهم بالعلم والعبادة، وسموا أبدالًا: إما لأنهم كلما مات منهم واحد؛ خلفه بدله، أو أنهم كانوا يبدلون سيئاتهم حسنات، أو أنهم كانوا لكونهم أسوة حسنة كانوا يبدلون أعمال الناس الخاطئة إلى أعمال صائبة، أو لهذا كله وغيره.
* * *
* قوله: "وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم":
* الإمام: هو القدوة.
* وفي أهل السنة والجماعة أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم؛ مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة المشهورين المعروفين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
* وقوله: "أئمة الدين": خرج به أئمة الضلال من أهل البدع؛ فهؤلاء ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم على خلاف أهل السنة والجماعة، وهم؛ وإن سموا أئمة؛ فإن من الأئمة أئمة يدعون إلى النار؛ كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً