الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في القيامة الكبرى
* قوله: "إلى أنْ تَقومَ القِيامَةُ الكُبْرى":
الشرح:
* القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين.
* وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: "القيامة الكبرى": أن هناك قيامة صغرى، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته.
* وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد.
وبعض أهل العلم الذين صنفوا في العقائد ذكروا أشراط
الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الآخر، وإن كانت هي من الأمور الغيبية التي أشار الله إليها في القرآن وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
* * *
• الأمر الأول مما يكون في القيامة:
ما أشار إليه المؤلف بقوله: "فَتُعادُ الأرْواحُ إلى الأجْسادِ".
هذا أول الأمور:
* ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض؛ إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها، وتحل فيها.
* وفي قول المؤلف: "إلى الأجساد": إشارة إلى أن الأرواح لا تخرج من الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها.
* وفي قوله: "تعاد الأرواح إلى الأجساد": دليل على أن البعث إعادة، وليس تجديدًا، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميمًا؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها،
وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد؛ فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل:
- أما الكتاب؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه.
وفي الحديث القدسي: "يقول الله تعالى: ليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته"(1)؛ فالكل على الله هين.
وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16].
وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].
- وأما السنة؛ فهي كثيرة جدًّا في هذا؛ حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم "أن الناس يحشرون حفاة عراة غُرْلًا"(2)؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم.
(1) رواه البخاري (4974) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
لما رواه البخاري (3349 و 3447)، ومسلم (2860)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلًا
…
".
فالمهم؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة.
* فإذا قلت: ربما يؤكل الإنسان من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الآكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك؟
فالجواب: أن الأمر هين على الله؛ يقول: كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدرة الله عز وجل فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير.
* * *
* قوله: "وَتَقومُ القِيامَةُ التي أخْبَرَ اللهُ بِها في كِتابِهِ وَعَلى لِسانِ رَسولِهِ وَأجْمَعَ عَلَيْها المُسْلِمونَ".
هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بإجماع المسلمين.
- فأما كتاب الله تعالى؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عز وجل بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها:
وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 3].
وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1 - 5].
والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها؛ فلن نعمل لها؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم.
- وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
- وأما الإجماع -وهو النوع الثالث-؛ فقد أجمع المسلمون إجماعًا قطعيًّا على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريبًا عن الإِسلام وجاهلًا؛ فإنه يعرَّف؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك؛ فهو كافر.
- وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك، وحتى الآن يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم، أو: رحمه الله، أو: ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.
- وثَمَّ نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم، لكان إيجاد الخلائق عبثًا، والله عز وجل منزه عن العبث، فما الحكمة من قوم يُخلقون ويُؤمرون ويُنهون ويُلزَمون بما يُلزَمون به ويُندَبون إلى ما يُندَبون إليه، ثم يموتون، ولا حساب، ولا عقاب؟!
ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].
كيف يُفرض القرآن ويُفرض العمل به، ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من هذا القرآن الذي فرض علينا؟!
فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة.
* * *
• الأمر الثاني مما يكون في القيامة:
ما أشار إليه بقوله: "فَيَقومُ النَّاسُ مِنْ قُبورِهِمْ لِرَبِّ العالَمينَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا".
* قوله: "من قبورهم": هذا بناء على الأغلب، وإلا، فقد يكون الإنسان غير مدفون.
* قوله: "لرب العالمين"؛ يعني: لأن الله عز وجل يناديهم.
قال الله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 41، 42] فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عز وجل.
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].
* قوله: "حُفاة عُراةً غُرْلًا": "حفاة": ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم لباس للرجل.
* "عراة": ليس عليهم لباس للجسد.
* "غرلًا": لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]؛ فيعاد كاملًا، لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالًا ونساء.
ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك؛ قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: "الأمر أشد من أن يُهِمَّهم ذلك"(وفي رواية: من أن ينظر بعضهم إلى بعض)(1).
فكل إنسان له شأن يغنيه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
(1) رواه البخاري (6527)، والرواية الأخرى عند مسلم (2859)، عن عائشة رضي الله عنها.
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]. لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفًا من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم.
ولكن؛ مع ذلك؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
* * *
• الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة:
ما أشار إليه بقوله: "وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ".
* "تدنو": أي: تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل.
وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا، وبيننا وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل (2)؟!
(1) رواه: البخاري (3349)، ومسلم (2860)؛ عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
كما جاء في صحيح مسلم (2864)، من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق =
* قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطبها؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟
فالجواب على ذلك: أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملًا.
لو أن الناس الآن وقفوا خمسين يومًا في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك، بل يموتون! لكن يوم القيامة يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عز وجل، ومع ذلك؛ يشاهدون أهوالًا عظيمة؛ فيتحملون.
واعتبر بأهل النار؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛ {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].
وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
* فإن قيل: هل أحد يسلم من الشمس؟
فالجواب: نعم! هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: "إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله
= إلجامًا"، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه".
(1)
رواه أحمد (2/ 64)، والترمذي (2553)، والحاكم (2/ 509)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1985).
اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا؛ ففاضت عيناه" (1).
وهناك أيضًا أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
* وقوله: "لا ظل إلا ظله"؟ يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل.
ففي الدنيا؛ نحن نبني الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده.
• الأمر الرابع مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله: "وَيُلْجِمْهُمُ العَرَقُ".
* "يلجمهم"؛ أي: يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم.
* ولكن هذا غاية ما يصل إليه العرق، وإلا؛ فبعضهم يصل العرق إلى كعبيه، وإلى ركبيته، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه؛ فهم يختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام
(1) رواه: البخاري (660)، ومسلم (1031)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
مقام زحام وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم (1).
* فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟
فالجواب: أننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها، وهي: أن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول: كيف؟! ولِمَ؟! لأنها شيء وراء عقولنا، ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها.
أرأيت لو أن رجلين دُفِنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن، والثاني: كافر؛ فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق، وينال الكافر من العذاب ما يستحق، وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة.
* فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان، ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟
فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم، بل نقول: من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟! ولِمَ؟!
(1) انظر: (2/ 134).
فهذا ليس إلينا.
* * *
• الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره بقوله: "فتُنْصَبُ المَوازينُ فَتُوزَنُ بِها أعْمالُ العِبادِ".
* الذي ينصب الموازين هو الله عز وجل، لتوزن بها أعمال العباد.
* والمؤلف يقول: "الموازين": بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد:
- فمثال الجمع: قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8، 9].
- وأما الإفراد؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"(1).
فقال: "في الميزان"؛ فأفرد؛
فكيف نجمع بين الآيات القرآنية وبين هذا الحديث؟!
فالجواب أن نقول:
(1) رواه: البخاري (6406)، ومسلم (2694)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث إنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة.
أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام: "ثقيلتان في الميزان"؛ أي: في الوزن.
ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8].
لكن يتوقف الإنسان: هل يكون ميزانًا واحدًا لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت عليه النصوص تختلف باعتبار أجرها؟!
* وقوله: "تنصب الموازين": ظاهره أنها موازين حسية، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف؛ إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجحًا ومرجوحًا.
وخالف في ذلك جماعة:
- فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان: الميزان المعنوي الذي هو العدل.
ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، ولأننا إذا قلنا: إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان؛ بل نعبر بالعدل؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان)، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].
- وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول: إن الراجح هو الذي ينزل، ويدل لذلك حديث صاحب البطاقة، فإن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح، بأن الرجحان يكون بالنزول.
* وقوله: "فتوزن بها أعمال العباد": كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن: العمل.
* وهنا مبحثان:
المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل، وليس جسمًا فيوزن؟!
والجواب على ذلك: أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار (1)، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي
(1) كما جاء ذلك في "صحيح البخاري"(4730)، ومسلم (2849)؛ عن أبي سعيد =
يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت، حيث يجعله الله تعالى جسمًا يشاهد ويرى، كذلك الأعمالك يجعلها الله عز وجل أجسامًا توزن بهذا الميزان الحسي.
المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل، سواء كان خيرًا أم شرًّا:
وهذا هو ظاهر القرآن؛ كما قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8]؛ فهذا واضح أن الذي يوزن العمل، سواء كان خيرًا أم شرًّا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان"(1)، وهذا ظاهر أيضًا، بل صريح، في أن الذي يوزن العمل، والنصوص في هذا كثيرة.
ولكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث:
- منها حديث صاحب البطاقة، رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلًّا؛ كل سجل منها يبلغ مد البصر، فيقر بها، فيقال له: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول الله: بلى؛ إن لك
= الخدري رضي الله عنه.
(1)
تقدم تخريجه (2/ 138)، وهو في "الصحيحين".
عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة
…
الحديث (1).
وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
- وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل:
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]؛ مع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية؛ فيقال: إن معنى قوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ؛ يعني: قدرًا.
ومثل ما ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مم تضحكون؟ ". قالوا: من دقة ساقيه. قال: "والذي
(1) رواه: أحمد (2/ 213)، والترمذي (2639) وحسنه، وابن ماجه (4300)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 529) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة"(135)، وللحافظ حمزة الكناني "جُزء البطاقة".
نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد" (1).
فصار ها هنا ثلاثة أشياء: العمل، والعامل، والصحائف.
- فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.
- وقال بعض العلماء: الجمع بينها أن يقال: إن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف، ويبقى وزن صاحب العمل، فيكون لبعض الناس.
- ولكن عند التأمل نجد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.
وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمرًا يخص الله به من يشاء من عباده.
* * *
* قوله: " {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] ":
(1) رواه أحمد (1/ 421)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 289):"رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".
* {فَمَنْ} : شرطية.
* وجواب الشرط جملة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وأتت الجملة الجزائية جملة اسمية بصفة الحصر {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد {فَأُولَئِكَ} ، ولم يقل: فهم المفلحون. إشارة إلى علو مرتبتهم.
وجاءت بصفة الحصر في قوله: {هُمُ} ، وهو ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة.
* والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب.
* والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات.
* وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : فيه إشكال من جهة العربية؛ فإن {مَوَازِينُهُ} الضمير فيه مفرد، و {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الضمير فيه جمع!!
وجوابه أن (من) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفردًا، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعًا.
وكلما جاءت (من)؛ فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع، وهذا كثير في القرآن؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ
رِزْقًا} [الطلاق: 11]؛ فتجد الآية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ.
* قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103].
* والإشارة هنا للبعد، لانحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم.
* وقوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به.
فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئًا، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم؛ لأنهم لم ينتفعوا بها، حتى ما أعطوه للخلق لينتفِع به، فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] وخسروا أهليهم، لأنهم في النار، فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا.
* والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم، كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها، وهو أحد القولين لأهل العلم.
والقول الثاني: أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105].
والله أعلم.
* * *
• الأمر السادس مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَتُنْشَرُ الدَّواوينُ".
* "تنشر"؛ أي: تفرق وتفتح لقارئها.
* "والدواوين": جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك.
* قال: "وهي صحائف الأعمال"؛ يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 - 12].
فيكتب هذا العمل، ويكون لازمًا للإنسان في عنقه، فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب.
قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14].
قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك.
* والكتابة في صحائف الأعمال: إما للحسنات، وإما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به؛ فهذه ثلاثة أشياء:
- فأما ما عمله؛ فظاهر أنه يكتب.
- وأما ما نواه، فإنه يكتب له، لكن يكتب له أجر النية فقط كاملًا؛ كما في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالًا؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهو بنيته؛ فأجرهما سواء"(1).
ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إن أهل الدثور سبقونا. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين
…
فلما سمع الأغنياء بذلك؛ فعلوا مثله، فرجع الفقراء يشكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (2)، ولم يقل: إنكم بنيتكم
(1) قطعة من الحديث الذي رواه أحمد (4/ 230)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة الأنماري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3024).
(2)
رواه البخاري (843)، ومسلم (595)، عن حديث أبي هريرة.
أدركتم عملهم.
ولأن هذا هو العدل؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل، لكن يكون مثله في أجر النية فقط.
- وأما الهم؛ فينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله.
فهذا يكتب له الأجر كاملًا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].
وهذه بشرى لطلبة العلم: إذا نوى الإنسان أنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك؛ بأن مات مثلًا وهو في طلبه؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه.
بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب؛ فإنه يكتب له أجره.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"(1).
القسم الثاني: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته.
(1) رواه البخاري (2996)، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله، ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه.
فالأول: واضح.
والثاني: يكتب عليه كاملًا؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه"(1)، ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملًا؛ لأنه سعى فيه.
والثالث: الذي نواه وتمناه يكتب عليه، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالًا؛ فكان يتخبط فيه، فقال رجل فقير: لو أن لي مالًا؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فهو بنيته؛ فوزرهما سواء"(2).
ولو هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاثة أقسام:
1 -
إن تركها عجزًا؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها.
2 -
وإن تركها لله؛ كان مأجورًا.
(1) رواه: البخاري (31)، ومسلم (2888)؛ عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه (2/ 147).