المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - شرح العقيدة الواسطية - العثيمين - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌فصل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌السُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبيِّنُهُ

- ‌فصل في أحاديث الصفات

- ‌ الحديث الأول في إثبات نزول الله إلى السماء الدنيا:

- ‌ الحديث الثاني في إثبات الفرح

- ‌ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذُّنوب

- ‌ الحديث الثالث في إثبات الضحك

- ‌ الحديث الرابع: في إثبات العجب وصفات أخرى

- ‌ الحديث الخامس: في إثبات الرجل أو القدم:

- ‌الفائدة المسلكية من هذا الحديث:

- ‌ الحديث السادس: في إثبات الكلام والصوت:

- ‌ الحديث السابع في إثبات الكلام أيضًا:

- ‌ الحديث الثامن: في إثبات العلو لله وصفات أخرى:

- ‌ الحديث التاسع: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الحديث العاشر: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الفائدة المسلكية من هذا الحديث:

- ‌ الحديث الحادي عشر: في إثبات العلو أيضًا:

- ‌ الحديث الثاني عشر: في إثبات المعية:

- ‌ الحديث الثالث عشر: في إثبات كون الله قبل وجه المصلي:

- ‌ الحديث الرابع عشر: في إثبات العلو وصفات أخرى:

- ‌ الحديث الخامس عشر: في إثبات قرب الله تعالى:

- ‌ الحديث السادس عشر: إثبات رؤية المؤمنين لربهم:

- ‌فصل مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة وأتصافهم بالوسطية

- ‌ الأصل الأول: باب الأسماء والصفات:

- ‌ الأصل الثاني: أفعال الله:

- ‌ الأصل الثالث: الوعيد:

- ‌ الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين:

- ‌فصل في المعية وبيان الجمع بينها وبيان علو الله واستوائه على عرشه

- ‌فصل في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته

- ‌فصل في الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة

- ‌فصل في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية

- ‌فصل في الإيمان باليوم الآخر

- ‌خامسًا: الصغار والمجانين

- ‌ تنبيه:

- ‌ الإجماع

- ‌فصل في القيامة الكبرى

- ‌ الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه:

- ‌الكلام على الحوض من عدة وجوه:

- ‌ الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط:

- ‌ الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة:

- ‌ تتمة:أبواب الجنة

- ‌ الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة:

- ‌فصل في الإيمان بالقدر

- ‌فصل في درجات الإيمان بالقدر

- ‌ما مِن مَخْلوقٍ في الأرضِ وَلا في السَّماءِ إلَّا اللهُ خالِقُهُ

- ‌لا يرضى لعباده الكفر

- ‌العِبادُ فاعِلونَ حَقيقَةً، وَاللهُ خالِقُ أفْعالِهِم

- ‌لِلعِبادِ قدرَةٌ عَلى أعمالِهِم، وَلَهُم إرادَةٌ، وَاللهُ خالِقُهم وَخالِقُ قدرَتِهم وَإرادَتِهِم

- ‌فصل في الإيمان

- ‌ الإيمانَ يَزيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ

- ‌أسباب زيادة الإيمان

- ‌ أسباب نقص الإيمان

- ‌فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر

- ‌من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل في كرامات الأولياء

- ‌الآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأمته

- ‌ الكرامات لها أربع دلالات:

- ‌فصل في طريقة أهل السنة العملية

- ‌ آثار الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر:

- ‌اتباع سبيل السابقين الأولين

- ‌ هل الإجماع موجود أو غير موجود

- ‌فصل في منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

- ‌ إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد؛ مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا

- ‌النصح للأمة

- ‌المؤمن للمؤمن كالبنيان

- ‌الصبر عند البلاء

- ‌الشكر عند الرخاء

- ‌الرضى بمر القضاء

- ‌ المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات:

- ‌القضاء يطلق على معنيين:

- ‌ أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

* أما من بعدهم؛ فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على النَّاس؛ فهو أحق بالخلافة من غيره؛ لأنَّ من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولى عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم؛ كما قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].

* وأعلم أن التَّرتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره؛ فإنَّه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة؛ فيجب التَّفريق بين الإطلاق والتقييد.

* * *

* قوله: "وَيُحِبُّونَ أهْلَ بَيْتِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَتَولَّوْنَهُم".

* أي: و‌

‌من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

-؛ يحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكرهونهم أبدًا.

ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض عليًّا!! وعلى هذا؛ فلا يمكن أن نحب عليًّا حتَّى نبغض أبا بكر وعمر!! وكأن أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب!! مع أنَّه قد تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنَّه كان يثني عليهما على المنبر.

ص: 273

فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته؛ نحبهم لمحبة الله ورسوله.

- ومن أهل بيته أزواجه بنص القرآن؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 28 - 33]؛ فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام بلا ريب.

- وكذلك يدخل فيه قرابته؛ فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطّلب وأبنائه.

فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولإيمانهم بالله.

فإن كفروا؛ فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره

ص: 274

ولإيذائه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب؛ يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه.

* قال المؤلف: "ويتولَّونهم"؛ أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصِّديق، والقريب، والمتولِّي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة. وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة.

* قوله: "ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي"(1) ".

* "وصية الرسول صلى الله عليه وسلم"؛ أي: عهده الذي عهد به إلى أمته.

* و "يوم غدير خم": هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة.

وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمى (خم)، وهو في الطريق الذي بين مكّة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصلاة والسلام فيه منزلًا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب النَّاس، وقال:"أذكركم الله في أهل بيتي"؛ ثلاثًا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم.

* قوله: "وقال أيضًا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم؛ فقال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتَّى

(1) رواه مسلم (2408) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

ص: 275

بحبوكم لله ولقرابتي" (1) ".

* "أيضًا": مصدر آض يئيض؛ أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعنى: عودًا على ما سبق.

* "يجفو": يترفع ويكره.

* "هاشم": هو جد أبي الرسول صَلَّى الله عليه وعلي الله وسلم.

* فأقسم صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون؛ أي: لا يتم إيمانهم؛ حتَّى يحبوكم لله، وهذه المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين؛ لأنَّ الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله.

* لكن قال: "ولقرابتي": فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام.

* وفي قول العباس: "إن بعض قريش يجفو بني هاشم": دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودًا منذ حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّ الحسد من طبائع البشر؛ إلَّا من عصمه الله عز وجل،

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 207)، وفي "فضائل الصّحابة"(1757)، عن العباس بلفظ:"والله لا يدخل قلب امرئ إيمان، حتَّى يحبكم لله ولقرابتي" عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.

ورواه الإمام أحمد في "فضائل الصّحابة"(1756)، بلفظ:"لن ينالوا خيرًا حتَّى يحبوكم لله ولقرابتي"، وإسناده ضعيف لإرساله. ورواه متصلًا طراد الزينبي في "أماليه"(88 ب)، كما نقله محقق "فضائل الصّحابة" وصي الله عباس (1756).

ص: 276

فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام على ما منَّ الله به عليهم من قرابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم.

* قوله: "وقال: إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"(1).

وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله، مختارون من خلقه.

* فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت: أنهم يحبونهم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلون فيهم، حتَّى يوصلوهم إلى حد الألوهية؛ كما فعل عبد الله بن سبأ في علي بن أبي طالب حين قال له: أنت الله! والقصة مشهورة.

* و"إسماعيل": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصته في سورة الصافات.

* و "كنانة": هو الأب الرابع عشر لرسول الله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

* و "قريش": هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة.

(1) رواه مسلم (2276)، والترمذي (3609 و 3612)؛ من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

ص: 277

* و "هاشم": هو الأب الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

* قوله: "ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين":

* قوله: "أمهات المؤمنين": هذه صفة لـ "أزواج"؛ فأزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة؛ قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]؛ فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض؛ لأنهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قوله: "ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة":

لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 7 - 8] فقال: {وَأَزْوَاجِهِمْ} ؛ فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدُّنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة.

* * *

* قوله: "خصوصًا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده":

* "خصوصًا خديجة رضي الله عنها": "خصوصًا": مصدر

ص: 278

محذوف العامل؛ أي: أخص خصوصًا.

* "خديجة" بنت خويلد: تزوجها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسًا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها صلى الله عليه وسلم انتفاعًا كثيرًا؛ لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدًا.

* فكانت كما قال المؤلف: "أم أكثر أولاده": البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده؛ لأنَّ من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم؛ فإنَّه كان من مارية القبطية.

وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطَّيِّب، والطاهر. وأمَّا البنات؛ فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب.

* قوله: "وأول من آمن به وعاضده على أمره": لا شك أنها أول من آمن به؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما جاءها وأخبرها بما رأى في غار حراء؛ قالت: كلا؛ والله لا يخزيك الله أبدًا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى (1).

"الناموس": أي: صاحب السر.

فآمن به ورقة.

(1) رواه: البُخاريّ (3)، ومسلم (160)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 279

ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل.

* قوله: "وعاضده على أمره"؛ أي: ساعده، ومن تدبر السيرة؛ وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لم يحصل لغيرها من نسائه.

* قوله: "وكان لها منه المنزلة العالية": حتَّى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول:"إنَّها كانت وكانت وكان لي منها ولد"(1)؛ فكان يثني عليها، وهذا يدل على عظم منزلتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قوله: "والصديقة بنت الصِّديق رضي الله عنها":

أما كونها صديقة؛ فلكمال تصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنَّه لما نزلت براءتها؛ قالت: إنِّي لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها.

وأمَّا كونها بنت الصِّديق؛ فكذلك أيضًا؛ فإن أباها رضي الله عنه هو الصِّديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها؛ لأنَّ هذه الأمة أفضل الأمم؛ فإذا كان صديق هذه الأمة؛ فهو صديق غيرها من الأمم.

(1) رواه: البُخاريّ (3818)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 280

* قوله: "التي قال فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطَّعام"".

* قوله: "على النساء": ظاهره العموم؛ أي: على جميع النساء. وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء؛ أي: من أزواجه اللاتي على قيد الحياة؛ فلا تدخل في ذلك خديجة.

* لكن ظاهر الحديث العموم؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلَّا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطَّعام"، وقد أخرجه الشيخان (1) بدون ذكر خديجة. وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقًا.

* ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب؛ لأنَّ فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسبًا.

وأمَّا منزلة؛ فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء.

* وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة؛ لأنَّه قال: "خصوصًا خديجة

والصديقة"، ولم يقل: ثم الصديقة.

* والعلماء اختلفوا في هذه المسألة:

(1) رواه: البُخاريّ (3769)، ومسلم (2431)؛ عن أبي موسى الأشعري. وزيادة خديجه عزاها الحافظ في الفتح (6/ 447) للطبراني وأبي نعيم في "الحلية".

ص: 281

- فقال بعض العلماء: خديجة أفضل؛ لأنَّ لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.

- وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل؛ لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.

- وفصل بعض أهل العلم؛ فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها الأخرى فيها؛ ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة؛ فلا يصح أن تفضَّل إحداهما على الأخرى تفضيلًا مطلقًا، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل؛ فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل.

وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معه.

* * *

* قوله: "ويتبرؤون من طريقة الروافض الدين يبغضون الصّحابة ويسبونهم":

* الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهًا للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال؛ فليقرأ في كتبهم

ص: 282

وفي كتب من رد عليهم.

وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي.

* أما النواصب؛ فهم الذين ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم؛ فهم على النقيض من الروافض.

* فالروافض اعتدوا على الصّحابة بالقلوب والألسن.

- ففي القلوب يبغضون الصّحابة ويكرهونهم؛ إلَّا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.

- وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة! ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا قليلًا، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.

* وفي الحقيقة إن سب الصّحابة رضي الله عنهم ليس جرحًا في الصّحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قدح في الصّحابة وفي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:

- أما كونه قدحًا في الصّحابة؛ فواضح.

- وأمَّا كونه قدحًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحيث كان أصحابه وأُمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.

ص: 283

- وأمَّا كونه قدحًا في شريعة الله؛ فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة هم الصّحابة، فإذا سقطت عدالتهم؛ لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.

- وأمَّا كونه قدحًا في الله سبحانه؛ فحيث بعث نبيه صلى الله عليه وسلم في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته!!

فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصّحابة رضي الله عنهم.

* ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصّحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا -ولله الحمد- مملوءة من محبتهم؛ لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

* * *

* قوله: "وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل".

* يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب.

وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت، حتَّى يخرجوهم عن طور البشرية إلى طور العصمة والولاية.

أما النواصب؛ فقابلوا البدعة ببدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت؛ قالوا: إذًا؛ نبغض آل البيت ونسبهم؛ مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائمًا يكون الوسط هو خير

ص: 284

الأمور؛ ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلَّا قوة.

* * *

* قوله: "ويمسكون عما شجر بين الصّحابة"؛ يعني: عما وقع بينهم من النزاع.

* فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، ممَّا أدى إلى القتال.

وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت -بلا شك- عن تأويل واجتهاد، كل منهم يظن أنَّه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا عليًّا رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليًّا على حق.

واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق.

ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلَّا عن اجتهاد؛ فإنَّه ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر"(1)؛ فنقول: هم مخطئون مجتهدون؛ فلهم أجر واحد.

(1) رواه: البُخاريّ (7352)، ومسلم (1716)؛ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

ص: 285

* فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثَّانية: موقفنا من الفاعل.

- أما الحكم على الفاعل؛ فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم؛ فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ؛ فصاحبه معذور مغفور له.

- وأمَّا موقفنا من الفاعل؛ فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم، لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالًا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا؛ ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون، ولسنا غانمين أبدًا؟!

* فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصّحابة، وأن لا نطالع الأخبار أو التآريخ في هذه الأمور؛ إلَّا المراجعة للضرورة.

* * *

* قوله: "ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه الصريح".

* قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام:

- منها ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرًا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.

ص: 286

- ومنها شيء له أصل، لكن زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه.

وهذان القسمان كلاهما يجب رده.

- القسم الثالث: ما هو صحيح؛ فماذا نقول فيه؟

بينه المؤلف بقوله:

* "والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون".

* والمجتهد إن أصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ؛ فله أجر واحد؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:"إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ؛ فله أجر"(1).

* فما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.

لكن لا شك أن عليًّا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه؛ إلَّا أن معاوية كان مجتهدًا.

* ويدل على أن عليًّا أقرب إلى الصواب أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ويح عمار! تقتله الفئة الباغية"(2)؛ فكان الذي قتله أصحاب

(1) تقدم تخريجه (2/ 285)، وهو في "الصحيحين".

(2)

رواه: البُخاريّ (447)، ومسلم (2915)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 287

معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصّواب مع علي إما قطعًا وإما ظنًّا.

* * *

- وهناك قسم رابع، وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل:

فبينه المؤلف بقوله:

* "وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصّحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره".

* لا يعتقدون ذلك؛ لقوله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"(1).

ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها.

لكن الواحد منهم قد يفعل شيئًا من الكبائر؛ كما حصل من مِسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك (2)، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 198)، والترمذي (2499)، والدارمي (2627)، وابن ماجه (4251)، والحاكم (4/ 244)؛ عن أنس بن مالك، وحسنه الألباني في "المشكاة"(2341).

(2)

حديث الإفك؛ رواه البُخاريّ (4757)، ومسلم (2770)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 288

* قوله: "بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة"؛ يعني: كغيرهم من البشر.

* * *

لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله:

* "ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر".

* هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد؛ فهم نصروا النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله؛ فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.

* ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم، حتَّى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم! "(1).

* قوله: "حتَّى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأنَّ لهم من الحسنات التي تمحوا السيئات ما ليس لمن

(1) سبق تخريجه (2/ 259)، وهو في "الصحيحين" عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 289

بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به؛ كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم".

* وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير النَّاس قرني"(1)، وفي قوله:"لا تسبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده؛ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(2).

* قوله: "ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب؛ فيكون قد تاب منه":

يعني: وإذا تاب منه؛ ارتفع عنه وباله ومعرته؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. . .} إلى قوله: {إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]، ومن تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له؛ فلا يؤثر عليه.

* قوله: "أو أتى بحسنات تمحوه"؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

* قوله: "أو غفر له بفضل سابقته": لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم".

(1) سبق تخريجه (2/ 248)، وهو في "الصحيحين"؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه (2/ 251)، وهو في "الصحيحين"؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 290

* قوله: "أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق النَّاس بشفاعته".

وقد سبق أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق النَّاس في ذلك.

* قوله: "أو ابتلي ببلاء في الدُّنيا كفر به عنه": فإن البلاء في الدُّنيا يكفر الله به السيئات؛ كما أخبر بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه؛ إلَّا حط الله به سيئاته؛ كما تحط الشجرة ورقها"(1)، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة.

* قوله: "فإذا كان هذا في الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا؛ فلهم أجران، وإن أخطؤوا؛ فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور"، وسبق دليله؛ فتكون هذه من باب أولى ألا تكون سببًا للقدح فيهم والعيب.

* فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصّحابة، وهي قسمان:

الأول: خاص بهم، وهو ما لهم من السوابق والفضائل.

والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والبلاء.

(1) رواه البُخاريّ (5660)، ومسلم (2571)؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 291

* قوله: "ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم":

* القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدًّا نزر أقل القليل، ولهذا قال:"مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم".

* ولا شك أنَّه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة.

* ثم بين المؤلف رحمه الله شيئًا من فضائلهم ومحاسنهم بقوله:

* "من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح".

فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة؛ فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين.

* * *

* قوله: "ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء":

هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النَّبيِّ صلي الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: "خير النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

ص: 292

يلونهم". أخرجه البُخاريّ ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (1).

وعلى هذا تثبت خيريتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم.

فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل؛ علمت يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء؛ فهم خير من الحواريين أصحاب عيسى، وخير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا مع نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصّحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم؛ لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وخيرنا الصّحابة، ولأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خير الخلق؛ فأصحابه خير الأصحاب بلا شك.

هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة؛ فهم شر الخلق؛ إلَّا من استثنوا منهم.

* قوله: "لا كان ولا يكون مثلهم"؛ أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير النَّاس قرني"؛ فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقًا ولا لاحقًا.

* قوله: "وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل":

(1) تقدم (2/ 248).

ص: 293

- أما كون هذه الأمة خير الأمم؛ فلقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، ولأن النَّبيَّ صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم خير الرسل؛ فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم.

- وأمَّا كون الصّحابة صفوة قرون الأمة؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "خير النَّاس قرني"(1)، وفي لفظ:"خير أمتي قرني"(2)، والمراد بقرنه: الصّحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعو التّابعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصّحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتَّى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلَّا نفر قليل، وجمهور التّابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصّحابة في إمارة ابن الزُّبير وعبد الملك وجمهور تابعي التّابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية" اهـ.

وكان آخر الصّحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر.

(1) تقدم تخريجه (2/ 248)، وهو في "الصحيحين"، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

رواه البُخاريّ (3650)؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

ص: 294

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1): "واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التّابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين".

* * *

(1)"الفتح"(7/ 6).

ص: 295