الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال
* قوله رحمه الله تعالى: "ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر":
* "هم"؛ أي: أهل السنة والجماعة.
* "مع هذه الأصول": السابقة التي ذكرها قبل هذا، وهو اتباع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام واتباع الخلفاء الراشدين وإيثارهم كلام الله وكلام رسوله على غيره واتباع إجماع المسلمين؛ مع هذه الأصول:
* "يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر":
و"المعروف": كل ما أمر به الشرع؛ فهم يأمرون به.
و"المنكر": كل ما نهى عنه الشرع؛ فهم ينهون عنه.
لأن هذا هو ما أمر الله به في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104].
وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا"(1).
فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يتأخرون عن ذلك.
* ولكن يشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكونا على ما توجبه الشريعة وتقتضيه.
* ولذلك شروط:
الشرط الأول: أن يكون عالمًا بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهى عنه؛ فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به، ولا ينهى إلا عما علم أن الشرع نهى عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ولا عادة.
لقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
(1) رواه أبو داود (4336)، وابن ماجة (4006)، والترمذي (3047 و 3048) وقال:"حديث حسن غريب"، وقال:"وقد روي هذا الحديث عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وبعضهم يقول: عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل". وعزاه الهيثمي في "المجمع"(7/ 269) للطبراني عن أبي موسى الأشعري وقال: ورجاله رجال الصحيح. وانظر: "الدر المنثور" في تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
…
} [المائدة: 78 - 80].
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
- فلو رأى شخصًا يفعل شيئًا الأصل فيه الحل؛ فإنه لا يحل له أن ينهاه عنه حتَّى يعلم أنَّه حرام أو منهي عنه.
- ولو رأى شخصًا ترك شيئًا يظنه الرائي عبادة؛ فإنه لا يحل له أن يأمره بالتعبد به حتَّى يعلم أن الشرع أمر به.
الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأى شخصًا يشك هل هو مكلف أم لا؛ لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتَّى يستفصل.
الشرط الثالث: أن يكون عالمًا بحال المأمور حال تكليفه؛ هل قام بالفعل أم لا؟
- فلو رأى شخصًا دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلى ركعتين؛ فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتَّى يستفصل.
ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل، فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"أصليت؟ ". قال: لا. قال: "قم فصل ركعتين وتجوز فيهما"(1).
- ولقد نقل لي أن بعض الناس يقول: يحرم أن يسجل القرآن بأشرطة؛ لأن ذلك إهانة للقرآن على زعمه!! فينهى الناس أن يسجلوا القرآن على هذه الأشرطة؛ لظنه أنَّه منكر!!
فنقول له: إن المنكر أن تنهاهم عن شيء لم تعلم أنَّه منكر!! فلا بد أن تعلم أن هذا منكر في دين الله.
وهذا في غير العبادات، أما العبادات؛ فإننا لو رأينا رجلًا يتعبد بعبادة؛ لم يعلم أنها مما أمر الله به؛ فإننا ننهاه؛ لأن الأصل في العبادات المنع.
الشرط الرابع: أن يكون قادرًا على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه؛ فإن لحقه ضرر؛ لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به؛ فهو أفضل؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
فإذا خاف إذا أمر شخصًا بمعروف أن يقتله؛ فإنه لا يلزمه أن يأمره؛ لأنه لا يستطيع ذلك، بل قد يحرم عليه حينئذ. وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الأمر والصبر، وإن تضرر بذلك، ما لم
(1) رواه البخاري (931)، ومسلم (875) واللفظ له، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
يصل إلى حد القتل. لكن القول الأول أولى؛ لأن هذا الآمر إذا لحقه الضرر بحبس ونحوه؛ فإن غيره قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا مما حصل، حتَّى في حال لا يخشى منها ذلك الضرر.
وهذا ما لم يصل الأمر إلى حد يكون الأمر بالمعروف من جنس الجهاد؛ كما لو أمر بسنة ونهى عن بدعة، ولو سكت؛ لاستطال أهل البدعة على أهل السنة؛ ففي هذه الحال يجب إظهار السنة وبيان البدعة؛ لأنه من الجهاد في سبيل الله، ولا يعذر من تعين عليه بالخوف على نفسه.
الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت؛ فإن ترتب عليها ذلك؛ فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر.
ولهذا قال العلماء: إن إنكار المنكر ينتج منه إحدى أحوال أربعة: إما أن يزول المنكر، أو يتحول إلى أخف منه، أو إلى مثله، أو إلى أعظم منه.
- أما الحالة الأولى والثانية؛ فالإنكار واجب.
- وأما في الثالثة؛ فهي في محل نظر.
- وأما في الرابعة، فلا يجوز الإنكار؛ لأن المقصود بإنكار المنكر إزالته أو تخفيفه.
مثال ذلك: إذا أراد أن يأمر شخصًا بفعل إحسان، لكن
يستلزم فعل هذا الإحسان ألا يصلي مع الجماعة؛ فهنا لا يجوز الأمر بهذا المعروف؛ لأنه يؤدي إلى ترك واجب من أجل فعل مستحب.
وكذلك في المنكر لو كان إذا نهى عن هذا المنكر؛ تحول الفاعل له إلى فعل منكر أعظم؛ فإنه في هذه الحال لا يجوز أن ينهى عن هذا المنكر دفعًا لأعلى المفسدتين بأدناهما.
ويدل لهذا قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فإن سب آلهة المشركين؛ لا شك أنَّه أمر مطلوب، لكن لما كان يترتب عليه أمر محظور أعظم من المصلحة التي تكون بسب آلهة المشركين، وهو سبهم لله تعالى عدوًا بغير علم؛ نهى الله عن سب آلهة المشركين في هذه الحال.
ولو وجدنا رجلًا يشرب الخمر، وشرب الخمر منكر، فلو نهيناه عن شربه؛ لذهب يسرق أموال الناس ويستحل أعراضهم؛ فهنا لا ننهاه عن شرب الخمر؛ لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم.
الشرط السادس: أن يكون هذا الآمر أو الناهي قائمًا بما يأمر به منتهيًا عما ينهى عنه، وهذا على رأي بعض العلماء، فإن كان غير قائم بذلك؛ فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الله تعالى قال لبني إسرائيل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؛ فإذا كان هذا الرجل لا يصلي؛ فلا يأمر غيره بالصلاة، وإن كان يشرب الخمر؛ فلا
ينهى غيره عنها، ولهذا قال الشاعر:
لا تَنْهَ عَن خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
…
عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ
فهم استدلوا بالأثر والنظر.
ولكن الجمهور على خلاف ذلك، وقالوا: يجب أن يأمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه، وينهى عن المنكر، وإن كان يأتيه، وإنما وبخ الله تعالى بني إسرائيل، لا على أمرهم بالبر، ولكن على جمعهم بين الأمر بالبر ونسيان النفس.
وهذا القول هو الصحيح؛ فنقول: أنت الآن مأمور بأمرين: الأول: فعل البر، والثاني: الأمر بالبر. منهي عن أمرين: الأول: فعل المنكر، والثاني: ترك النهي عن فعله. فلا تجمع بين ترك المأمورين وفعل المنهيين، فإن ترك أحدهما لا يستلزم سقوط الآخر.
فهذه ستة شروط؛ منها أربعة للجواز، وهن الأول والثاني والثالث والخامس، على تفصيل فيه، واثنان للوجوب، وهما الرابع والسادس؛ على خلاف فيهن.
* ولا يشترط أن لا يكون من أصول الآمر أو الناهي كأبيه أو أمه أو جده أو جدته، بل ربما نقول: إن هذا يتأكد أكثر؛ لأن من بر الوالدين أن ينهاهما عن فعل المعاصي ويأمرهما بفعل الطاعات.