الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها، أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر.
والله عز وجل يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات إلا مثل العمل؛ قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، وهذا من كرمه عز وجل ومن كون رحمته سبقت غضبه.
- من قوله: "فآخِذٌ كِتابَهُ بِيَمينِهِ": "آخذ": مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فمنهم آخذ.
وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذا إشارة إلى أن لليمنى الإكرام، ولذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف:"وآخذ كتابه بشماله".
* وقوله: "أو من وراء ظهره": "أو" للتنويع، وليست للشك.
فظاهر كلام المؤلف أن
الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه:
باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر.
ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل
الشمال، وكونه من وراء ظهره؛ لأنه لما استدبر كتاب الله، وولَّى ظهره إياه في الدنيا؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم.
* قوله: "كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14] ":
* {طَائِرَهُ} ؛ أي: عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل.
* {فِي عُنُقِهِ} ؛ أي: رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقًا بالإنسان؛ حيث يربط في العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل إلا إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله.
* وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} ؛ أي: مفتوحًا؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه.
* ويقال له: في {اقرَأ كِتَابك} هو وانظر ما كتب عليك فيه.
* {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} : وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه.
والإنسان العاقل لا بد أن ينظر ماذا كتب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوبًا.
ولكن؛ نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله؛ مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه، وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه؛ فما دام الأمر بأيدينا الآن، فعلينا أن نحرص على أن لا يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح.
* * *
• الأمر السابع مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَيُحاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ":
* المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة.
وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل:
- أما الكتاب؛ فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7، 8]{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10 - 12].
- وأما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
- وأما الإجماع؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
- وأما العقل؛ فواضح؛ لأننا كلفنا بعمل فعلًا وتركًا وتصديقًا، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل، فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.
* وقول المؤلف: "الخلائق": جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق.
إلا أنه يستثنى من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ كما ثبت ذلك في "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أمته ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون (1).
وقد روى الإِمام أحمد بسند جيد: أن مع كل واحد سبعين ألفًا (2).
فتضرب سبعين ألفًا بسبعين ألفًا، ويزاد سبعون ألفًا. هؤلاء كلهم ودخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
* وقوله: "الخلائق": يشمل أيضًا الجن؛ لأنهم مكلفون، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى: {قَالَ
(1) رواه البخاري (6541)، ومسلم (220)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه الإِمام أحمد (1/ 5 و 196) عن أبي بكر وابنه عبد الرحمن، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 410 - 411): رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني بنحوه، وفي أسانيدهم القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد، وموسى بن عبيد هذا هو مولى خالد بن عبد الله بن أسيد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، والقاسم بن مهران ذكره الذهبي في "الميزان"، وأنه لم يرو عنه إلّا سليم بن عمرو النخعي، وليس كذلك، فقد روى عنه هذا الحديث هشام بن حسان، وباقي إسناده محتج بهم في "الصحيح".
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38] ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
…
} إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 46 - 56].
* وهل تشمل المحاسبة البهائم؟!
أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"(1)، وهذا قصاص، لكنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب.
* * *
* قوله: "وَيَخْلو بِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ فَيقَرِّرُهُ بِذُنوبِهِ":
* هذا صفة حساب المؤمن:
يخلو به الله عز وجل دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي: يقول له: عملت كذا، وعملت كذا
…
حتى يقر ويعترف، ثم يقول:"سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"(2).
ومع ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليه ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عز وجل على
(1) رواه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه (1/ 253).
المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أمام الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة، لكن إذا كان ذلك وحدك؛ فإن ذلك ستر منه عليك.
* قوله: "كما وصف ذلك في الكتاب والسنة":
* "ذلك": المشار إليه الحساب؛ يعني: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة.
* * *
* في قوله: "وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون بها".
* هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال:"وأما الكفار والمنافقون؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". متفق عليه (1).
وفي "صحيح مسلم"(2)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول.
(2)
"صحيح مسلم"(2968).
حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيلقى العبد، أَي: يلقى الله العبد، يعني: المنافق، فيقول: يا فل، أي: يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى، قال: فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذن، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه.
(تنبيه):
في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته
…
الخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فائدة:
أول ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضى فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء أعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.