الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
* قوله: "ومن أصول أهل السنة والجماعة"؛ أي: من أسس عقيدتهم.
* قوله: "
سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
- ": ولم يقل: وأفعالهم؛ لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتى لو فرض أن أحدًا نبش قبورهم وأخرج جثثهم؛ فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان.
* فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم.
* فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة الله، وألسنتهم أيضًا سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع؛ فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك، وذلك للأمور التالية:
أولًا: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(1).
ثانيًا: أنهم هم الواسطة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته؛ فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثًا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعًا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله.
* فنحن نُشْهِد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة،
(1) رواه: البخاري (3651)، ومسلم (2533)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت.
* ونرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* وقوله: "لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ": سبق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من اجتمع به مؤمنًا به ومات على ذلك، وسمي صاحبًا؛ لأنه إذا اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به؛ فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غير الرسول؛ فلا يكون الشخص صاحبًا له حتى يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحبًا.
* * *
* ثم استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: "كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] ".
* هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
* ففي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : إخلاص النية، وفي قوله:{وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : تحقيق العمل، وقوله:{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية.
* ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]؛ فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
* ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10]:، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة؛ فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلًّا لهم؛ فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم؛ فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} .
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة؛ قالت: لا تعجبون! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم (1)!!
(1) لما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: "إن ناسًا يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم =
* وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان؛ ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة.
* {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
* * *
* قوله: "وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (1) ".
* "طاعة": معطوف على قوله: "سلامة"؛ أي: من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم
…
إلخ.
* السب: هو القدح والعيب؛ فإن كان في غيبة الإنسان؛ فهو غيبة.
* وقوله: "أصحابي"؛ أي: الذين صحبوه، وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنها تختلف: صحبة قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد
= العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"، ذكره ابنُ الأثير في "جامع الأصول" (8/ 554)، وعزاه لرزين!!
(1)
رواه: البخاري (3673)، ومسلم (2541)؛ من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
حين حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل من المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد:"لا تسبوا أصحابي"، والعبرة بعموم اللفظ.
ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال:"لا تسبوا أصحابي"؛ يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله.
وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله؛ فما بالك بالنسبة لمن بعدهم.
* وقوله: "فوالذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا
…
" إلخ.
* أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم:"لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
* "أحد": جبل عظيم كبير معروف في المدينة.
* والمد: ربع الصاع.
* "ولا نصيفه"؛ أي: نصفه. قال بعضهم: من الطعام، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب؛ بقرينة السياق؛ لأنه قال: "لو أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، يعني: من الذهب.
وعلى كل حال؛ فإن قلنا: من الطعام؛ فمن الطعام، وإن
قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلى جبل أحد من الذهب لا شيء.
* فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان منا مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفَق واحد، والمنفَق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم؛ فلإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون.
* وهذا النهي يقتضي التحريم؛ فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحدًا منهم على الخصوص؛ فإن سبهم على العموم، كان كافرًا، بل لا شك في كفر من شك في كفره، أما إن سبهم على سبيل الخصوص؛ فينظر في الباعث لذلك؛ فقد يسبهم من أجل أشياء خَلْقية أو خُلُقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه.
* * *
* قوله: "ويقبلون"؛ أي: أهل السنة.
* قوله: "ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم":
* الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد
منقبة له.
* والمراتب: الدرجات؛ لأن الصحابة درجات ومراتب؛ كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله.
* فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم؛ فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك:
- فمثلًا يقبلون ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل.
- ويقبلون مثلًا ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (1)، وهذه فضيلة.
- ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته في الغار.
- ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: "إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر"(2).
- وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي علي رضي الله عنهم، وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل؛ يقبلون هذا
(1) رواه: أبو داود (1678)، والترمذي (3675)؛ وقال هذا حديث حسن صحيح.
وحسنه الألباني في "المشكاة"(3/ 1700).
(2)
رواه: البخاري (3904)، ومسلم (2382)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
كله.
- وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم؛ فالخلفاء الراشدون هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؛ كما سيذكره المؤلف.
* * *
* قوله: "ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل":
* ودليل ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة؛ فالذين أسلموا قبل ذلك وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
* فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟
فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم؛ كأن نرجع إلى "الإصابة في تمييز الصّحابة" لابن حجر أو "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلفة في الصّحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.
* وقول المؤلف: "وهو صلح الحديبية":
- هذا أحد القولين في الآية، وهو الصَّحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البُخاريّ (1).
- وقيل: المراد فتح مكّة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم (2).
* * *
* قوله: "ويقدمون المهاجرين على الأنصار":
- المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكّة.
- والأنصار هم الذين هاجر إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة.
* وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأنَّ المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصرة فقط.
- فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء؛ كل ذلك هجرة إلى الله
(1) رواه البُخاريّ (4150).
(2)
انظر: "الدر المنثور"(6/ 58).
ورسوله، ونصرة لله ورسوله.
- والأنصار أتاهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في بلادهم، ونصروا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم منعوه ممَّا يمنعون منه أبناءهم ونساءهم.
ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]؛ فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117]؛ فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. . .} [الحشر: 8]، ثم قال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9].
* * *
* قوله: "ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاث مئة وبضعة عشر-: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم".
* أهل بدر مرتبتهم من أعلى مراتب الصّحابة.
* وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثَّانية من الهجرة في رمضان، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان.
* وسببها أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكّة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، معهم سبعون بعيرًا وفرسان،
وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالًا، لكن الله عز وجل بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم.
فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير؛ أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخًا إلى أهل مكّة يستنجدهم، فانتدب أهل مكّة لذلك، وخرجوا بأشرافهم وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عز وجل:{بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ} [الأنفال: 47].
وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتآمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله؛ لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم فيها ننحر الجزور ونسقي الخمور وتضرب علينا القيان وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدًا!!
وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن -ولله الحمد- كان الأمر على عكس ما يقول؛ سمعت العرب بهزيمتهم النكراء، فهانوا في نفوس العرب!!
قدموا بدرًا، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة:{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14].
حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة -ولله الحمد-
على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلًا، وقتلوا سبعين رجلًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من كبرائهم وصناديدهم؛ سُحبوا، فأُلقوا في قليب من قُلب بدر خبيثة قبيحة.
* ثم إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيَّام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:"يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا؛ فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا". فقالوا: يا رسول الله! ما تُكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي نفسي بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"(1).
والنبي عليه الصلاة والسلام وقف عليهم توبيخًا وتقريعًا وتنديمًا، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقًّا؛ قال الله تعالى:{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14]؛ فوجدوا النَّار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد.
* فأهل بدر الذين جعل الله على أيديهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر؛ اطلع الله عليهم، وقال:"اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم"(2)؛ فكل ما يقع منهم من ذنوب؛ فإنَّه
(1) رواه: البُخاريّ (3976)، ومسلم (2874)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه: البُخاريّ (3007)، ومسلم (2494)؛ عن علي رضي الله عنه؛ في قصة =
مغفور؛ لهم؛ بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم.
* وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم؛ فهو مغفور لهم.
* وفيه بشارة بأنهم لن يموتوا على الكفر؛ لأنهم مغفور لهم، وهذا يقتضي أحد أمرين:
- إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك.
- وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر؛ فسيوفق للتوبة والرجوع إلى الإسلام.
وأيًّا كان؛ ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحدًا منهم كفر بعد ذلك.
* * *
* قوله: "وبأنه لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (1)، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا
= حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
(1)
لما رواه مسلم (2496)، عن جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النَّار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها"، ورواه أبو داود (4653)، والترمذي (3859) بنحوه.
أكثر من ألف وأربع مئة" (1).
* أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان.
* وسبب هذه البيعة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكّة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلَّا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكّة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون؛ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات.
وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة؛ فإن ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتَّى قالوا:"خلأت القصواء"؛ يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مدافعًا عنها: "والله؛ ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده؛ لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله؛ إلَّا أعطيتهم إياها"(2).
(1) رواه البُخاريّ (4154) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
رواه البُخاريّ (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم. قال الحافظ في "الفتح"(5/ 333): وهذه الرّواية بالنسبة إلى مروان مرسلة، لأنَّه لا =
جرى التفاوض، وأرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفَّان، لأنَّ له رهطًا بمكة يحمونه؛ أرسله إلى أهل مكّة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما جاء معتمرًا معظمًا للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبُر ذلك على المسلمين، فدعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصّحابة رضي الله عنهم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا ولا يفروا إلى الموت.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يبايع النَّاس؛ يمدُّ يده فيبايعونه على هذه البيعة المباركة التي قال الله عنها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائبًا، فبايع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمنى:"هذه يد عثمان".
ثم تبيّن أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، حتَّى انتهى الأمر على الصلح الذي صار فتحًا مبينًا للرسول عليه الصلاة والسلام.
* هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19].
= صحبة له، وأمَّا المسور فهي بالنسبة إليه أيضًا مرسلة، لأنَّه لم يحضر القصة
…
وقد سمع المسور ومروان من جماعة من الصّحابة شهدوا هذه القصة.
* وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عز وجل بأن كل من بايع تحت الشجرة؛ فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:"لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة"؛ (1) فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النَّار ثبت بالسنة.
* وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة" قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]؟
فالجمع من أحد وجهين:
الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط؛ لأنَّ هذا نوع ورود بلا شك؛ كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، ومعلوم أنَّه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريبًا منه، وبناء على هذا؛ لا إشكال ولا تعارض أصلًا.
والوجه الثَّاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلَّا ويدخل النَّار، وبناء على هذا القول؛ فيحمل قوله:"لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة": لا يدخلها دخول عذاب وإهانة، وإنَّما يدخلها تنفيذًا للقسم: {وَإِن
(1) تقدم تخريجه (2/ 260).
مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا}، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان.
* وقوله: "الشجرة": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تحتها يبايع النَّاس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافة عمر، فلما قيل له: إن النَّاس يختلفون إليها -أي: يأتونها- يصلون عندها؛ أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت.
قال في "الفتح"(1): "وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في "صحيح البُخاريّ" (2) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: رجعنا من العام المقبل -يعني: بعد صلح الحديبية- فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل؛ نسيناها، فلم نقدر عليها".
وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد؛ لأنَّ نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد. والله أعلم.
وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأننا نظن
(1)"فتح الباري"(7/ 448).
(2)
رواه: البُخاريّ (4162 و 4163)(2958) عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه أيضًا (4162 و 4163) عن والد سعيد بن المسيب.
أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلى الآن؛ لعبدت من دون الله.
* * *
* قوله: "ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصّحابة".
* "يشهدون"؛ أي: أهل السنة والجماعة.
* والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص.
- أما المعلقة بالوصف؛ فأن نشهد لكل مؤمن أنَّه في الجنة، وكل متق أنَّه في الجنة؛ بدون تعيين شخص أو أشخاص.
وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها؛ لأنَّ الله تعالى أخبر به، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان: 8 - 9]، وقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
- وأمَّا الشهادة المعلقة بشخص معين؛ فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة.
وهذه شهادة خاصة؛ فنشهد لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين.
* مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: "كالعشرة"؛ يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة؛ لقبوا بهذا الاسم لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جمعهم
في حديث واحد، وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات.
وقد جمع الستة الزائدون عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد؛ فاحفظه:
سَعيدٌ وَسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ
…
وَعامِرُ فِهْرٍ وَالزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
هؤلاء بشرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في نسق واحد، فقال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة
…
" (1)، ولهذا لقبوا بهذا اللقب؛ فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
* قوله: "وثابت بن قيس بن شماس": ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]؛ خاف أن يكون حبط عمله وهو لا يشعر، فاختفى في بيته، ففقده النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام، فبعث إليه رجلًا يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
(1) رواه أحمد (1/ 187 و 188 و 189)، وأبو داود (4649)، والترمذي (3748)، وابن ماجه (134)، وابن حبان في "صحيحه"(10/ 6996)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 450)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(875).
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النَّار!! فأتى الرجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال ثابت، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اذهب إليه؛ فقل له إنك لست من أهل النَّار، ولكنك من أهل الجنة"(1)؛ فبشره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنة.
* قوله: "وغيرهم من الصّحابة": مثل أمهات المؤمنين؛ لأنهن في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم: بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم (2).
* * *
(1) رواه: البُخاريّ (3613)، ومسلم (119)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
- أما بلال؛ ففي حديث جابر عند مسلم (2457)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي؛ فإذا بلال.
- وأمَّا عبد الله بن سلام؛ ففي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند البُخاريّ (1982) ومسلم (2481)؛ قال: ما سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة؛ إلَّا لعبد الله بن سلام.
- وأمَّا عكاشة بن محصن؛ فقد دعا له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وذلك في حديث ابن عباس عند البُخاريّ (6541) ومسلم (220).
- وأمَّا سعد بن معاذ؛ ففي حديث البراء عند البُخاريّ (3802) ومسلم (2468)؛ قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه وألين.