الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحدود
تعريف الحدود (1):
الحدود لغةً: جمع حدٍّ، وهو المنع، ويُطلق على الحاجز بين الشيئين، أو ما يميِّز الشيء عن غيره.
والحدُّ شرعًا: «عقوبة مقدَّرة في الشرع، وحبستًا لأجل حق الله على ذنب - كما في الزنا - أو اجتمع فيها حق الله وحق العبد كالقذف» .
فخرج بقولنا (مقدَّرة) التعزير، لعدم تقديره شرعًا، وخرج كذلك القصاص لأنه حق خالص للآدمي.
هذا هو الحد في اصطلاح الفقهاء، وهو موضوع هذا الكتاب، وإن كان الحد في لسان الشارع أعم من ذلك، فإنه يُراد به هذه العقوبة تارة، ويُراد به نفس الجنابة تارة كقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} (2)، ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدَّرة، فقوله صلى الله عليه وسلم «لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (3) فالمراد بالحد فيه: ما حَرُم لحق الله.
سبب تسمية العقوبات المقدَّرة حدودًا (4): لا خلاف في أن العقوبات
المقدرة إنما سميت حدودًا لعلَّة المنع، وإنما حصل الخلاف في تعليل مورد المنع في ذلك على أقوال ثلاثة هي:
1 -
لأن هذه العقوبات تمنعه المعاودة في مثل ذلك الذنب وتمنع غيره أن يسلك مسلكه.
2 -
لأنها عقوبات مقدرة من الشارع، تمتنع الزيادة فيها أو النقصان.
3 -
لأنها زواجر عن محارم الله.
وليس هناك ما يمنع التعليل بها مجتمعة لاشتمالها على هذه المعاني الثلاثة.
(1)«مختار الصحاح» ، و «ابن عابدين» (3/ 140)، و «كشاف القناع» (6/ 77)، و «المجموع» (22/ 3)، و «نيل الأوطار» (7/ 105)، و «إعلام الموقعين» (3/ 29)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 347)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 24).
(2)
سورة البقرة: 187.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708).
(4)
«الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» للعلامة بكر أبو زيد - أمتع الله بحياته - (ص: 22، 23).
حكم إقامة الحدود:
إقامة الحدود فرض على وليِّ الأمر أو نائبه، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
(أ) فأما الكتاب: فمنه:
1 -
قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (1).
2 -
قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (2).
3 -
وقال سبحانه في حد القاذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (3).
(ب) وأما السنة فمنها:
1 -
حديث عائشة: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عله إلا أسامة حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟» ثم قام فاختطب فقال: «يا أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (4).
2 -
حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (5).
3 -
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم» (6).
(1) سورة المائدة: 38.
(2)
سورة النور: 2.
(3)
سورة النور: 4.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (2493)، والترمذي (2173).
(6)
حسن: أخرجه ابن ماجو (2540).
(جـ) وقد أجمع علماء الأمة على وجوب إقامة الحدود على من ارتكب مسبباتها، ولم يخالف أحد في ذلك.
(ر) وأما المعقول: فلما كانت طبيعة البشر مائلة إلى اقتناص الملاذِّ، وتحصيل مقصودها، من شرب وزنا وقذف وسفك للدماء، اقتضت حكمة الله تعالى شرع هذه الحدود حسمًا للفساد، وزجرًا عن ارتكابه، لأن إخلاء المجتمع عن إقامة الرادع يؤدي إلى انحرافه، فالمقصد الأصلي من شرع الحدود الانزجار عما يتضرر به العباد (1).
فضل إقامة الحدود:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إقامةُ حدٍّ بأرض، خير لأهلها من مطر أربعين صباحًا» (2) وهو مختلف فيه.
لا تجوز الشفاعة في الحدود:
لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم، والثبوت عنده؛ لأنه طلب ترك الواجب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة بن زيد - كما تقدم - حين شفع في المخزومية التي سرقت، وقال:«أتشفع في حد من حدود الله؟!» (3).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود
الله تعالى، فقد ضادَّ الله في خلقه» (4).
وأما قبل الوصول إليه، فتجوز - عند الجمهور - الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه؛ لأن وجوب الحدِّ قبل ذلك لم يثبت، فالوجوب لا يثبت بمجرد الفعل (5).
(1)«ابن عابدين» (3/ 140)، و «فتح القدير» (5/ 3).
(2)
ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2538)، والنسائي (8/ 75)، وأحمد (2/ 362 - 402)، وابن حبان (4997 - 4398) وفي سنده اختلاف، لكن حسنه الألباني في «الصحيحة» (231) وفيه نظر.
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
صحيح: أخرجه أبو داود (3597)، وأحمد (2/ 70)، وانظر «الإرواء» (2318).
(5)
«ابن عابدين» (3/ 140)، و «المواهب» (6/ 320)، و «روضة الطالبين» (10/ 95)، و «المغني» (8/ 281).
قلت: ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» (1).
وعن صفوان بن أمية قال: «كنتُ نائمًا في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، قال: فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه، وأنسئه ثمنها، قال صلى الله عليه وسلم: «فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به» ؟ (2).
من يقيم الحدود (3):
إن أمر الحدود موكول إلى الحاكم المسلم أو من ينوب عنه، وليس لأفراد الناس إقامة الحدود على من ارتكبوا أسبابها، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بإقامة الحدود خطابًا مطلقًا، لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، والقدرة هي السلطان، فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونُوَّابه، ولأنه لم يُقم حدٌّ على حُرٍّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأنه حق الله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام.
وقد أناب النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود، فقال لأنيس:«واغْدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (4).
فائدة: الحدود لا تسلم إلى السلطان إذا كان مُضيِّعًا لها أو عاجزًا عنها (5).
وهل يقيم الرجل الحدَّ على أَمَته أو عبده؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة، وأكثر أهل العلم - خلافًا لأبي حنيفة!! - على أنه يجوز للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان، لحديث أبي هريرة قال:
(1) حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4376)، والنسائي (8/ 70)، والبيهقي (8/ 331)، والحاكم (4/ 424) وإسناده حسن لولا خشية تدليس ابن جريج، وله شواهد يحسن بها.
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (4394)، والنسائي (8/ 69)، والحاكم (4/ 380)، والبيهقي (8/ 265)، وانظر «الإرواء» (2317).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2315)، ومسلم (1698).
(4)
«فتح القدير» (5/ 2359، و «الدسوقي» (4/ 322)، و «روضة الطالبين» (10/ 102)، و «كشاف القناع» (6/ 78).
(5)
انظر «مجموع الفتاوى» (34/ 176).
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زَنَتْ أمةُ أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحدَّ، ولا يثرِّب عليها، ثم إن زنتْ فليجلدها الحدَّ ولا يُثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن له زناها فليبعها، ولو بحبل من شعر» (1).
وعن عليٍّ قال: ولدت أمة بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقم عليها الحد» . قال: فوجدتها لم تجف من دمها، فذكرت له ذلك، فقال:«إذا جفَّت من دمها، فأقم عليها الحد» ثم قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (2).
وعن نافع: «أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق، وجلد عبدًا له زنا، من غير أن يرفعهما إلى الوالي» (3).
ما تسقط به الحدود:
1 -
الرجوع عن الإقرار (في حق المقرِّ بها على نفسه)(4):
ذهب الجمهور (أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وهو قول لمالك) إلى أنه يُقبل من المُقِرِّ الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وأنه يُترك إذا هرب لعلَّه يرجع.
لحديث أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أبك جنون؟!» (5)
…
الحديث، فلقَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرجوع، فلو لم يكن محتملًا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين فائدة، ولأنه يورث الشبهة.
وفي رواية: «فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحَرُّة فرجم بالحجارة، فلما رأى مسَّ الحجارة فرَّ يشتد حتى مرَّ برجل معه لَحْيُ جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فقال صلى الله عليه وسلم: «هلا تركتموه» (6).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (2152)، ومسلم (1703).
(2)
ضعف: أخرجه أبو داود (4473)، وأحمد (1/ 135 - 145) وغيرهما، وانظر «الإرواء» (2325)، وقد صح من قول عليٍّ عند مسلم (1705).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 239) رقم (18979).
(4)
«نيل الأوطار» (7/ 123)، و «البدائع» (7/ 61)، و «المواهب» (6/ 294)، و «الروضة» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 197).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (6814)، ومسلم (1318).
(6)
إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1428)، وأبو داود (4419)، وابن ماجة (2554).
وذهب أبو ثور - وهو الرواية الأخرى عن مالك والشافعي - إلى أنه لا يُقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات، واستدلوا بما ورد في حديث جابر في قصة ماعز بنحو حديث أبي هريرة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«فهلا تركتموه وجئتموني» . قال جابر: «ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما ترك حدٍّ فلا» (1).
قلت: والأوَّل أرجح.
2 -
الشبهة، فلا يجب الحد بالتُّهم ولا بالظن (2):
اتفق الفقهاء - خلافًا لابن حزم وأصحابه - على أنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، والشبهة: ما يشبه الثابت وليس بثابت، سواء كانت في الفاعل: كمن وطىء امرأة ظنَّها خليلته، أو في المحل: بأن يكون للواطىء فيها ملك أو شبهة
ملك كالأمة المشتركة، أو في الطريق: بأن يكون حرامًا عند قوم، حلالًا عند غيرهم، والأصل في هذا:
1 -
حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته» فقال شداد بن الهاد: هي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها» قال: لا، تلك امرأة أعلنت (3).
2 -
ما يُروى مرفوعًا: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (4).
3 -
وما يُروى عن عائشة مرفوعًا: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (5) وهما ضعيفان، وفي الباب عن أبي هريرة وغيره وفيه ضعف، لكن الأمة تلَّقت معنى هذه الأحاديث بالقبول.
4 -
وعن ابن مسعود قال: «ادرءوا الجلد عن المسلمين ما استطعتم» (6).
(1) إسناده حسن: أخرجه أبو داود (4420).
(2)
«ابن عابدين» (3/ 149)، و «القوانين» (347)، و «الروضة» (10/ 92)، و «كشاف القناع» (6/ 96)، و «المحلى» (11/ 153)، و «الأشباه والنظائر» للسيوطي (122).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1497)، وابن ماجة (2559، 2560).
(4)
ضعيف: وانظر «إرواء الغليل» (2316).
(5)
ضعيف: أخرجه الترمذي (1424)، والدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238)، وانظر «الإرواء» (2355).
(6)
إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، والبيهقي (8/ 238).
5 -
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «لأن أعطِّل الحدود بالشبهات أحب إليَّ من أن أقيمها في الشبهات» (1).
وأما أبو محمد بن حزم فضعَّف حديثي أبي هريرة وعائشة -؟؟ كذلك - وقال: «إن لم يثبت الحد لم يحلَّ أن يُقام بشبهة، وإذا ثبت الحدُّ لم يحلَّ أن يُدرأ بشبهة» (!!)» اهـ.
قلت: نعم، الحديثان ضعيفان من جهة السند، إلا أن معناهما يتفق مع قواعد الشرع التي تقضي بأن لا يقام حدٌّ إلا بعد اليقين، رحمة بالإنسان ودفعًا لإلحاق الضرر به بظنٍّ مجرَّد، ولذا تلقت الأمة هذا الحكم بالقبول، وعمل له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، على أن في حديث ابن عباس المتقدم أن الحدَّ لا يقام إلا ببينة، والله أعلم.
أثر التوبة في الحدود (2):
أثر التوبة في الحدود درءًا وإيجابًا يكون على حالتين:
الأولى: أن تكون توبته بعد القدرة عليه: فهذه التوبة لا تُسقط الحدَّ بالاتفاق.
الثانية: أن تكون توبته قبل القدرة عليه: فأثر التوبة في سقوط الجريمة الحدِّية في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين: محلُّ اتفاق، ومحل اختلاف.
(أ) محلُّ الاتفاق:
لا خلاف بين الفقهاء في أن حدَّ قطاع الطريق (حدّ الحرابة) والرِّدَّة يسقطان بالتوبة إذا تحققت توبة القاطع قبل القدرة عليه، وكذلك حدُّ ترك الصلاة - عند
من اعتبره حدًا، لقوله تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (3).
(1) رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 511)، ورجاله ثقات لكنه منقطع، لكن قال السخاوي:«وكذا أخرجه ابن حزم في «الإيصال» له بسند صحيح» اهـ، وانظر «الإرواء» (7/ 345).
(2)
«ابن عابدين» (3/ 140)، و «الشرح الصغير» (4/ 489)، و «روضة الطالبين» (10/ 97)، و «المغني» (8/ 296)، و «الحدود والتعزيرات» (71 - وما بعدها).
(3)
سورة المائدة: 33، 34.
(ب) محل الاختلاف:
واختلفوا في بقية الحدود إذا تاب مرتكب الجريمة الحدِّية قبل المقدرة عليه على قولين:
الأول: تسقط هذه الحدود بالتوبة قبل المقدرة عليه كذلك: وهو قول في مذهب الحنفية وقول للشافعية، وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة، واختارها ابن القيم، واستدل لها بما يلي:
1 -
قوله تعالى - في سياق الكلام عن فاحشة الزنى - {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} (1).
2 -
وقوله سبحانه بعد ذكر حد السرقة: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} (2).
3 -
حديث أنس قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحضرت
الصلاة فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأل عنه، قال:«أليس قد صليت معنا؟» قال: نعم، قال:«فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» (3) وفي بعض الروايات أنه قال: «إني زنيت» .
قال الحافظ في «الفتح» (12/ 134): «قد يتمسك به من قال: إنه إذا جاء تائبًا سقط عنه الحد» اهـ.
4 -
حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه: (أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وه تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها: فقال: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذبت هو الذي وقع علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انطلقوا به
(1) سورة النساء: 16.
(2)
سورة المائدة: 39.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6823)، ومسلم (2764).
فارجموه». فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة فقال: أما أنت فقد غفر لك. وقال للذي أغاثها: قولًا حسنًا فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لأنه قد تاب إلى الله) (1).
5 -
حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (3).
فدلَّ على أنه لا عقاب على التائب مما يوجب حدًّا إذا تاب قبل القدرة عليه لتمحُّض صدقه في توبته.
6 -
أن الشارع اعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حدَّ حرابة مع شدَّة ضررها وتعدِّيه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حدِّ الحرابة بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (4).
القول الثاني: أن التوبة في هذه الحدود - قبل القدرة عليه - لا تُسقط الحدَّ:
وهو مذهب المالكية والأظهر عند الحنفية والشافعية، والرواية الأخرى عند الحنابلة واستدلوا بما يلي:
1 -
عموم آيات إقامة الحدود في القرآن، قالوا: وهي عامة في التائبين وغيرهم (!!).
(1) حسن: أخرجه الترمذي (1454)، وأبو داود (4379)، وابن ماجة، وأحمد (26698).
(2)
«إعلام الموقعين» (3/ 21).
(3)
حسن: أخرجه ابن ماجة (4250)، والبيهقي (10/ 154)، والطبراني (10/ 150).
(4)
سورة الأنفال: 38.
وأجيب: بأن هذا من العموم المخصَّص بالسنة كما تقدم في أدلة الفريق الأول.
2 -
الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحدَّ على من جاء تائبًا يطلب التطهير بإقامة الحد عليه كماعز والغامدية رضي الله عنهما.
قالوا: فلو كانت التوبة قبل القدرة مسقطة للحدِّ لم يحدَّهم صلى الله عليه وسلم.
وأجيب: بأن الحدَّ مطهَّر والتوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحدِّ على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يُطهَّرا بالحدِّ، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز:«هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» (1) ولو تعيَّن الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مُخيَّر بين أن يتركه - كما قال لصاحب الحد الذي اعترف:«اذهب فقد غفر الله لك» (2) - وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختار إقامته، وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، وهما
يأبيان إلا إقامته عليهما.
وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم (3).
قلت: وهو الأرجح، والأقرب إلى روح الشريعة، وهو مقتضى رحمة رب العالمين واتساعها للعفو عن المذنبين، ورفع العقاب عن التائبين، فليس للإمام أن يقيم الحدَّ على من تاب توبة صادقة وجاء بنفسه فاعترف قبل أن تقوم البينة عليه ويؤتى به إلى الإمام، لكن إذا طلب هو إقامة الحد عليه أُقيم وإلا فلا، على أنه ينبغي أن ينتبه إلى أنَّ من قامت عليه البينة وأتى به إلى الإمام ليقيم عليه الحد، ثم أظهر التوبة لم يُقبل منه ذلك، فإن كان تائبًا في الباطن كان الحد مكفِّرًا، وكان مأجورًا على صبره (4) والله أعلم.
شروط وجوب الحدِّ:
يشترط فيمن يرتكب جريمة حدِّية ليجب عليه الحد - عمومًا - ما يلي:
(1) إسناده حسن: تقدم قريبًا.
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
«إعلام الموقعين» (2/ 79).
(4)
انظر «مجموع الفتاوى» (16/ 31).
1 -
التكليف (البلوغ، والعقل):
فلا خلاف بين الفقهاء في أن الحد لا يجب إلا على مكلَّف، وهو البالغ العاقل، فلا يُحدُّ الصغير ولا المجنون، ويؤيد هذا:
(أ) حديث ابن عباس قال: أُتي عمر بمجنونة قد زَنتْ فاستشار فيها أناسًا،
فأمر بها عمر أن تُرجم، فمر بها على عليِّ بن أبي طالب فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: راجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم قد رُفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء، قال: فأرْسِلْها، قال: فأَرْسَلَها، فجعل يكبِّر (1).
(ب) وفي حديث أبي هريرة - في قصة اعتراف ماعز بالزنا -:
…
فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون» ؟
…
الحديث (2).
فدلَّ على أنه لو كان به جنون ما أقام عليه الحدَّ.
2 -
الاختيار وعدم الإكراه:
فلا حدَّ على من أُكره على أمر من الأمور، قال الله تعالى:{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
3 -
العلم بالتحريم:
فلا يجب إلا على من عُلِم التحريم، وبهذا قال عامة أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم راجع ماعزًا فقال له:«هل تدري ما الزنا؟» (5). وقد رُوي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا حدَّ إلى على من علمه» (6) وأسانيده ضعيفة.
(1) صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4399)، وأحمد (1/ 116) ومواضع، وله شاهد عن عائشة، وفي لفظ لأبي داود (4401) أنه قال: أوما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة
…
».
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
سورة النحل: 106.
(4)
صحيح: تقدم مرارًا.
(5)
ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7/ 322)، وعنه أبو داود (4428)، والنسائي في الكبرى (7165)، وابن حبان (4399)، وفيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس.
(6)
انظر: «إرواء الغليل» للعلامة الألباني رحمه الله (2314 - 2315).
فإن ادعى الزاني - مثلًا - الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهلهُ كحديث العهد بالإسلام، قُبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا، وإن كان ممن لا يخفى عليه كالمسلم الناشئ بين المسلمين لم يُقبلْ منه؛ لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك.
هذا، وهناك شروط أخرى لوجوب كل حدٍّ، يأتي الكلام عليها في موضعها - إن شاء الله.
تنبيه: يشترط لإقامة الحد العلم بالتحريم وليس العلم بالعقوبة، فإن علم أن الزنا مثلًا محرَّم، لكن لم يَدْرِ أنه يُرجم، أقيم عليه الحد، بلا خلاف.
هل يقام الحد على المريض ونحوه؟ (1)
مرتكب الجريمة الحدِّية إذا كان مريضًا عند القدرة، فله حالتان:
(أ) أن يكون مرضه مما يُرجى بُرْؤه: ففيه قولان للعلماء:
الأول: يقام عليه الحدُّ ولا يؤخر، وبه قال إسحاق وأبو ثور وهو رواية عن أحمد، وحجة هذا القول:
1 -
أن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يُؤَخِّرهُ (2)، وانتشر ذلك في الصحابة، فلم ينكروه، قالوا: فصار إجماعًا (!!).
2 -
أن الحد واجب على الإمام إقامته، فلا يؤخَّر بغير حجة.
الثاني: يؤخر الحد حتى يبرأ من عليه الحدُّ من مرضه، وهو مذهب الجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم، وحجتهم:
1 -
عن أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: خطب عليٌّ رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحدَّ، من أحصن منهم، ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«أحسنتَ» وزاد في رواية: «اتركها حتى تماثل» (3).
(1)«فتح القدير» (5/ 29)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «نهاية المحتاج» ، و «المغني» (8/ 171) وللقصة شاهد من حديث ابن عباس عند النسائي في «الكبرى» (5289).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (9/ 240) ومن طريقه البيهقي (8/ 315).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1705)، وأبو داود (4473)، والترمذي (1441).
قلت: وقد يستدل لهم كذلك:
2 -
بحديث الغامدية لما جاءت فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردَّها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردُّني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحُبلى، قال:«أما الآن، فاذهبي حتى تلدي» فلما ولدت أتته
بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُ، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه
…
» الحديث (1).
وهو أصل تأخير الحد لعارض يترتب عليه مصلحة للمحدود، والله أعلم.
ولا شك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره يقدَّم على فعل عمر وغيره، والله أعلم.
(ب) أن يكون مرضه مما لا يُرجى بُرؤه (2): فيقام عليه الحدُّ في الحال، ولا يؤخَّر، فإن كان حدُّ مائة جلدة مثلاً، فإنه يقام عليه بسوط يؤمن معه التلف، فإن خيف عليه جُمع عُثكول فيه مائة شمراخ فيضرب به ضربة واحدة، وبه قال الشافعي.
وأنكره مالك؛ لأن هذه ضربة واحدة والله تعالى يقول: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (3).
وقول الشافعي أظهر، لحديث سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: كان في أبياتنا رُويجل ضعيف، فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«اضربوه حدَّهُ» فقالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، فقال:«خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ، ثم أضربوه به ضربة واحدة» ، ففعلوا (4).
فهذا في حال العذر أولى من ترك حدِّه بالكلية، وأولى من قتله بما لا يوجب القتل.
قلت:
وقد قال الله تعالى - في شأن أيوب عليه السلام لما أقسم أن يضرب امرأته مائة ضربة -: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} (5).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1695).
(2)
انظر: «سبل السلام» (4/ 1283).
(3)
سورة النور: 2.
(4)
فيه ضعف: أخرجه ابن ماجة (2574)، وأحمد (5/ 222)، وابن أبي عاصم في «الآحاد» (2024)، والطبراني في «الكبير» (6/ 63) وفيه عنعنه ابن إسحاق.
(5)
سورة ص: 44.
هل تُقام الحدود على المسلم في دار الحرب؟ (1)
إذا أصاب المسلم - في أرض العدو - حدًّا من سرقة أو شرب خمر أو نحوهما من موجبات الحدود فقد اختلف أهل العلم في إقامة الحدِّ عليه على ثلاثة أقوال:
الأول: يقام عليه الحد سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، وهو مذهب المالكية، وحكاه البيهقي وغيره عن الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، وحجتهم:
1 -
أن الأدلة الآمرة بإقامة الحدود مطلقة، في كل مكان وزمان، كقوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (2).
2 -
حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر» .
الثاني: لا حدَّ عليه في دار الحرب، لا إذا رجع، وهو مذهب أبي حنيفة على ما نقله ابن قدامة وابن القيم عنه - وقيَّده الحنفية بعدم وجود خليفة المسلمين ف دار الحرب، فإن كان معهم وجبت إقامة الحدود على من تلبَّس بها ولا تؤخَّر، فإن لم يكن معهم سقط الحد، واحتجوا بحديث:«لا تقام الحدود في دار الحرب» (3) ولا أصل له.
ويستدل لهم بان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أسقط الحد - حدَّ الخمر - عن أبي محجن، فخلَّى سبيله، وقال:«والله لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم» (4).
الثالث: لا يقام عليه الحد في أرض الحرب، ولا يسقط عنه بالكلية، بل يؤخَّر حتى يرجع إلى أرض الإسلام:
وهو مذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي، واستدلوا بما يلي:
(1)«شرح فتح القدير» (5/ 46)، و «جواهر الإكليل» (2/ 286)، و «المغني» (10/ 537 - مع الشرح الكبير)، و «سنن البيهقي» (9/ 103)، و «نيل الأوطار» (7/ 163)، و «الحدود والتعزيزات» (ص: 39 - وما بعدها).
(2)
سورة النور: 2.
(3)
لا أصل له: قال ابن الهمام الحنفي في «فتح القدير» (5/ 46): «لا يُعلم له وجود» اهـ.
(4)
صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2502)، وابن أبي شيبة (6/ 550)، وعبد الرزاق (9/ 243).
1 -
حديث بسر بن أبي أرطأة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» (1) وفي لفظ «في السفر» .
قال ابن القيم: «فهذا حدٌّ من حدود الله وقد نهى عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتب عله ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضبًا كما قال عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم
…
» اهـ (2).
فإن قيل: ظاهر الحديث سقوط الحد لا تأخيره، والحال يقتضي البيان؟! قيل: الحديث نهى عن إقامة حد القطع في (غير واضح ص 18) وهو الغزو وليس إسقاطًا له، ويوضحه فعل الصحابة رضي الله عنهم.
2 -
فرُوي عن عمر أنه «كتب إلى الناس: أن لا يجلدون أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غازٍ حتى يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار» (3).
3 -
ورُوى عن أبي الدرداء: «أنه كان ينهي أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم» (4).
4 -
وعن علقمة بن قيس قال: «كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحدَّه، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم؟! وقد دَنَوْتُم من عدوكم فيطمعون
فيكم» (5).
وفيه أن حذيفة لم يسقط الحد عنه وإنما استنكر عليهم تعجيله وهم عند أرض العدو مخافة أن يطمع فيهم الأعداء.
(1) صحيح إلى بسر: أخرجه أبو داود (4408)، والترمذي (1450)، وأحمد (17174)، والدارمي (2492) وغيرهم وهو صحيح إلى بسر، وهو مختلف في صحبته وفي سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه كلام يغمز في عدالته - لا في صدقه -.
(2)
«إعلام الموقعين» (3/ 17).
(3)
حسن بطرقه: سعيد بن منصور (2500)، وابن أبي شيبة (5/ 549)، والبيهقي (9/ 105).
(4)
إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2499).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه سعيد بن منصور (2501)، وعبد الرزاق (5/ 198)، وابن أبي شيبة (5/ 549).
5 -
قال ابن قدامة: وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم (!!) والظاهر أن مراده الإجماع السكوتي.
6 -
انه قد ثبت تأخير الحدِّ لمصلحة المحدود (كالحامل والمرضع) فتأخيره لما فيه مصلحة المسلمين وحاجتهم إليه أولى. قلت: وهذا الأخير أظهر والله أعلم.
لا تُقام الحدود في المساجد (1):
اتفق الفقهاء على أنه تحرم إقامة الحدود في المساجد، لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد في المساجد» (2) وعن طارق بن شهاب قال: أُتي عمر برجل في شيء فقال: «أخرجاه من المسجد واضرباه» (3).
ولأن تعظيم المسجد واجب، وفي إقامة الحدود فيه ترك تعظيمه.
ولا خلاف في إقامتها في الحرم على من ارتكب موجب الحد فيه، أما من ارتكبه خارج الحرم ولجأ إليه، فقد اختلف الفقهاء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يُستوفى فيه حدٌّ لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنًا} (4).
ولحديث أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا» (5) يريد: مكة.
قالوا: يُقاطع ويضيَّق عليه حتى يخرج فيستوفى منه الحد.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه تستوفى الحدود في الحرم، لحديث أنس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه مغفر، فلما نزع المغفر، جاءه رجل فقال: ابن خطيل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» (6).
(1)«البدائع» (7/ 60)، و «جواهر الإكليل» (2/ 223)، و «روضة الطالبين» (10/ 173)، و «كشاف القناع» (6/ 80).
(2)
حسن بشواهده: أخرجه أبو داود (4490)، وأحمد (3/ 434)، والحاكم (4/ 378)، والبيهقي (8/ 328)، وانظر «الإرواء» (2327).
(3)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 23).
(4)
سورة آل عمران: 97.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).
التلف بسبب الحدود (1):
لا خلاف بين الفقهاء في أن الحدود إذا أُتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة، أنه لا يضمن من تلف بها، وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يؤاخذ به، ولأنه نائب عن الله تعالى، ومأمور بإقامة الحد، وفعل المأمور لا يتقيَّد بشرط السلامة، وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف.
الحدود كفارات للذنوب:
ذهب الجمهور - خلافًا للحنفية - إلى أن الحدَّ المقدَّر في ذنب كفارة لذلك الذنب، ويدلُّ على هذا حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال:«بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها -، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عاقبه» (2).
وقال الحنفية: الحد غير مُطهِّر، بل المطهر التوبة، فإذا حُدَّ ولم يتب يبقى عليه إثم المعصية - عندهم - كما قال تعالى في حدِّ قطاع الطريق:{ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (3).
استحباب الستر على المسلم:
من عايَنَ ارتكاب مسلم لجريمة حدِّية، فهو مخيِّر بين أداء الشهادة حسبةً لله تعالى القائل {وأقيموا الشهادة لله} (4). وبين الستر على أخيه المسلم، وهو الأولى، لاسيما على من كان ظاهره الستر ولم يكن مجاهرًا بمعصيته، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (5).
ويستحب كذلك أن يستر العبد على نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله
(1)«ابن عابدين» (3/ 189)، و «مواهب الجليل» (6/ 321)، و «روضة الطالبين» (10/ 101)، و «كشاف القناع» (6/ 83).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709).
(3)
سورة المائدة: 33.
(4)
سورة الطلاق: 4.
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (2699)، والترمذي (1449)، وأبو داود (4925)، وابن ماجة (225).