الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: الجناية على النفس (القتل)
تعريف القتل:
القتل هو: فعل من العبد تزول به الحياة، أو: هو إزهاق روح آدمي بفعل آدمي آخر (1).
أقسامه:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الجناية على النفس تنقسم بحسب القصد وعدمه إلى: عند، وشبه عمد (وهو مختلف فيه)، وخطأ.
وقد زاد الحنفية قسمين: ما أُجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب، لكنهما داخلان في الأقسام الثلاثة كما سيظهر.
وأما مالك رحمه الله فأنكر (شبه العمد) على ما سيأتي تحريره في موضعه.
القسم الأول: القتل العمد:
تعريفه (2):
هو عند جمهور الفقهاء: الضرب بمحدد أو غير محدد، والمحدد: ما يقطع ويدخل في البدن كالسكين والسيف وأمثالهما.
وغير المحدد هو: ما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، كحجر كبير وخشبة كبيرة.
وأما الحنفية فعرَّفوا القتل العمد بأنه: تعمُّد ضرب المقتول في أي موضع من جسده بآلة تفرق الأجزاء كالسيف والليطة (3) والنار، وليس القتل بالمثقل (الحجر) عمدًا عندهم.
وقد عرَّفه الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله بأنه: (ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجني عليه).
(1)«فتح القدير» (8/ 244).
(2)
«ابن عابدين» (5/ 339)، و «البدائع» (7/ 233)، و «القوانين الفقهية» (339)، و «روضة الطالبين» (9/ 123)، و «المغني» (7/ 639)، و «كشاف القناع» (5/ 504)، و «التشريع الجنائي» (2/ 10).
(3)
الليطة: قشرة القصب التي تقطع.
حكم تعمد القتل بغير حق:
قتل النفس التي حرم الله بغير حق من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع:
(أ) فمن الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل} (1).
2 -
وقوله سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئًا} (2).
3 -
وقال عز وجل: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (3).
4 -
وقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} (4).
5 -
وقال عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} (5).
(ب) ومن السنة:
1 -
حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا
بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (6).
2 -
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
…
» الحديث (7).
(1) سورة الإسراء: 33.
(2)
سورة النساء: 92.
(3)
سورة النساء: 93.
(4)
سورة المائدة: 32.
(5)
سورة النساء: 29، 30.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(7)
صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
3 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يُقضى بين الناس في الدماء» (1).
4 -
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» (2).
5 -
وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
…
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم
…
» (3).
(جـ) وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في تحريم القتل العمد العدوان بغير حق، وأن صاحبه يستحق القتل في الدنيا حدًّا، ما لم يكن مستحلًّا لذلك فيكون كفرًا، ويستحق العقاب بالنار - والعياذ بالله - في الآخرة (4).
توبة القاتل عمدًا (5):
قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} (6).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا
…
» (7).
فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن توبة القاتل لا تقبل، استدلالًا بهذه الآية الكريمة من وجهين: أحدهما: أنها من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء، والآخر: أن لفظها لفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير، لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقًا.
وأما أكثر أهل العلم فقالوا: تقبل توبته؛ لأن معتقد أهل السنة: أن مرتكب
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1678).
(2)
صحيح: أخرجه الترمذي (1414)، والنسائي (7/ 82).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1218) وغيره.
(4)
«مراتب الإجماع» (ص 137، 138).
(5)
«شرح الخطاب» (6/ 231)، و «حاشية الجمل» (5/ 2)، و «تكملة المجموع» (17/ 225)، و «المغني» (8/ 259 - القاهرة)، و «كشاف القناع» (5/ 504).
(6)
سورة النساء: 93.
(7)
صحيح بطرقه: أخرجه أبو داود (4270)، والنسائي (7/ 81)، وأحمد (4/ 99).
الكبيرة - ما عدا الشرك - أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، مع اعتقادهم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، وقد تضافرت النصوص في هذا المعنى، قال الله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (1).
وقال سبحانه: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (2) وهي تشمل الشرك إذا تاب الإنسان منه فإن الله يقبل توبته منه، وهو أعظم من القتل.
وكذلك فإن الأحاديث الواردة في أن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها أو حتى يغرغر، عامة تشمل القاتل وغيره.
ويؤيد مذهب الجماهير كذلك: حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا وأتم المائة بالعابد الذي قال له: لا أجد لك توبة (!!) ثم دُلَّ على عالم فسأله فقال: من يحول بينك وبين التوبة، ولكن أخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، ولما اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، بعث الله إليهم ملكًا، فقال:«قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها» فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فجعلوه من أهلها (3).
وأما الآية الكريمة فمحمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه، وله العفو إن شاء، وأما كون الخبر لا يدخله النسخ، فنقول: يمكن أن يدخله التخصيص والتأويل إعمالًا لجميع النصوص، وكذلك حديث أبي الدرداء فمحمول على المستحل، أو أنه وارد على سبيل الزجر والتغليظ، والله أعلم.
القتل بالمثقل، هل يعتبر عمدًا يوجب القصاص؟
اتفق العلماء على أن القتل بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما يعتبر عمدًا يوجب القصاص.
وأما المثقل كالحجر والمطرقة ونحو ذلك، فاختلفوا فيه على قولين (4):
الأول: كل مثقل يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو
(1) سورة النساء: 8.
(2)
سورة الزمر: 53.
(3)
صحيح: أخرجه بمعناه البخاري، ومسلم (2766).
(4)
«ابن عابدين» (6/ 528)، و «البدائع» (7/ 233)، و «الكافي» (2/ 1095)، و «الأم» (5/ 97)، و «نهاية المحتاج» (7/ 248)، و «المغني» (8/ 261)، و «الإنصاف» (9/ 436).
عمد، وبهذا قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد وصاحبا أبي حنيفة، وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وإسحاق وغيرهم، واحتجوا بما يلي:
1 -
عموم قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا} (1) قالوا: وهذا مقتول مظلومًا.
2 -
عموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (2).
3 -
حديث أنس رضي الله عنه: «أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين» (3).
4 -
قالوا: ولأن المثقل يقتل غالبًا فأشبه المحدد.
الثاني: لا يعتبر القتل بالمثقل عمدًا: وهو مذهب أبي حنيفة المشهور عنه (4)، وبه قال الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس وغيرهم، واحتجوا بما يلي:
1 -
حديث: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ - قتيل السوط والعصا [والحجر]
- مائة من الإبل
…
» (5) قالوا: فسمي القتل بالحجر عمد الخطأ، وأوجب فيه الدية دون القصاص.
2 -
قالوا: ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه، فيجب ضبطه بمظنته، ولا يمكن ضبطه بما قتل غالبًا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير، فوجب ضبطه بالجرح!!
الراجح: والذي يترجَّح لديَّ قول الجمهور لما استدلوا بما هو واضح الدلالة، وأما الحديث فلو ثبت فيه لفظ «والحجر» (6) فهو محمول على المثقل الصغير الذي لا يغلب على الظن حصول الزهوق به؛ لأنه اقترن بالعصا والسوط، وأما ضبط الضرب بالمثقل بالجرح ففيه نظر، بدليل ما لو قتله بالنار، والله أعلم.
(1) سورة الإسراء: 33.
(2)
سورة البقرة: 178.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6879)، ومسلم (1672).
(4)
وعنه رواية ثانية في مثقل الحديد أنه لا يعتبر عمدًا.
(5)
حسن: أخرجه أبو داود (4547)، و «النسائي (8/ 40، 41)، وابن ماجة (2627)، وابن الجارود (773)، والبيهقي (8/ 68)، والطحاوي (3/ 185) وغيرهم ومداره على عقبة بن أوس، وهو شبه حسن.
(6)
صحَّ عن ابن مسعود: «أن شبه العمد: الحجر والعصا» أخرجه عبد الرزاق (9/ 277 - 278)، من طريقين يقوي أحدهما الآخر.
عقوبة القتل العمد:
أجمع أهل العلم على أن عقوبة القتل العمد العدوان هي القود (القصاص).
1 -
قال الله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} (1).
2 -
وقال سبحانه {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} (2).
3 -
وقال عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (3).
4 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يُقاد» (4).
ولأولياء المقتول أن يعفو عن القصاص ويقبلوا الدية، ولهم أن يصالحوا على غير ذلك كما سيأتي بيانه في:«ما يسقط به القصاص» .
شروط وجوب القصاص:
يشترط لوجوب القصاص شروط، وهي:
1 -
وجود العمد، وهو القصد إلى المقتول بما يقتله من محدد أو ما يقتل به غالبًا.
2 -
أن يكون القاتل مكلفًا: أي بالغًا عاقلًا، فلا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه، وقد تقدمت أدلة هذا مرارًا.
3 -
وهل يشترط الاختيار وعدم الإكراه؟ (5)
ذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد - وهو قول للشافعي - إلى أن المُكْرَه على القتل لا قصاص عليه، لحديث: «إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» (6).
(1) سورة البقرة: 178.
(2)
سورة البقرة: 179.
(3)
سورة المائدة: 45.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1305).
(5)
«بداية المجتهد» (2/ 457 - الحلبي)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «البدائع» (7/ 179)، و «ابن عابدين» (6/ 136)، و «تكملة المجموع» (17/ 269)، و «نهاية المحتاج» (7/ 358)، و «المغني» (8/ 266)، و «الإنصاف» (9/ 453).
(6)
حسن: أخرجه ابن ماجة (2043) وغيره وقد تقدم مرارًا.
قالوا: ولأن المكرَه آلة في يد المُكرِه، وهو إكراه ملجئ، فهو كما لو رمى به عليه فقتله.
وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو قول ثان للشافعي وزفر من أصحاب أبي حنيفة إلى أن المكره يجب عليه القصاص، وحجتهم: أن المكره قتله عمدًا ظلمًا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله، أي كمن اختار قتله على قتل نفسه.
أما قول الأولين: إنه إكراه ملجئ، فغير صحيح، فإنه متمكن من الامتناع، ولديه خيار بين قتل نفسه وقتل غيره، فلا يقال: لا اختيار لديه.
قلت: وهذا الأخير أظهر، فإن محل الإكراه القول لا الفعل، ويؤيد هذا المذهب كذلك عندي حديث سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليَّ ليقتلني؟ قال: «كن كابن آدم» (1) فمنعه أن يبسط يده ليقتل من يريد قتله، فلأن يُمنع من قتل غيره - الذي لم يعتد عليه - إذا أكره عليه من باب أولى، ومثله وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر أن يعتزل
الناس إذا قتل بعضهم بعضًا ولا يأخذ سلاحه حتى قال له: «
…
ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك» (2).
4 -
أن يكون المقتول معصوم الدم: فلو كان حربيًّا، أو زانيًا محصنًا، أو مرتدًّا، فإنه لا ضمان على قاتله لا بقصاص ولا بدية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (3).
5 -
أن لا يكون القاتل أصلًا (أبًا أو جدًّا) للمقتول: فلو قتل رجل ابنه أو حفيده (من ولد البنين أو ولد البنات) فإنه لا يقتل به، وبهذا يقول أكثر أهل العلم
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2194)، وأبو داود (4257)، وأحمد (1/ 185)، والمراد ابن آدم الذي قال لأخيه:{لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [سورة المائدة: 28].
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (4261)، وابن ماجة (3958)، وأحمد (5/ 149)، وابن حبان (5960).
(3)
صحيح: تقدم مرارًا.
منهم: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال ربيعة والثوري والأوزاعي (1)، وحجتهم:
1 -
حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل والد بولده» (2).
2 -
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كانت لرجل من بني مُدلج جارية فأصاب منها ابنًا فكان يستخدمها، فلما شبَّ الغلام دعى بها يومًا، فقال: اصنعي كذا وكذا، فقال الغلام: لا تأتيك، حتى متى تستأمر
أمي؟ قال: فغضب أبوه فحذفه بسيفه، فأصاب رجله أو غيرها فقطعها، فنزف الغلام فمات، فانطلق في رهط من قومه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه -فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك؟ لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقادُ الأب بابنه» لقتلتك، هلم ديته، قال: فأتاه بعشرين أو ثلاثين ومائة بعير، قال: فتخير منها مائة فدفعها إلى ورثته وترك أباه» (3).
3 -
ولأن الأب كان سبب حياته، فلا يكون الولد سببًا في موته، وفي حُكم الوالد هنا كل الأصول من الذكور والإناث مهما بعدوا، فيدخل في ذلك الأم والجدات وإن علون من الأب كُنَّ أَمْ من الأُم، كما يدخل الأجداد وإن علوا من الأب كانوا أو من الأم لشمول لفظ الوالد لهم جميعًا.
وهذا كله في الوالد النَّسبي، أما الوالد من الرضاع، فقال الحنابلة: يقتل بولده من الرضاع لعدم الجزئية الحقيقية.
6 -
أن يكون بين القاتل والمقتول تكافؤ في الدين، والحرية والرق: وهذا يعني أمرين:
(أ) لا يقتل المسلم بكافر (4):
اتفق الفقهاء على أنه لا قصاص على المسلم إذا قتل الكافر الحربي ومن لا
(1)«البدائع» (7/ 235)، و «مغني المحتاج» (4/ 18)، و «المغني» (7/ 666)، و «كشاف القناع» .
(2)
صحيح لغيره: أخرجه الترمذي، وابن ماجة (2661) وغيرهما وله شاهد (5/ 27)، قوى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر «الإرواء» (2214).
(3)
صحيح: أخرجه ابن الجارود (788)، والدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 38).
(4)
«ابن عابدين» (5/ 343)، و «الهداية» (4/ 360)، و «المنتقي» للباجي (7/ 174)، و «الدسوقي» (4/ 238)، و «روضة الطالبين» (9/ 150)، و «مغني المحتاج» (4/ 16 - 18)، و «المغني» (7/ 660)، و «الإنصاف» (20/ 294).
عهد له ولا ذمة، وأكثر أهل العلم على عدم قتله بأي كافر كان سواء كان حربيًّا أو
ذميًّا، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وغيرهم من السلف.
1 -
واحتجوا بحديث أبي جحيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيء من الوحي ليس في القرآن؟ وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر» (1).
2 -
وبحديث عليٍّ مرفوعًا: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» (2).
وخالف أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والنخعي، فقالوا: يقتل المسلم بالذمي خاصة (!!) واحتجوا بما يلي:
1 -
ما روي عن عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي قال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر مسلمًا بكافر قتلة غيلة، وقال:«أنا أولى وأحق من أوفى بذمته» (3).
وأجيب: بأنه ضعيف لا يحتج به.
2 -
أوَّلوا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» بأن المراد:
الكافر الحربي دون من له عهد وذمة من الكفار جمعًا بين الخبرين (!!).
3 -
حديث: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهد
…
» (4) قالوا: فالكلام فيه تقدير، وهو:(لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي) قالوا: وهو يدل بمفهومه على أن المسلم يقتل بالكافر الذمي.
وأجيب: بأن هذا مفهوم صفة، والخلاف في العمل به مشهور بين أئمة
(1) صحيح: أخرجه البخاري، والنسائي (8/ 23)، والترمذي (1412)، وأحمد (1/ 79).
(2)
حسن: أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (1/ 122)، والبيهقي (8/ 29).
(3)
ضعيف: أخرجه أبو داود في «المراسيل» (251)، وعبد الرزاق، والشافعي، وفيه مع إرساله ابن البيلماني: مجمع على تركه.
(4)
حسن: وهو حديث عليٍّ المتقدم.
الأصول، والحنفية من جملة القائلين بعدم العمل به، فكيف يصح احتجاجهم به؟! كما أن الجملة المعطوفة «ولا ذو عهد في عهده» لمجرد النهي عن قتل المعاهد بعد كلام تام مستقل بنفسه وهو «لا يقتل مؤمن بكافر» فلا تقدير فيها أصلًا.
4 -
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1).
وأجيب: بأنه قد خصصه حديث عليٍّ المتقدم.
فالحاصل: أنه لا يُسلَّم بما قاله الحنفية من صرف ظاهر الحديث، فعُلم أن الحق مذهب الجمهور من عدم قتل المسلم بكافر حربيًّا كان أو ذميًّا، ويؤيده قوله تعالى:{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (2) ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل، وقد نفى الله تعالى أن يكون له عليه سبيل نفيًا مؤكدًا، وقد ثبت عن ابن عمر: أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا، فرفع ذلك إلى عثمان، فلم يقتله وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم: ألف
دينار (3).
فائدتان:
1 -
ذهب مالك وأحمد في رواية إلى أن هذا التكافؤ لا يشترط في القتل بالحرابة، فيقتل فيها المسلم بالذمي، وهو اختيار شيخ الإسلام، قال: وهو أعدل الأقوال، وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب، فإن القتل فيها (أي: في المحاربة) حد لعموم المصلحة فلا تتعين فيه المكافأة. اهـ.
ووجهه - كما يقول المالكية - أن هذا قتل يسقط بالعفو فلم يسقط بعدم التكافؤ، وأصل ذلك القتل بالردة، ولأنه ليس بقتل قصاص، وإنما هو حق لله تعالى أو أنه حق للآدميين تغلَّظ بحق الله تعالى (4).
وأما مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين: فلا يقتل المسلم بالكافر بحال، وعند أبي حنيفة: يقتل به بكل حال على ما تقدم (5).
(1) سورة المائدة: 45.
(2)
سورة النساء: 141.
(3)
إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (876).
(4)
«المنتقى شرح الموطأ» (7/ 174)، و «الإنصاف» (10/ 294)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 382).
(5)
تقدمت مراجع الشافعية والحنفية قريبًا.
2 -
لا يعني عدم قتل المسلم بالذمي أنه يجوز له قتله، بل إن ذلك إثم عظيم: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا» (1).
وعن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدًا في غير كنهِهِ حرَّم الله عليه الجنة أن يجد ريحها» (2).
وما يوجد ببلاد المسلمين من اليهود والنصارى ليسوا أهل ذمة، وربما انطبق على بعضهم أنهم مستأمنون، وقد يؤدي قتلهم إلى مفاسد كثيرة (3).
(ب) لا يُقتل حُرٌّ بعبد: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على نحو اختلافهم في قتل المسلم بالكافر، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحر إذا قتل عبدًا فلا قصاص عليه، لأن الأعلى لا يُقتل بالأدنى، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:«أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنةَ، ومحا سهمه من المسلمين، [ولم يَقُدْهُ به، وأمره أن يعتق رقبة]» (4) وهو ضعيف.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد» (5) وفي الباب أحاديث أخرى ضعيفة.
وخالف أبو حنيفة ومن معه، وداود، فقالوا: يقتل الحرًّ بالعبد، محتجِّين بعمومات الآيات والأخبار الواردة في القصاص:
1 -
كقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (6).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (3166)، وابن ماجة (2686)، وابن الجارود (834)، وابن أبي عاصم في «الديات» ، (ص 175)، والحاكم (2/ 126) وغيرهم.
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (2760)، والنسائي (8/ 24)، وأحمد (5/ 38) وغيرهم.
(3)
«اختيارات ابن قدامة الفقهية» للغامدي (4/ 21).
(4)
ضعيف: أخرجه ابن ماجة (2664)، والدارقطني (3/ 143)، والبيهقي (8/ 36) وله شاهد ضعيف جدًّا من حديث علي.
(5)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 413)، وعبد الرزاق (9/ 491)، والدارقطني (3/ 134)، وعنه البيهقي (8/ 34)، من طرق عن حجاج عن عمرو به، وحجاج هو ابن أرطأة مدلس وقد عنعنه.
(6)
سورة المائدة: 45.
2 -
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1).
وأجيب: بأن هذه العمومات مخصوصة بأدلة الأولين، والخاص مقدم على العام.
3 -
واستدلوا كذلك بما رُوي من طريق الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» (2).
وأجيب: بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فيمكن أن يخرج مخرج التحذير، وقيل: هو منسوخ، لا سيما وأن الحسن كان يُفتى بخلافه (!!).
والذي يترجح هنا: قول الجمهور، ويمكن أن يُستدل له كذلك بمفهوم خطاب قوله تعالى:{الحر بالحر والعبد بالعبد} (3) فإن قيل: فيلزم على مقتضى هذا أن لا يُقتل العبد بالحر؟! قلنا: قتل العبد بالحر مجمع عليه، فلا يلزم التساوي بينهما في ذلك، والله أعلم.
هل يُقتل الجماعة بالواحد؟
إذا اشترك جماعة في قتل مسلم حر، ففعل كل منهم فعلًا لو انفرد به لكان كافيًا في قتله، فذهب الجماهير من أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد في المشهور عنه، إلى أنهم يقتلون جميعًا به، وهو مروي عن عمر وعليٍّ وابن عباس والمغيرة بن شعبة، وبه قال ابن المسيب والحسن وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، وحجتهم:
1 -
أن عمر بن الخطاب قال - في غلام قُتل غيلة -: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا» (4).
2 -
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه «قتل ثلاثة قتلوا رجلًا» (5).
3 -
وعن ابن عباس أنه قال: «لو أن مائة قتلوا رجلًا، قُتلوا به» (6).
قالوا: وهذا فعل من الصحابة لا يفعلونه إلا بتوقيف، كما أنه لم يظهر لهم مخالف فكان إجماعًا أو مثله.
(1) حسن: تقدم قريبًا.
(2)
ضعيف: أخرجه أبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (4750)، وابن ماجة (2663).
(3)
سورة البقرة: 178.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري، والبيهقي (8/ 40)، واللفظ له.
(5)
إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه (5/ 429) ط. الرشد.
(6)
إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه عبد الرزاق (9/ 479).
4 -
ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك، لأدَّى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.
ومنع بعض أهل العلم من قتل الجماعة بالواحد، فقال بعضهم: تجب عليهم الدية فقط وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وبه قال ربيعة وأبو داود وابن المنذر، وحُكي عن ابن عباس (!).
وقال بعضهم: يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، وهذا مروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير، وبه قال ابن سيرين والزهري.
واحتجوا جميعًا:
1 -
بقوله تعالى: {الحر بالحر} وبقوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1) قالوا: ومقتضاهما أن لا يزاد على النفس الواحدة بنفس.
2 -
ولأن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد.
والراجح: القول الأول القائل بقتل الجماعة بالواحد لأن الآيتين إنما بيَّنتا القتل العمد في أقل صوره، ولم تتعرض لحكم اشتراك الجماعة فبيَّنه فعل الصحابة رضي الله عنهم، ولعله يتأيد هذا المذهب بما ثبت في قصة العرنيين إذ قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا على قتل الرعاة (2).
وإذا شارك في القتل من لا قصاص عليه:
كأن يشترك والد المقتول مع أخيه في قتل ابنه، فللعلماء في هذه المسألة قولان (3):
الأول: تجب الدية على عاقلة من لا قصاص عليه وفي ماله عتق رقبة، ويقتص من الآخرين: وهذا مذهب مالك، وقول للشافعي، ورواية في مذهب أحمد، وهو مروي عن قتادة والزهري وحماد، وحجتهم:
أن القصاص عقوبة تجب عليهم جزاءً لفعلهم، فمتى كان فعلهم عمدًا عدوانًا
(1) سورة المائدة: 45.
(2)
أفاده في «اختيارات ابن قدامة» (4/ 27)، والقصة عند البخاري، ومسلم.
(3)
«البدائع» (7/ 235)، و «ابن عابدين» (6/ 535)، و «الكافي» (2/ 1098)، و «الشرح الصغير» (4/ 346)، و «الأم» (6/ 20)، و «نهاية المحتاج» (7/ 275)، و «المغني» (8/ 295)، و «الإنصاف» (9/ 458).
وجب القصاص عليهم، دون النظر إلى فعل الشريك بحال، لكن يسقط القصاص عن هذا لمانع فيه هو، ككونه والدًا للمقتول، أو كونه غير مكلف.
الثاني: لا قصاص على أحد منهم، وتجب الدية: وهو مذهب أبي حنيفة، وقول ثانٍ للشافعي، والمشهور من مذهب أحمد، وبه قال الحسن والأوزاعي وإسحاق، وحجتهم:
1 -
أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ.
2 -
ولأن الصبي والمجنون - مثلًا - لا قصد لهما صحيح، ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.
قلت: والأول أظهر، والله أعلم.
وإذا أمسك رجلًا وقتله الآخر (1):
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الممسك للمقتول حال قتل القاتل له لا يلزمه القود، ولا يعدُّ فعله مشاركة حتى يكون ذلك من باب قتل الجماعة بالواحد، بل الواجب حبسه فقط، واحتجوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2).
2 -
ما يُروي عن ابن عمر مرفوعًا: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، وقتله الآخر
يُقتل الذي قتل، ويُحبس الذي أمسك» (3) وهو ضعيف.
3 -
ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل قتل رجلًا متعمدًا، وأمسكه آخر، قال:«يُقتل القاتل، ويُحبس الآخر في السجن حتى يموت» (4).
وذهب مالك والليث إلى أن الممسك يُقتل كالمباشر للقتل لأنهما شريكان، إذ لولا الإمساك لما حصل القتل.
قلت: والأول أرجح - رغم ضعف الأثرين - لأن الصحابة قدَّموا المباشرة على السبب، فقد قضي عمر رضي الله عنه في أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر، فوقع
(1)«نيل الأوطار» (7/ 30)، و «كشاف القناع» (5/ 520)، و «المغني» (11/ 596 - الفكر).
(2)
سورة البقرة: 194.
(3)
ضعيف: أخرجه الدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 50) ورجَّحا إرساله.
(4)
إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (9/ 480).
الأعمى على البصير فمات البصير، «قضي عمر رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى» (1).
فعُلم أنه لا حكم للسبب مع المباشرة، ما لم يكن فعل المشارك - إذا انفرد - مؤديًا إلى القتل، وقيل: ما لم يكن المشارك (الممسك) متواطئًا على القتل، فإن كان مريدًا قتله قُتل هو الآخر وهو قول متجه قوي.
7 -
اتفاق أولياء المقتول على طلب القصاص (2):
إذا مات المجني عليه من غير عفو عن قاتله، صار القصاص والمطالبة بدمه حقًّا لجميع الورثة على سبيل الاشتراك بينهم، يستوي فيهم - عند الجمهور -
العاصب وصاحب الفرض، والذكر والأنثى، والصغير والكبير (3)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقل المرأة عصبتُها من كانوا، ولا يرثوا منها شيئًا، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، فهم يقتلون قاتلها» (4).
والمراد بالعصبة هنا: الذين يرثون الميت عن كلالة من غير والد ولا ولد.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا، الأول فالأول، وإن كان امرأة» (5).
والمراد بالمقتتلين: أولياء المقتول الطالبين القود، وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة، وقوله «الأول فالأول» أي: الأقرب فالأقرب.
وذهب مالك إلى أن استيفاء القصاص لعصبة المجني عليه الذكور فقط (6)، سواء كانوا عصبة بالنسب كالابن، أو بالسبب كالولاء، فلا دخل فيه لزوج ولا أخ لأم أوجد لأم (!).
(1) إسناده حسن: أخرجه الدارقطني (3/ 98).
(2)
هذا هو الشرط السابع من شروط وجوب القصاص.
(3)
«البدائع» (7/ 242، 248)، و «الدسوقي» (4/ 240)، و «مغني المحتاج» (4/ 39، 50)، و «كشاف القناع» (5/ 546).
(4)
حسن: أخرجه أبو داود (1564)، والنسائي (8/ 43)، وابن ماجة (2647).
(5)
ضعيف: أخرجه أبو داود (4538)، والنسائي (8/ 39).
(6)
ونصَّ المالكية على أن القصاص يكون للنساء بثلاثة شروط: أن يكنَّ من ورثة المجني عليه، وأن لا يساويهن عاصب، وأن تكون المرأة ممن لو ذُكِّرت عصبت. وإذا كان للمجني عليه وارث من النساء، وعصبته من الرجال أبعد منهن، كان الحق في استيفاء القصاص لهن وللعصبة الأبعد منهن. انظر «الدسوقي» (4/ 256 - 258).
فإذا طلب الورثة القصاص أجيبوا إليه إذا طلبوه جميعًا، فإذا أسقطه أحدهم
سقط القصاص؛ لأنه لا يتبعَّض، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية كلٌّ حسب حصته في التركة.
فوائد:
1 -
إذا كان أحد الأولياء غائبًا: فإنه تنتظر عودته باتفاق الفقهاء؛ لأن له العفو فيسقط به؛ ولأن القصاص للتشفي فحقه التفويض إلى خيرة المستحق فلا يحصل باستيفاء غيره من حاكم أو بقية الورثة.
2 -
وإذا كان من بين الأولياء ناقص الأهلية (1):
(أ) فينتظر الصغير حتى يكبر والمجنون حتى يفيق، عند الشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية، قالوا: لأنه ربما يعفو فيسقط القصاص ولأن القصاص للتشفي كما تقدم، فيحبس القاتل حتى البلوغ والإفاقة.
(ب) وعند أبي حنيفة - وهو الصحيح في المذهب - أن حق القصاص يكون لكاملي الأهلية فقط (2) فلا ينتظر.
(جـ) وذهب المالكية إلى أنه لا ينتظر صغير لم يتوقف الثبوت عليه، ولا ينتظر مجنون مطبق لا تعلم إفاقته، بخلاف من يفيق أحيانًا فتنتظر إفاقته.
3 -
إذا لم يكن للمقتول وارث ولا عصبة (3): فيكون حد استيفاء القصاص
للسلطان عند الجمهور لولايته العامة.
وقال المالكية: حق القصاص للسلطان، وليس له أن يعفو.
وقال أبو يوسف: لا ولاية للسلطان في استيفاء القصاص إذا كان المقتول في دار الإسلام.
(1)«البدائع» (7/ 243)، و «الشرح الصغير» (4/ 359)، و «مغني المحتاج» (4/ 40)، و «المغني» (7/ 739).
(2)
لأن القصاص ثابت - عنده - لكل من كان كاملًا على سبيل الاستقلال لا على سبيل الاشتراك، فلا عبرة بناقصي الأهلية لأن عفوهم لا يصح.
(3)
«البدائع» (7/ 243)، و «الدسوقي» (4/ 256).
ما يسقط به القصاص:
1 -
موت القاتل (1):
إذا مات القاتل قبل أن يقتص منه سقط القصاص لفوات محله؛ لأنه القتل لا يرد على ميت، وسواء في ذلك أن يكون الموت قد حصل حتف أنفه أو بقتل له بحق كالحد، وتجب الدية في تركته عند الشافعية والحنابلة.
أما إذا قُتل هذا القاتلُ عمدًا عدوانًا: فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة - في المذهب - إلى سقوط القصاص مع وجوب الدية في مال القاتل الأول.
وذهب المالكية - وهو رواية عند الحنابلة - إلى أن الواجب القصاص على القاتل الثاني لأولياء المقتول الأول (!).
2 -
عفو الأولياء عن القصاص:
فإن القصاص حق لأولياء الدم - كما تقدم - ولهم الحق في العفو فإن عفوا سقط القصاص بالاتفاق لأنه عقد لهم فيسقط بعفوهم، ولهم الدية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودى، وإما أن يقاد» (2).
وعن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حُقَّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل» (5) والعقل: الدية.
(1)«البدائع» (7/ 246)، و «الشرح الصغير» (4/ 337)، و «الأم» (6/ 10)، و «مغني المحتاج» (4/ 48)، و «الشرح الصغير - مع المغني» (9/ 417)، و «الإنصاف» (10/ 6).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (1355).
(3)
سورة البقرة: 178.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (4498).
(5)
حسن: أخرجه الترمذي (1406)، وابن ماجة (2626).
وهذه الدية ليست هي الواجبة بالقتل، بل هي بدل عن القصاص ولو بغير رضا الجاني، ولذا فإن لهم أن يصالحوا على غيرها كما سيأتي في «الديات» .
والعفو عن القصاص مندوب إليه شرعًا، لقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب
للتقوى} (1) وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (2) وقوله سبحانه: {فمن تصدق به فهو كفارة له} (3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» (4).
وقد رُوي عن أنس قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو» (5).
فإن عفا بعض الأولياء دون بعض: سقط القصاص عن القاتل، لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر في القود ضرورة، لأنه لا يتجزأ، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبهم من الدية فعن زيد بن وهب: أن رجلًا قتل امرأته، استعدى ثلاثة إخوة لها عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعفا أحدهم، فقال عمر للباقين:«خُذا ثلثي الدية، فإنه لا سبيل إلى قتله» (6).
3 -
الصلح على القصاص (7):
اتفق الفقهاء على جواز الصلح بين القاتل وولي القصاص على إسقاط
القصاص بمقابل بدل يدفعه القاتل للولي من ماله، ولا يجب على العاقلة؛ لأن العاقلة لا تعقل العمد، ويسمى هذا البدل: بدل الصلح عن دم العمد.
ويجوز أن يكون بدل الصلح هو الدية أو أقل منها أو أكثر منها من جنسها أو غير جنسها، حالًا أو مؤجلًا؛ لأن الصلح معاوضة، فيكون على بدل يتفق عليه الطرفان بالغًا ما بلغ.
(1) سورة البقرة: 237.
(2)
سورة البقرة: 178.
(3)
سورة المائدة: 45.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (2588) وغيره.
(5)
حسن: أخرجه أبو داود (4497)، والنسائي (4788)، وابن ماجة (2692)، والمقدسي في «المختارة» (2337)، والبيهقي (8/ 54).
(6)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة البيهقي (8/ 59).
(7)
«الموسوعة الفقهية» (33/ 275 - 276) بتصرف واختصار.