الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - حَدُّ الردَّة
تعريف الردة (1):
الردَّة لغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه.
وفي الاصطلاح: إتيان المسلم بما يقتضي كفره من قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو شك، إذا توفرت شرائطه.
قال الله تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (2).
شروط المرتد:
لا تقع الردَّةُ من المسلم - الذي أتى أحد أسباب الردَّة - إلا إذا توفر فيه خمسة شروط: شرطا التكليف، وشرط الاختيار، وإرادة الكفر، والعلم بالحال والحكم:
1 -
البلوغ: فلا تعتبر ردَّة الصبي لأنه غير مكلف، لقوله صلى الله عليه وسلم:«رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (3).
وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة على مقتضى القياس، وقول لأحمد. وقال أبو حنيفة في الرواية الأخرى: يحكم بردَّة الصبي
استحسانًا (!!) وهو مذهب المالكية والمشهور عن أحمد، وهؤلاء قالوا: لا يقتل قبل بلوغه.
وقال الشافعي: لا يقتل حتى بعد بلوغه، قال:«لأن إيمانه لم يكن وهو بالغ، ويؤمر بالإيمان، ويجهد عليه بلا قتل» اهـ (4).
2 -
العقل: فلا تقع الرِّدة من مجنون، للحديث المتقدم، ولذا اتفق الفقهاء على أنه لا صحة لإسلام المجنون ولا لردَّته، بل أحكام الإسلام تبقى سائرة عليه
(1)«لسان العرب» ، و «الخرشي» (8/ 62)، و «المغني» (8/ 540)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 434).
(2)
سورة البقرة: 217.
(3)
صحيح: تقدم تخريجه كثيرًا.
(4)
«المبسوط» (10/ 122)، و «ابن عابدين» (4/ 257)، و «جواهر الإكليل» (1/ 21، 116)، و «الأم» (6/ 149)، و «الإنصاف» (10/ 320)، و «المغني» (8/ 551).
لكن إذا كان يجن ساعة ويفيق أخرى، فإن كانت ردته في إفاقته وقعت، وأن كانت في جنونه لا تقع (1).
ردَّة السكران (2):
تقدم أنه يشترط لوقوع الرِّدة من المسلم أن يكون عاقلًا، فلو فقد عقله بشرب مسكر، فاختلف أهل العلم في وقوع ردَّته حال سكره على قولين:
الأول: تقع ردته، وهو مذهب الشافعية وأظهر الروايتين عن أحمد، واحتجوا بأن الصحابة أقاموا حد القذف على السكران، وبأنه يقع طلاقه، قالوا: فتقع ردَّته، وبأنه مكلف وأن عقله لا يزول كليًّا، فهو أشبه بالناعس منه بالنائم أو المجنون.
الثاني: لا تقع ردة السكران: وهو مذهب الحنفية وقول عند الشافعية ورواية عن أحمد وهو قياس اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وشيخنا ابن عثيمين رحمهم الله.
وحجتهم أن الردَّة تبنى على الاعتقاد، والسكران غير معتقد لما يقول، ولأنه زائل العقل فلا تكليف عليه؛ لأن العقل شرط في التكليف وهو معدوم في حقه.
قلت: وهذا هو الأظهر، والله أعلم.
3 -
الاختيار (3):
يشترط لوقوع الردَّة أن يكون المرتد مختارًا، وهو ضد الإكراه، وهو اسم لما يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به أهليته أو يسقط عنه الخطاب.
والإكراه نوعان: نوع يوجب الإلجاء والاضطرار طبعًا، كالإكراه بالقتل أو القطع أو الضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو، قلَّ الضرب أو كثر، وهذا النوع يسمى إكراهًا تامًّا.
(1)«البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 648)، و «الإقناع» (4/ 301).
(2)
«المبسوط» (10/ 123)، و «البدائع» (7/ 134)، و «الأم» (6/ 148)، و «الإنصاف» (10/ 331)، و «المغني» (8/ 563)، و «كشاف القناع» (6/ 177)، و «الشرح الممتع» (11/ 285).
(3)
«المبسوط» (24/ 38)، و «البدائع» (7/ 170 - 175)، و «الأم» (6/ 652)، و «فتح الجليل» (4/ 407).
ونوع لا يوجب الإلجاء والاضطرار، وهو الحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه التلف، وهذا النوع من الإكراه يسمى إكراهًا ناقصًا.
وقد اتفق أهل العلم على أن من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر، لم يصر كافرًا، لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله} (1).
ولما نقل عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما من أنه حمله المشركون على ما يكره، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:«إن عادوا فَعُدْ» (2) وهذا في الإكراه التام.
وهل يشترط أن يفعله دفعًا للإكراه؟ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «الصحيح أنه لا يكفر ولو كان لم يطرأ على باله أنه يريد دفع الإكراه، لعموم قوله تعالى:{إلا من أكره} ولأن العامة خصوصًا لا يشعرون بهذا المعنى. اهـ.
4 -
إرادة الكفر (3):
ولابد لوقوع الرِّدة أن يكون المرتد مريدًا للكفر، فلو جرى على لسانه من غير قصد، فإنه لا يكفر لأنه لم يُرده، لقوله تعالى:{ولكن كم شرح بالكفر صدرًا} (4) فغير المريد لم يشرح بالكفر صدرًا، كمن ينطق بالكفر لشدة فرح أو هرم أو ما أشبه ذلك، وهو لا يكفر.
ودليله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي «انفلتت منه راحلته بأرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة
فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال - من شدة الفرح -:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك» أخطأ من شدة الفرح» (5).
5 -
العلم بالحال والحكم (6):
لابد لوقوع الردة أن يعلم المرتد أن هذا القول أو الفعل مكفِّر، فلو تكلم
(1) سورة النحل: 106.
(2)
مرسل: أخرجه الحاكم (2/ 389)، والبيهقي (8/ 208)، وأبو نعيم في «الحلية» طرق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه مرسلًا، ولذا قال ابن حجر في «البداية» (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. اهـ.
(3)
، (2)«الشرح الممتع» (11/ 286 - 289) بتصرف يسير.
(4)
سورة النحل: 106.
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (2747) وغيره.
(6)
سورة النساء: 115.
عربي بكلمة كفر أعجمية، لقوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (1).
فعلم أن من لم يتبين له الهدى شاق الرسول لا يستحق هذا الجزاء، فإذا ارتفع هذا الجزاء ارتفع سببه وهو الكفر.
وقال سبحانه: {وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} (2) وقال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (3) فالجهل مسقط للحكم، وموجب لانتفاء الردَّة، وهذا لا ينفي أن يكون القول أو الفعل كفرًا لكن القائل أو الفاعل لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
ردَّة الهازل (4):
الهازل: هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب. ومن أتى هازلًا بما يوجب ردَّته، فهو مرتد وعقوبته القتل كما قرره غير واحد من أهل العلم.
1 -
والأصل في هذا قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (5).
قال ابن العربي: «لا يخلو ما قالوه من ذلك جدَّا أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل» اهـ.
2 -
ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (6).
فالهازل بما يوجب ردَّته مبدل لدينه، والهازل في حقوق الله غير معذور، فيكون بهزله بذلك مبدلًا لدينه، فيكون مرتدًا يجب قتله، والحديث بعمومه يتناول المبدل جادًّا والمبدل هازلًا، والله أعلم.
(1) سورة التوبة: 115.
(2)
سورة الإسراء: 15.
(3)
«تفسير القرطبي» (8/ 107)، و «نهاية المحتاج» (7/ 394)، و «كشاف القناع» (6/ 168)، و «الحدود والتعزيرات» (ص: 439 - 442).
(4)
(5)
سورة التوبة: 65، 66.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة.
ما تقع به الرِّدة:
تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام: ردة في الاعتقاد، ردة في الأقوال، ردة في الأفعال، ردة في الترك.
إلا أن هذه الأقسام تتداخل، فمن اعتقد شيئًا عبَّر عنه بقول أو فعل أو ترك.
(أ) مما يوجب الردة من الاعتقاد:
1 -
اتفق العلماء على أن من أشرك بالله تعالى، أو جحده، أو نفى صفة ثابتة من صفاته، أو أثبت لله الولد فهو مرتد كافر (1).
2 -
وكذلك من قال بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك، ودليلهم قوله تعالى:{كل شيء هالك إلا وجهه} (2).
قال ابن دقيق العيد: «
…
لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفر بسبب مخالفته النقل المتواتر
…
» اهـ (3).
3 -
ويكفر من جحد القرآن كله أو بعضه ولو كلمة، وقال بعضهم: بل يحصل الكفر بجحد حرف واحد، كما يحصل الكفر باعتقاد تناقضه واختلافه، أو الشك بإعجازه، والقدرة على مثله، أو إسقاط حرمته أو الزيادة فيه (4).
فائدة: أما تفسير القرآن وتأويله، فلا يكفر جاحده ولا رادُّه، لأنه أمر اجتهادي من فعل البشر (5):
4 -
ويعتبر مرتدًّا كذلك من اعتقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما جاء به، ومن اعتقد حِلَّ شيء مجمع على تحريمه، كالزنا وشرب الخمر، أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة (6).
(1)«الموسوعة الفقهية» (22/ 183) وما بعدها.
(2)
سورة القصص: 88.
(3)
«ابن عابدين» (4/ 223)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «الإنصاف» (10/ 326)، و «المغني» (8/ 565).
(4)
«العدة» (4/ 300).
(5)
«ابن عابدين» (4/ 222 - 230)، و «الإقناع» (4/ 297)، و «المغني» (8/ 548).
(6)
المراجع السابقة.
(ب) مما يوجب الردَّة من الأقوال:
1 -
سبَّ الله تعالى:
اتفق الفقهاء على أن من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًا، أو مستهزئًا (1).
وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (2).
2 -
سب الرسول صلى الله عليه وسلم:
من سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مرتد بلا خلاف، ويعتبر سابًّا له صلى الله عليه وسلم كل من ألحق به عيبًا أو نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو ازدراه، أو عرَّض به، أو لعنه، أو شتمه، أو عابه، أو قذفه، أو استخف به، ونحو ذلك (3).
فعن عليٍّ رضي الله عنه: «أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه
وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها» (4).
وعن علي بن المديني، قال: دخلت على أمير المؤمنين فقال: أتعرف حديثًا مسندًا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل؟ قلت: نعم، فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر بن سماك بن الفضل بن عروة بن محمد عن رجل من بلقين، قال:«كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يكفيني عدوًّا لي؟» فقال خالد بن الوليد: أنا، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقتله».
فقال له أمير المؤمنين: ليس هذا مسندًا، هو عن رجل (!!) فقلت يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، وهو مشهور معروف، قال: فأمر لي بألف دينار (5).
(1)«المغني» (8/ 565)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «نيل الأوطار» (8/ 194).
(2)
سورة التوبة: 65، 66.
(3)
«ابن عابدين» (4/ 232 - 237)، و «الصارم المسلول» (ص 550)، و «زاد المعاد» (3/ 214).
(4)
حسن: أخرجه أبو داود (4362) وغيره.
(5)
أخرجه عبد الرزاق (9705)، وابن حزم في «المحلي» (11/ 413) من طريق علي بن المديني عن عبد الرزاق به، ثم قال: هذا حديث مسند صحيح وقد رواه علي بن المديني عن عبد الرزاق كما ذكره، وهذا رجل من الصحابة معروف اسمه الذي سماه به أهله: رجل من بلقين
…
اهـ.
3 -
سب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام:
من سبَّ نبيًّا ممن اتفق على نبوتهم، فكأنما سبَّ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وسابُّه كافر، فكذا كل نبي مقطوع بنبوته، وعلى هذا اتفق الفقهاء.
وإن كان نبيَّا غير مقطوع بنبوته، فمن سبَّه زجر، وأُدِّب ونُكِّل به، لكن لا
يقتل، وبهذا صرَّح الحنفية (1).
4 -
قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
من قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر مرتدٌّ، حكي الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، والحجة في هذا أن براءتها قد نزلت في كتاب الله تعالى، فيكون قاذفها مكذبًا لصريح القرآن الذي نزل بحقها في قصة الإفك إذ قال تعالى:{يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين} (2).
فمن عاد لذلك فليس بمؤمن (3).
وهل سائر الزوجات مثلها؟ (4)
ذهب الحنفية والحنابلة - في الصحيح - واختاره شيخ الإسلام، إلى أنهن مثلها في ذلك لقوله تعالى:{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} (5) ولأن الطعن بهن يلزم منه الطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم والعار عليه، وذلك ممنوع.
وذهب الشافعية - وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة - إلى أنهن - سوى
عائشة - كسائر الصحابة، وسابهن يجلد؛ لأنه قاذف.
قلت: لعل هذا الأخير أظهر، والعلم عند الله.
(1) المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 175).
(2)
سورة النور: 17.
(3)
«المحلي» (11/ 506)، و «ابن عابدين» (4/ 237)، و «الإقناع» (4/ 299)، و «الخرشي» (8/ 74)، و «الصارم المسلول» (ص 571)، و «زاد المعاد» (1/ 26)، و «كشاف القناع» (6/ 172).
(4)
المراجع السابقة و «أسنى المطالب» (4/ 117).
(5)
سورة النور: 26.
حكم من قال لمسلم: «يا كافر» :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» (1).
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه» (2).
قيل: معناه: فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفَّر نفسه، إما لأنه كفَّر من هو مثله، أو لأنه كفَّر من لا يكفِّره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام، قاله النووي.
وقال المازري: قوله (وإلا رجعت عليه) يحتمل أن يكون إذا قالها مستحلًّا فيكفر باستحلاله.
قال النووي: وقيل معناه أن ذلك يأول به إلى الكفر، يعنى أنه يُخاف على المكثر من ذلك أن يكون عاقبة شؤمها الكفر والمصير إليه.
قال ابن عبد البر: والمعنى فيه عند أهل الفقه والأثر والجماعة: النهي عن تكفير المسلم. اهـ.
(جـ) مما يوجب الردَّة من الأفعال:
1 -
إلقاء المصحف في محل قذر (3): فهذا يوجب الرِّدة باتفاق الفقهاء؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى، فهو أمارة عدم التصديق.
وقال الشافعية والمالكية: وكذا إلقاء بعضه، وكذا كل فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن الكريم.
2 -
السجود لصنم ونحوه، أو السجود للشمس والقمر، فهو كفر بالاتفاق (4).
3 -
السحر (5):
قال الله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل
(1) صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم.
(3)
«ابن عابدين» (4/ 222)، و «الخرشي» (8/ 62)، و «كفاية الأخيار» (2/ 201)، و «منار السبيل» (2/ 404).
(4)
المراجع السابقة، و «القليوبي» (4/ 1674)، و «الإنصاف» (10/ 326).
(5)
«فتح الباري» (10/ 235)، و «تفسير القرطبي» ، و «نيل الأوطار» (7/ 209)، وانظر «ابن عابدين» (3/ 295)، و «الدسوقي» (4/ 302)، و «روض المطالب» (4/ 117)، و «الإنصاف» (10/ 349).
على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} (1).
وقد ثنَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر الشركَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر، وقتل النفس
التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (2).
وقد استُدل بهذه الآية على أن السحر كفر مطلقًا، ومتعلمه كافر يُقتل ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق، وبهذا قال مالك وأحمد وجماعة من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبو موسى وقيس بن سعد.
وقد روُي من حديث جندب مرفوعًا: «حدُّ الساحر ضربة بالسيف» (3) ولا يصح مرفوعًا.
ومما ثبت في قتل الساحر:
1 -
أثر عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة يحدث أبا الشعثاء وعمرو بن أوس عند صفة زمزم في إمارة مصعب بن الزبير قال: كنت كاتبًا لجزء عم الأحنف بن قيس، فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة:«اقتلوا كل ساحر، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة» فقتلنا ثلاث سواحر (4).
2 -
وعن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها، واعترفت بذلك، فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان، فقال ابن عمر:«وما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرت واعترفت؟» فسكت عثمان (5).
3 -
وعن أبي عثمان النهدي عن جندب أنه قتل ساحرًا كان عند الوليد بن
عقبة، ثم قال:«أتأتون السحر وأنتم تبصرون» (6).
وأما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، والحنابلة فذهبوا إلى أن السحر
(1) سورة البقرة: 102.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
(3)
ضعيف: أخرجه الترمذي (1460)، والدارقطني (3/ 114).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/ 180).
(5)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10/ 180)، والبيهقي (8/ 136).
(6)
إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (8/ 136) في «السنن الكبرى» .
من كبائر الذنوب وهو من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا ومنه ما لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو نص يقتضي الكفر فهر كفر وإلا فلا، وأما تعلمه أو تعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.
وقال القرطبي رحمه الله: وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار أو تعظيم الشيطان، فالسحر إذًا دالٌّ على الكفر على هذا التقدير، والله أعلم. اهـ.
4 -
كل فعل صريح في الاستهزاء بالإسلام، فهو كفر كذلك. بهذا قال الحنفية لقوله تعالى:{قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (1)(2).
(د) مما يوجب الردة من الترك:
1 -
ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج جحودًا لها: لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة فمن ترك شيئًا من ذلك جاحدًا له فإنه يكون مرتدًّا بلا خلاف (3).
2 -
ترك الصلاة ولو من غير جحود: ردَّة كذلك في أصح قولي العلماء، وقد تقدم تحرير هذا في أوائل «كتاب الصلاة» وهذا مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وأحد الوجهين من مذهب الشافعية، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة (4).
ثبوت الرِّدة:
تثبت الردة بأحد أمرين:
1 -
الإقرار.
2 -
الشهادة.
(1) سورة التوبة: 65، 66.
(2)
«حاشية ابن عابدين» (4/ 222).
(3)
«ابن عابدين» (1/ 352)، و «المغني» (8/ 547)، و «الإنصاف» (1/ 401).
(4)
«كتاب الصلاة» لابن القيم (ص 42)، و «القليوبي» (1/ 319)، و «المغني» (8/ 444).
ويشترط في الشهادة على الردة أن تكون من شاهدين عدلين في قول أكثر أهل العلم، وخالف الحسن فاشترط شهادة أربعة، قال: لأنها شهادة بما يوجب القتل، فلم يُقبل فيها إلا أربعة قياسًا على الزنا (!!).
وفيه نظر، لأنه قياس لا يصح، إذ ليست العلة في اشتراط الأربعة في الزنا هي القتل، بدليل أنه يعتبر في زنا البكر كذلك الأربعة في الشهادة، ولا قتل فيه.
ويجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباته، وحفاظًا على الأرواح (1).
وإذا أنكر المرتد؟
إذا أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية، فيمتنع القتل في حقه.
وأما الجمهور فقالوا: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا (2).
استتابة المرتد:
اختلف أهل العلم في حكم استتابة المرتد بعد ثبوت الردة عليه، على خمسة أقوال:
الأول: يجب استتابته مطلقًا، سواء كان مسلمًا أصليًّا ثم ارتد، أو كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد، وهذا مذهب مالك والرواية المشهورة في مذهب أحمد، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول للشافعي، وبه قال عطاء والنخعي والثوري والأوزاعي وإسحاق (3) واحتجوا بما يلي:
1 -
حديث جابر «أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» (4) وهو حديث ضعيف.
2 -
أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: قدم عليه رجل من قبل أبي موسى، فسأله
(1)«المغني» (8/ 557)، و «الخرشي» (8/ 64).
(2)
«ابن عابدين» (4/ 216)، و «مغني المحتاج» (4/ 138)، و «المغني» (8/ 140).
(3)
«البدائع» (7/ 134)، و «جواهر الإكليل» (2/ 272)، و «الأم» (6/ 148)، و «المغني» (9/ 4).
(4)
ضعيف: أخرجه الدارقطني (238)، وعنه البيهقي (8/ 203)، وانظر «الإرواء» (2472).
عن الناس فأخبره، ثم قال:«هل من مُغربة خَبر؟» قال: نعم، كفر
رجل بعد إسلامه، قال:«فما فعلتم به؟» قال: قرَّبناه فضربنا عنقه، فقال عمر:«هلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني» (1).
قالوا: فلو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم.
3 -
واستدلوا بفعل بعض الصحابة في استتابتهم للمرتدين كما سيأتي في أدلة الأقوال الأخرى.
4 -
وأولوا الأمر بقتل المرتد بأن المراد: بعد أن يستتاب.
الثاني: لا تجب استتابة المرتد، وإنما تستحب (2)، وهو قول ثانٍ للشافعي ورواية عن أحمد وأبي حنيفة، وبه قال الحسن وطاووس، واحتجوا بما يلي:
1 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (3) ولم يذكر استتابة.
2 -
قصة تولية أبي موسى الأشعري وفيها: «ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًّا فأسلم ثم تهوَّد، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله
ورسوله (ثلاث مرات) فأمر به فقُتل» (4).
ولم يذكر استتابته.
3 -
عمل الصحابة رضي الله عنهم على استتابة المرتد، ومما ثبت عنهم:
(أ) أثر أنس قال: لما افتتحنا تستر، بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال:«ما فعل البكريون؟ جهيمة وأصحابه» ، قلت: يا أمير المؤمنين ما فعلوا: أنهم فتلوا ولحقوا بالمشركين وارتدوا عن الإسلام، وقاتلوا مع المشركين حتى قتلوا.
قال: فقال: «لأن أكون أخذتهم سلمًا كان أحب إليَّ مما على وجه الأرض من
(1) إسناده لين: أخرجه مالك في الموطأ (1412 - رواية يحيى)، وعنه الشافعي كما في مسنده (286)، والطحاوي (2/ 120)، والبيهقي (8/ 206)، وفي سنده لين، وقد صح نحوه كما سيأتي لكن ليس فيه تبري عمر من فعلهم!!
(2)
انظر المراجع السابقة.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6922) وغيره، وقد تقدم.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم (2230) وغيرهما.
صفراء أو بيضاء»، فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم؟ قال: «كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه، فإن أبوا استودعتهم السجن» (1).
(ب) أثر ابن مسعود أنه: أخذ قومًا ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكتب إليه أن:«اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوا فخلِّ عنهم، وإن لم يقبلوا فاقتلهم» فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله» (2).
(جـ) وعن أبي بردة في قصة رجل ارتد عن الإسلام قال: «فأُتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها، فجاء معاذ فدعاه
فأبى فضرب عنقه» (3).
(د) وعن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى عليٍّ يسأله عن مسلمين تزندقا
…
؟ فكتب إليه عليٌّ: «أما الذين تزندقا، فإن تابا، وإلا فاضرب عنقهما
…
» (4).
4 -
قالوا: ولأنه يقتل لكفره، فلم تجب استتابته كالأصلي.
5 -
قالوا: ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن، ولو حرم قتله قبلها لضمن.
الثالث: لا تجب الاستتابة ولا تمنع، وهو مذهب أبي محمد بن حزم وأصحابه (5)، وحجتهم عدم الدليل على وجوب الاستتابة، مع كونها من فعل الخير والدعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد قال سبحانه:{وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} (6)، وقال:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (7).
هذا مع فعل الصحابة الذي تقدم ذكره.
(1) إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1212).
(2)
إسناده صحيح: أخرجه الخلال في «أحكام أهل الملل» (1213).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود، ومن طريقه البيهقي (8/ 206).
(4)
إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (7/ 342).
(5)
«المحلي» لابن حزم (11/ 190 - 193).
(6)
سورة الحج: 77.
(7)
سورة النحل: 125.
الرابع: تجب الاستتابة لمن كان كافرًا فأسلم ثم ارتد، دون من كان مسلمًا أصليًّا، وهذا قول عطاء، وهو مروي عن ابن عباس، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة
لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا.
الخامس: لا يستتاب، بل يؤمر بالرجوع إلى الإسلام والسيف على عنقه، فإن أبى ضرب عنقه، وبه قال طائفة من العلماء منهم الإمام الشوكاني رحمه الله (1) وعزا الشوكاني القول بوجوب قتله في الحال إلى الحسن (!!) وطاووس وأهل الظاهر (!!!) ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير، وعليه يدل تصرف البخاري في «الصحيح» وذكر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله أنه رواية عن أحمد.
الراجح:
الذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن النص المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدل على وجوب قتل المرتد، فهذا هو الأصل، لكن إن رأى الإمام في إمهاله واستتابته مصلحة فله ذلك، لفعل الصحابة الأخيار رضي الله عنهم، ولعموم قوله تعالى:{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (2).
فائدة: اختلف القائلون بالاستتابة: هل يكتفي بالمرة أم لابد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ ونقل عن عليٍّ رضي الله عنه أنه يستتاب شهرًا، واستتاب أبو موسى عشرين يومًا كما تقدم، وعن النخعي: يستتاب أبدًا (!!).
قلت: المردُّ للمصلحة التي يراها الإمام، والله أعلم.
كيفية توبة المرتد (3):
إذا نطق المرتد الشهادتين صحت توبته عند الحنفية والشافعية والحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله» (4).
وحيث إن الشهادة يثبت بها إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد، فإذا ادعى المرتد الإسلام ورفض النطق بالشهادتين، لا تصح توبته.
(1)«السيل الجرار» (4/ 352)، و «نيل الأوطار» (7/ 230) ط. دار الحديث.
(2)
سورة التوبة: 5.
(3)
«ابن عابدين» (4/ 246)، و «أسنى المطالب» (4/ 124)، و «الإنصاف» (10/ 335 - 336).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
قلت: وينبغي أن يتنبه إلى أن المرتد إن كان كفره لإنكار شيء آخر، كمن خصص رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالعرب، أو جحد فرضًا أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة ونحو ذلك من البدع المكفرة التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، فإنه لا يحكم بإسلامه بمجرد الشهادتين، بل يلزمه مع الشهادتين الإقرار بما أنكر ويتوب مما كان سببًا في الحكم عليه بالردة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة.
وأما قول الحنفية: إن توبة المرتد أن يتبرأ عن الأديان سوى الإسلام أو عما انتقل إليه بعد نطقه بالشهادتين (!!) فهذا كلام مجمل لا يكفي في حقيقة التوبة لأنه قد يعتقد أن ما هو عليه هو الإسلام، وما أكثر الذين يدَّعون أنهم مسلمون وهم متلبسون بالكفر، والله أعلم.
توبة الزنديق ومن تكررت ردته:
اختلف الفقهاء في قبول توبة المرتد وعدم قبولها (1) إذا كان زنديقًا، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وتوبة من تكررت ردَّته، على قولين (2):
الأول: تقبل توبته كأي مرتد، وهو مذهب الحنفية والشافعية وإحدى الروايتين في مذهب أحمد واختارها ابن قدامة، وهو مروي عن عليٍّ وابن مسعود رضي الله عنهما، واحتجوا بما يلي:
1 -
قول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (3).
2 -
وقوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} (4).
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (5).
(1) المراد بعدم قبول التوبة هنا: عدم قبولها في الظاهر بمعنى أنه لا يدرأ عنه القتل، وأما الباطن فباب التوبة مفتوح لكل من أراد كما تضافرت بذاك الأدلة.
(2)
«ابن عابدين» (4/ 225)، و «فتح القدير» (5/ 309)، و «جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «المجموع» (19/ 232)، و «أسنى المطالب» (4/ 122)، و «الأم» (6/ 147)، و «المغني» (8/ 543)، و «الإنصاف» (10/ 332).
(3)
سورة الأنفال: 38.
(4)
سورة النساء: 145، 146.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري.
4 -
ما رُوي أن رجلًا سارًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل رجل
من المسلمين - وفي رواية: من المنافقين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى، ولا شهادة له، قال:«أليس يصلي؟» قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» .
5 -
قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كفَّ عن النافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهم، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بجماعة منهم، وكانت لهم بالمدينة قوة وشوكة.
فائدة: صرَّح الحنفية بأن توبته تقبل، لكنه يُعذب في كل مرة ويحبس.
القول الثاني: لا تقبل توبته، وهذا مذهب مالك والرواية الثانية عن أبي حنيفة وأحمد، وبه قال الليث وإسحاق، وحجتهم:
1 -
قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (1).
فانتفت عنهم المغفرة والهداية لانتفاء توبتهم، ولو قبل توبتهم لغفر لهم.
وأجيب
…
بأن الآية الكريمة ليس في آخرها أنهم تابوا، بل هم قد ازدادوا كفرًا فلم يوفقهم الله تعالى للتوبة، وليس المعنى: إذا تابوا لم يتب عليهم.
2 -
ما روي عن ظبيان بن عمارة: أن رجلًا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر ذلك له، فبعث
إليهم؛ فأتى بهم، فاستتابهم، فتابوا، فخلَّى سبيلهم إلا رجلًا منهم يقال له «ابن النوَّاحة» قال:«قد أوتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك عدت» فقتله (2).
3 -
قالوا: ولأن تكرار الردَّة دليل على فساد العقيدة، وقلة المبالاة، والتلاعب بالدين (3).
وأجاب ابن قدامة بأن الأثر حجة في قبول توبتهم مع استمرارهم بالكفر، وأما قتله لابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته، أو لقوله صلى الله عليه وسلم فيها لما جاء رسولًا لمسيلمة:«لولا أنك رسول لضربت عنقك» (4).
(1) سورة النساء: 137.
(2)
أخرجه البيهقي (8/ 206).
(3)
«منار السبيل» (2/ 409).
(4)
أخرجه أبو داود (2762)، والبيهقي (8/ 26).
فقال ابن مسعود: «فأنت اليوم لست برسول» فأمر قرطة بن كعب فضرب عنقه في السوق. اهـ.
الترجيح: أقول: هاهنا أمران أحب التنبيه عليهما:
1 -
تكرار الذنب لا يستلزم عدم صدق التوبة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت ذنبًا، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبًا
…
[الحديث وفي آخره:] فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي [ثلاثًا] فليعمل ما شاء» (1).
2 -
والأمر الآخر أنه ينبغي، التنبُّه والتحرِّي قبل قبول توبة الزنديق ومن
تكررت ردَّته، ولذلك فالذي يظهر لي أن أمر قبولها وعدمه راجع إلى الحاكم، وقد جعل الله تعالى للمؤمنين على المنافقين سبيلًا بمعرفتهم في لحن القول، كما قال سبحانه:{ولتعرفنهم في لحن القول} (2).
وأما إطلاق القول بقبول توبتهما أو عدمه فلا أرى في أدلة الفريقين ما يقويه، إذ غالبها يتعلق بالتوبة في الباطن - فيما بينه وبين الله - وهذا ليس موضع النزاع كما رأيت.
وأما أثر ابن مسعود فهو مع كونه محتملًا - كما رأيت - فهو موافق لما رجَّحته، والله المستعان.
قتل المرتد:
إذا ارتد المسلم، وكان مستوفيًا شرائط الردَّة، أهدر دمه، وقتله الإمام أو نائبه بعد الاستتابة.
ودليل قتله كما تقدم حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (3).
وحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).
(2)
سورة محمد: 30.
(3)
صحيح: تقدم كثيرًا.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري.
فإذا قتل المرتد على ردَّته، فلا يُغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن مع المسلمين.
وقتل المرتد إنما هو إلى الإمام حرًّا كان أو عبدًا، وعلى هذا عامة أهل العلم إلا الشافعي رحمه الله في أحد الوجهين في العبد، فإن لسيده قتله، وحجته حديث:«أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (1).
وقتل حفصة رضي الله عنها لجارية سحرتها، ولأنه حق الله تعالى، فملك سيده إقامته على عبده كجلد الزاني.
وأجاب الجمهور بأن حديث: «أقيموا الحدود
…
» لا يتناول القتل للردة، فإنه قتل لأجل الكفر وليس حدًّا.
قالوا: وأما خبر حفصة فإن عثمان تغيَّظ عليها وشق ذلك عليه!! [قلت: لكن راجعه ابن عمر فسكت كما تقدم].
قالوا: والجلد للزاني تأديب، وللسيد تأديب عبده، بخلاف القتل فإن قتله غير الإمام أساء ولا ضمان عليه.
قلت: قول الجمهور أحوط لما فيه من سدِّ ذريعة قتل السيد لعبده مع عدم استحقاقه، على أن المرتد لو قتله غير الإمام فهو مسيء يُعزَّر لإساءته وافتياته، لكن لا ضمان عليه، والله أعلم.
وهل تُقْتَلُ المرتدة كالرجل؟
إذا ارتدت المرأة المسلمة وكانت مستوفية لشرائط الردّة، فقد تنازع أهل
العلم في قتلها، على ثلاثة أقوال (2):
الأول: تقتل، لا فرق بينها وبين المرتد: وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ رضي الله عنهما، وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد والليث والأوزاعي وإسحاق:
1 -
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه» .
(1) تقدم في أول «الحدود» .
(2)
«البدائع» (7/ 135)، و «جواهر الإكليل» (2/ 278)، و «الأم» (6/ 148)، و «المجموع» (19/ 225)، و «مغني المحتاج» (4/ 139)، و «المغني» (8/ 123 - ط الرياض)، و «الإنصاف» (10/ 328).
2 -
وعموم قوله فيمن يحل دمه: «
…
والتارك لدينه المفارق للجماعة».
3 -
ولما روي أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت» (1).
4 -
ولأنها شخص مكلف بدَّل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل.
الثاني: لا تقتل، بل تحبس وتضرب حتى تتوب أو تموت: وهذا مذهب أبي حنيفة، واحتج له:
1 -
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة» (2).
وأجيب: بأن هذا النهي إنما هو عن قتل المرأة الكافرة الأصلية التي لا تقاتل ولا تحرض على القتال، وقد نهى عنه عندما رأى امرأة مقتولة.
ثم إن المرأة لو شاركت في القتال فإنها تقتل، فعن رباح بن ربيع قال: كنت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: على امرأة قتيل، فقال:«ما كانت هذه لتقاتل» قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال:«قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفًا» (3).
2 -
قالوا: ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي (!!).
وأجيب
…
بأن قياس المرأة على الصبي، قياس مع الفارق، فإن الصبي غير مكلف، وهي مكلفة.
القول الثالث: لا تقتل، وإنما تُسترق، وهو منسوب لعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه (!!) والحسن وقتادة، وحجتهم:
قالوا: وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعًا (!!).
وأجيب .. بأنه لم يثبت أن من استُرق من بني حنيفة تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم، وإنما أسلم بعضهم، وعلى كل حالٍ فقد اجتمعوا
(1) ضعيف: تقدم قريبًا.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(3)
أخرجه أبو داود، والحاكم (2/ 122).
على الردة وحرب المسلمين، ولهذا قوتلوا وعوملوا معاملة كفار محاربين، فمن وقع منهم في الأسر ورأى الإمام استرقاقه فله ذلك.
الراجح: لا شك أن مذهب الجمهور هنا هو الصواب وذلك لقول النبي -
صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال» (1) وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بنص، ولا نص هنا والله أعلم.
جنايات المرتد:
الردة لترك الصلاة:
لا خلاف في أن من ترك الصلاة جاحدًا لها يكون مرتدًّا، وكذا الزكاة والصوم والحج، لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة.
وأما تارك الصلاة كسلًا ففي حكمه ثلاثة أقوال:
أحدها: يقتل ردة، وهي رواية عن أحمد وقول سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي عمرو، والأوزاعي، وأيوب السختياني، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو أحد الوجهين من مذهب الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة.
والقول الثاني: يقتل حدًّا لا كفرًا، وهو قول مالك والشافعي، وهي رواية عن أحمد.
والقول الثالث: أن من ترك الصلاة كسلًا يكون فاسقًا ويحبس حتى يصلي، وهو المذهب عند الحنفية.
جنايات المرتد والجناية عليه:
جنايات المرتد على غيره لا تخلو: إما أن تكون عمدًا أو خطأ، وكل منها، إما أن تقع على مسلم، أو ذمي، أو مستأمن، أو مرتد مثله.
وهذه الجنايات إما أن تكون على النفس بالقتل، أو على ما دونها، كالقطع والجرح، أو على العرض كالزنا والقذف، أو على المال كالسرقة وقطع الطريق، وهذه الجنايات قد تقع في بلاد الإسلام، ثم يهرب المرتد إلى بلاد الحرب، أو لا يهرب، أو تقع في بلاد الحرب، ثم يتنقل المرتد إلى بلاد الإسلام.
(1) حسن.
وقد تقع منه هذه كلها في إسلامه، أو ردته، وقد يستمر على ردته أو يعود مسلمًا، وقد تقع منه منفردًا، أو في جماعة، أو أهل بلد.
ومثل هذا يمكن أن يقال في الجناية على المرتد.
جناية المرتد على النفس:
إذا قتل مرتد مسلمًا عمدًا فعليه القصاص، اتفاقًا.
أما إذا قتل المرتد ذميًّا أو مستأمنًا عمدًا فيقتل به عند الحنفية والحنابلة وهو أظهر قولي الشافعي، لأنه أسوأ حالًا من الذمي، إذ المرتد مهدر الدم ولا تحل ذبيحته، ولا مناكحته، ولا يقر بالجزية.
ولا يقتل عند المالكية وهو القول الآخر للشافعي لبقاء علقة الإسلام، لأنه لا يقر على ردته.
وإذا قتل المرتد حرًّا مسلمًا أو ذميًّا خطأ وجبت الدية في ماله، ولا تكون على عاقلته عند الحنفية ولشافعية والحنابلة.
والدية يشترط لها عصمة الدم لا الإسلام عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛
لأنه قد حل دمه وصار بمنزلة أهل الحرب.
وقال المالكية بأن الضمان على بيت المال لأن بيت المال يأخذ أرش الجناية عليه ممن جني فكما يأخذ ماله يغرم عنه. وهذا إن لم يتب. فإن تاب فقيل: في ماله، وقيل: على عاقلته، وقيل: على المسلمين، وقيل: على من ارتد إليهم.
جناية المرتد على ما دون النفس:
قال المالكية: لا فرق في جناية المرتد بين ما إذا كانت على النفس أو على ما دونها، ولا يقتل المرتد بالذمي، وإنما عليه الدية في ماله لزيادته على الذمي بالإسلام الحكمي.
وقال ابن قدامة: يقتل المرتد بالمسلم والذمي، وإن قطع طرفًا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضًا.
وقال بعض أصحا ب الشافعي: لا يقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه، لأن أحكام الإسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالإسلام.
قال ابن قدامة: ولنا: أنه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي.
وفي مغني المحتاج: الأظهر قتل المرتد بالذمي لاستوائهما في الكفر. بل المرتد أسوأ حالًا من الذمي لأنه مهدر الدم فأولى أن يقتل بالذمي.
زنى المرتد:
إذا زنى مرتد أو مرتدة وجب عليه الحد، فإن لم يكن محصنًا جلد. وإن كان محصنًا ففي زوال الإحصان بردته خلاف. أساسه الخلاف في شروط الإحصان،
هل من بينها الإسلام أن لا؟
قال الحنفية والمالكية: من ارتد بطل إحصانه، إلا أن يتوب أو يتزوج ثانية.
وقال الشافعة والحنابلة وأبو يوسف: إن الردة لا تؤثر في الإحصان، لأن الإسلام ليس من شروط الإحصان.
قذف المرتد غيره:
إذا قذف المرتد غيره، وجب عليه الحد بشروطه، إلا أن يحصل منه ذلك في دار الحرب، حيث لا سلطة للمسلمين، والقضية مبنية على شرائط القذف، وليس من بينها إسلام القاذف.
إتلاف المرتد المال:
إذا اعتدى مرتد على مال غيره - في بلاد الإسلام - فهو ضامن بلا خلاف. لأن الردة جناية، وهي لا تمنح صاحبها حق الاعتداء.
السرقة وقطع الطريق:
إذا سرق المرتد مالًا، أو قطع الطريق، فهو كغيره مؤاخذ بذلك، لأنه ليس من شرائط السرقة أو قطع الطريق الإسلام. لذا فالمسلم والمرتد في ذلك سواء.
مسئولية المرتد عن جناياته قبل الردة:
إذا جنى مسلم على غيره، ثم ارتد الجاني يكون مؤاخذًا بكل ما فعل سواء استمر على ردته أو تاب عنها.
الارتداد الجماعي:
المقصود بالارتداد الجماعي: هو أن تفارق الإسلام جماعة من أهله، أو أهل بلد. كما حدث على عهد الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه.
فإن حصل ذلك، فقد اتفق الفقهاء على وجوب قتالهم مستدلين بما فعله أبو بكر رضي الله عنه بأهل الردة.
ثم اختلفوا بمصير دارهم على قولين:
الأول للجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد من الحنفية): إذا أظهروا أحكام الشرك فيها، فقد صارت دارهم دار حرب؛ لأن البقعة إنما تنسب إلينا، أو إليهم باعتبار القوة والغلبة. فكل موضع ظهر فيه أحكام الشرك فهو دار حرب، وكل موضع كان الظاهر فيه أحكام الإسلام، فهو دار إسلام.
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إنما تصير دار المرتدين دار حرب بثلاث شرائط:
أولًا: أن تكون متاخمة أرض الشرك، ليس بينها وبين أرض الحرب دار للمسلمين.
ثانيًا: أن لا يبقى فيها مسلم آمن بإيمانه، ولا ذمي آمن بأمانه.
ثالثًا: أن يظهروا أحكام الشرك فيها.
فأبو حنيفة يعتبر تمام القهر والقوة، لأن هذه البلدة كانت من دار الإسلام، محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الإحراز، إلا بتمام القهر من المشركين، وذلك باستجماع الشرائط الثلاث.
الجناية على المرتد:
اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد مسلم فقد أهدر دمه، لكن قتله للإمام أو نائبه، ومن قتله من المسلمين عزر فقط، لأنه افتات على حق الإمام؛ لأن إقامة الحد له.
وأما إذا قتله ذمي؛ فذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية في الأظهر) إلى أنه لا يقتص من الذمي.
وذهب الشافعية في القول الآخر إلى أنه يقتص من الذمي.
الجناية على المرتد فيما دون النفس:
اتفق الفقهاء على أن الجناية على المرتد هدر، لأنه لا عصمة له.
أما إذا وقعت الجناية على مسلم ثم ارتد فَسَرَتْ ومات منها، أو وقعت على مرتد ثم أسلم فَسَرَتْ ومات منها ففيها أقوال تنظر في باب «القصاص» من كتب الفقه.
قذف المرتد:
اتفق الفقهاء على عدم وجوب الحد على قاذف المرتد، لأن من شروط وجوب حد القذف: أن يكون المقذوف مسلمًا.
ثبوت الردة:
تثبت الردة بالإقرار أو بالشهادة.
وتثبت الردة عن طريق الشهادة، بشرطين:
(أ) شرط العدد:
اتفق الفقهاء على الاكتفاء بشاهدين في ثبوت الردة، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن، فإنه اشترط شهادة أربعة.
(ب) تفضيل الشهادة:
يجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين الشهود وجه كفره، نظرًا للخلاف في موجباتها، وحفاظًا على الأرواح.
وإذا ثبتت الردة بالإقرار وبالشهادة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وإن أنكر المرتد ما شهد به عليه اعتبر إنكاره توبة ورجوعًا عند الحنفية فيمتنع القتل في حقه، وعند الجمهور: يحكم عليه بالشهادة ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلمًا.
استتابة المرتد:
حكمها:
ذهب أبو حنيفة والشافعي - في قول - وأحمد في رواية والحسن البصري إلى أن استتابة المرتد غير واجبة. بل مستحبة كما يستحب الإمهال، إن طلب المرتد ذلك، فيمهل ثلاثة أيام.
أموال المرتد وتصرفاته:
ذهب المالكية والحنابلة - غير أبي بكر - والشافعية في الأظهر، وأبو حنيفة إلى أن ملك المرتد لا يزول عن ماله بمجرد ردته، وإنما هو موقوف على مآله فإن مات أو قتل على الردة زال ملكه وصار فيئًا، وإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله، لأن زوال العصمة لا يلزم عنه زوال الملك، ولاحتمال العود إلى الإسلام.
وبناء على ذلك يحجر عليه ويمنع من التصرف، ولو تصرف تكون تصرفاته موقوفة فإن أسلم جاز تصرفه، وإن قتل أو مات بطل تصرفه وهذا عند المالكية والحنابلة وأبي حنيفة.
وفصل الشافعية فقالوا: إن تصرف تصرفًا يقبل التعليق كالعتق والتدبير والوصية كان تصرفه موقوفًا إلى أن يتبين حاله، أما التصرفات التي تكون منجزة ولا تقبل التعليق كالبيع والهبة والرهن فهي باطلة بناء على بطلان وقف العقود، وهذا في الجديد، وفي القديم تكون موقوفة أيضًا كغيرها.
وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول عند الشافعية: لا يزول ملكه بردته، لأن الملك كان ثابتًا له حالة الإسلام لوجود سبب الملك وأهليته وهي الحرية، والكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي، وبناء على هذا تكون تصرفاته جائزة كما تجوز من المسلم حتى لو أعتق، أو دبر، أو كاتب، أو باع، أو اشترى، أو وهب نفذ ذلك كله، إلا أن أبا يوسف قال: يجوز تصرفه تصرف الصحيح، أما محمد فقال: يجوز تصرفه تصرف المريض مرض الموت، لأن المرتد مشرف على التلف؛ لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت.
وقد أجمع فقهاء الحنفية على أن استيلاء المرتد وطلاقه وتسليمه الشفعة صحح ونافذ، لأن الردة لا تؤثر في ذلك.
والقول الثالث: عند الشافعية - وصححه أبو إسحاق الشيرازي - وهو قول أبي يكر من الحنابلة أن ملكه يزول بردته لزوال العصمة بردته فماله أولى، ولما روي طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا. ولأن المسلمين ملكوا
دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله.
وعلى هذا فلا تصرف له أصلًا لأنه لا ملك له.
وما سبق إنما هو بالنسبة للمرتد الذكر باتفاق الفقهاء وهو كذلك بالنسبة للمرتدة الأنثى عند المالكية والشافعية والحنابلة.
وعند الحنفية لا يزول ملك المرتدة الأنثى عن أموالها بلا خلاف عندهم فتجور تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل فلم تكن ردتها سببًا لزوال ملكها عن أموالها.
أثر الردة على الزواج:
اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد أحد الزوجين حيل بينهما فلا يقربها بخلوة ولا جماع ولا نحوهما. ثم قال الحنفية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية، دخل بها أو لم يدخل، لأن الردة تنافي النكاح ويكون ذلك فسخًا عاجلًا لا طلاقًا ولا يتوقف على قضاء.
ثم إن كانت الردة قبل الدخول وكان المرتد هو الزوج فلها نصف المسمى أو المتعة، وإن كانت هي المرتدة فلا شيء لها.
وإن كان بعد الدخول فلها المهر كله سواء كان المرتد الزوج أو الزوجة.
وقال المالكية في المشهور: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين كان ذلك طلقة بائنة، فإن رجع إلى الإسلام لم ترجع له إلا بعقد جديد، ما لم تقصد المرأة بردتها فسخ النكاح، فلا يتفسخ، معاملة لها بنقيض قصدها.
وقيل: إن الردة فسخ بغير طلاق.
وقال الشافعية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين فلا تقع الفرقة بينهما حتى
تمضي عدة الزوجة قبل أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، فإذا انقضت بانت منه، وبينونتها منه فسخ لا طلاق، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضائها فهي امرأته.
وقال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح فورًا وتنصّف مهرها إن كان الزوج هو المرتد، وسقط مهرها إن كانت هي المرتدة.
ولو كانت الردة بعد الدخول ففي رواية تنجز الفرقة. وفي أخرى تتوقف الفرقة على انقضاء العدة.
حكم زواج المرتد بعد الردة:
اتفق الفقهاء على أن المسلم إذا ارتد ثم تزوج فلا يصح زواجه، لأنه لا ملة له، فليس له أن يتزوج مسلمة، ولا كافرة، ولا مرتدة.
مصير أولاد المرتد:
من حمل به في الإسلام فهو مسلم، وكذا من حمل به في حال ردة أحد أبويه والآخر مسلم، قال بذلك الحنفية والشافعية؛ لأن بداية الحمل كان لمسلمين في دار الإسلام، وإن ولد خلال الردة.
لكن من كان حمله خلال ردة أبويه كليهما، ففيه خالف، فذهب الحنفية والمالكية، وهو المذهب عند الحنابلة والأظهر عند الشافعية، إلى أنه يكون مرتدًّا تبعًا لأبويه فيستتاب إذا بلغ. وفي رواية للحنابلة وقول للشافعية أنه يقر على دينه بالجزية كالكافر الأصلي، واستثنى الشافعية ما لو كان في أصول أبويه مسلم فإنه يكون مسلمًا تبعًا له، واستثنى المالكية أيضًا ما لو أدرك ولد المرتد قبل البلوغ فإنه يجبر على الإسلام.
إرث المرتد:
اختلف الفقهاء في مال المرتد إذا قتل، أو مات على الردة على ثلاثة أقوال:
(أ) أن جميع ماله يكون فيئًا لبيت المال، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد.
(ب) أنه يكون ماله لوثته من المسلمين، سواء اكتسبه في إسلامه أو ردته، وهذا قول أبي يوسف ومحمد.
(جـ) أن ما اكتسبه في حال إسلامه لورثته من المسلمين، وما اكتسبه في حال ردته لبيت المال، وهذا قول أبي حنيفة.
ولا خلاف بينهم في أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة. كما لا يرث كافرًا لأنه لا يقر على الدين الذي صار إليه. ولا يرث مرتدًا مثله.
ووصية المرتد باطلة لأنها من القرب وهي تبطل بالردة.
إرث المرتد، لمن يكون؟
اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة.
ثم اختلفوا في مال المرتد إذا قُتل، أو مات على الردَّة، على أربعة أقوال:
القول الأول: ماله فيء لبيت مال المسلمين، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في الصحيح من مذهبه، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه
قال ربيعة وأبو ثور وابن المنذر (1)، وحجتهم:
1 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ» (2).
وهذا عموم منه صلى الله عليه وسلم لم يخص منه مرتدًّا من غيره، ولو أراد الله أن يخص المرتد من ذلك لما أغفله ولا أهمله {وما كان ربك نسيًّا} (3).
2 -
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملَّتين شتى» (4).
(1)«جواهر الإكليل» (2/ 279)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 1090)، و «الأم» (6/ 151)، و «المجموع» (19/ 234)، و «المغني» (6/ 346)، و «الإنصاف» (10/ 339).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري، ومسلم.
(3)
سورة مريم: 64.
(4)
أخرجه أبو داود (2911)، وابن ماجة (2731).
فإذا كان كذلك فيبقى هذا المال فيئًا لبيت مال المسلمين، كما يؤخذ مال الذمي إذا لم يخلف وارثًا، وكالعشور.
القول الثاني: جميع ماله لورثته من المسلمين، سواء ما اكتسبه قبل الردة أو بعدها، وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وهو رواية ثانية في مذهب أحمد، وهو مروي عن أبي بكر وعليٍّ وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من السلف، منهم: الحسن وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري (1) وحجتهم:
1 -
ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: «بعثني أبو بكر بعد رجوعه إلى أهل
الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين» كذا ذكره ابن قدامة (!!) والذي عند البيهقي عن زيد بن ثابت «أن مال المرتد فيء يكون لبيت مال المسلمين» (!!) فليحرر.
2 -
قالوا: ولأن ردته ينتقل بها ماله، فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقل بالموت.
القول الثالث: ما اكتسبه قبل الردة لورثته المسلمين.
وهذا مذهب أبي حنيفة وإسحاق (2)، قالوا: وما اكتسبه في ردته يكون فيئًا لبيت المال، وحجتهم كأصحاب القول الثاني.
القول الرابع: ماله لورثته ممن على الدين الذي انتقل إليه، وإلا فهو فيء، وهذه رواة ثالثة في مذهب أحمد، وهو قول داود الظاهري، وهو مروي عن علقمة وسعيد بن أبي عروبة (3)، وحجتهم:
1 -
أنه كافر فيرثه أهل دينه كالحربي، وسائر الكفار.
2 -
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (4) فلم يمنع أن يرث الكافر الكافر.
الراجح:
أقول: القولان الثاني والثالث خلاف النص الثابت، ولا دليل على أن مال
(1)«المبسوط» (10/ 104)، و «البدائع» (7/ 138)، و «الإنصاف» (10/ 339).
(2)
«المبسوط» (10/ 101)، و «البدائع» (7/ 138)، و «المغني» (6/ 346).
(3)
«المحلي» (11/ 197)، ومراجع الحنابلة المتقدمة.
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
مرتد يكون فيئًا ابتداءً، فالذي يترجح لي القول الأخير، وعلى كلٍّ المسألة اجتهادية يحكم فيها الإمام بما يرى فيه المصلحة، والعلم عند الله.
أثر الردة في إحباط العمل:
قال تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (1) قال الألوسي تبعًا للرازي: إن معنى الحبوط هو الفساد.
وقال النيسابوري: إنه أتى بعمل ليس فيه فائدة، بل فيه مضرة، أو أنه تبين أن أعماله السابقة لم يكن معتدًّا بها شرعًا.
وقال الحنفية بأن الحبوط يكون بإبطال الثواب، دون الفعل.
وقد ذهب الحنفية والمالكية إلى أن مجرد الردة يوجب الحبط، مستدلين بقوله تعالى:{ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (2).
أما الشافعية فقالوا بأن الوفاة على الردة شرط في حبوط العمل، أخذًا من قوله تعالى:{فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (3).
فإن عاد إلى الإسلام فقد صرح الشافعية بأنه يحبط ثواب العمل فقط، ولا يطالب بالإعادة إذا عاد إلى الإسلام ومات عليه.
أثر الردة على العبادات:
تأثير الردة على الحج:
يجب على من ارتد وتاب أن يعيد حجه عند الحنفية، والمالكية، وذهب الشافعية إلى أنه ليس على من ارتد ثم تاب أن يعيد حجه.
أما الحنابلة فالصحيح من المذهب عندهم: أنه لا يلزمه قضاؤه، بل يجزئه الحج الذي فعله قبل ردته.
تأثير الردة على الصلاة والصوم والزكاة:
ذهب الحنفية والمالكية إلى عدم وجوب قضاء الصلاة التي تركها أثناء ردته، لأنه كان كافرًا، وإيمانه يجبها.
(1) سورة البقرة: 217.
(2)
سورة المائدة: 5.
(3)
سورة البقرة: 217.