الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وقول الجمهور هو الصواب، لأن الحدَّ إذا ثبت بيقين، فلا يسقط إلا بدليل.
(ب) العقوبات التعزيرية للسارق (1):
تجوز العقوبة بالتعزير على كل سرقة لم تكتمل أركانها، أو لم تستوف شروطها، لعدم وجوب الحد فيها، وعلى سرقة دُرئ الحدُّ فيها لوجود شبهة، فيترتب على السارق - بالتعزير- عقوبتان: عقوبة بدنية، بالضرب ونحوه نكالًا له، وعقوبة مالية: بتضعيف الغُرم للمسروق، وبهذا قضي النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط القطع عمن أخذ بفمه من الثمر المعلق وهو محتاج، وحكم على من خرم بشيء منه غرامة مثليه والعقوبة (أي: الضرب) وكذلك على من سرق من الثمر بعد أن يوضع في مخزنه - ولم يبلغ نصاب القطع - كما تقدم في حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده (2).
وكذلك تجوز العقوبة بالتعزير على السرقة التي سقط فيها القطع.
وتقدَّم ذِكر تعزير السارق في الثالثة أو الخامسة - على خلاف - ويكون بالحبس أو الضرب ونحوه، وهذه العقوبات يرجع في تقديرها إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة.
(5) حَدُّ الحِرَابَةِ
تعريف الحرابة (3):
الحرابة لغة: من الحرب التي هي نقيض السلم، يقال: حاربه محاربة، وحرابًا.
أو من الحَرَب - بفتح الراء -: وهو السلب، يقال: حرب فلانًا ماله، أي: سلبه، فهو محروب وحريب.
وفي الاصطلاح: تسمى «قطع الطريق» وهي: البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعاب على سبيل المجاهرة مكابرة، اعتمادًا على القوة مع البعد عن المغوث.
(1)«المغني» (10/ 271)، و «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 236)، و «معالم السنن» (3/ 313)، و «الحدود والتعزيرات (ص: 403).
(2)
حديث حسن: تقدم تخريجه مرارًا.
(3)
«تاج العروس» ، و «لسان العرب» ، و «بدائع الصنائع» (7/ 90)، و «المغني» (8/ 287).
حُكْمُها:
الحرابة من الكبائر، وهي من الحدود باتفاق الفقهاء، وسمي القرآن مرتكبيها محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد، وغلظ عقوبتها أشد
التغليظ، فقال سبحانه:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (1).
شروط تعتبر في المحارب:
اشترط الفقهاء في المحاربين - حتى يُحدُّوا حدَّ الحرابة - شروطًا لابد من توافرها، ولم يتفقوا عليها جميعًا، وإنما وقع في بعضها خلاف، فإليك هذه الشروط وطرفًا من المناقشات حولها:
1 -
التكليف (2): ولا خلاف بين أهل العلم في اشتراط البلوغ والعقل في عقوبة الحرابة؛ لأنها شرط التكليف الذي هو شرط إقامة الحدود.
لكنهم اختلفوا في حدِّ من اشترك مع الصبي والمجنون في قطع طريق، فذهب الجمهور إلى أن الحد لا يسقط عنهم وعليه الحدُّ، وإنما الشبهة مختصة بواحد - الصبي أو المجنون - فلم يسقط عن الباقين.
وذهب الحنفية - إلا أبا يوسف - إلى أنه لو اشترك في قطع الطريق صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من أحد المارَّة سقط الحدُّ عن الجميع (!!) قالوا: لأنها جناية واحدة قامت بالكل، فإن لم يقع فعل بعضهم موجبًا الحد، كان فعل الباقين بعض العلة فلم يثبت به الحكم (!!).
قلت: وقول الجمهور أقوى، والله أعلم.
(2)
الالتزام (3):
اشترط الجمهور في المحارب أن يكون ملتزمًا بأحكام الشريعة، بأن يكون مسلمًا، أو ذميًّا، أو مرتدًّا، فلا يُحدُّ عندهم الحربي، ولا المعاهد، ولا المستأمن.
(1) سورة المائدة: 33.
(2)
«البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «مغني المحتاج» (4/ 8، 21)، و «المغني» (8/ 268)، ط. الرياض.
(3)
«ابن عابدين» (3/ 112)، و «المدونة» (6/ 268)، و «روضة الطالبين» (10/ 154)، و «كشاف القناع» (6/ 146)، و «المحلي» (11/ 305، 315)، و «فتح الباري» (12/ 112).
واستدلوا بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} (1). وهؤلاء تقبل توبتهم قبل القدرة وبعدها، ولقوله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (2)، وبقوله صلى الله عليه وسلم:«الإسلام يجب ما كان قبله» (3).
وأما الذمي فقد التزم أحكام الشريعة فله ما لنا وعليه ما علينا.
وذهب ابن حزم إلى أن المحارب إنما هو المسلم العاصي أو المسلم يرتد فيحارب فعليه أحكام المحارب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، فليس للذمي - الذي نقض عهده - لأن له عقوبة في الشرع تختلف عن عقوبة المحارب.
وذهب طائفة من العلماء - منهم البخاري والحسن وعطاء والضحاك والزهري - إلى أن آية الحرابة نزلت في أهل الكفر والردَّة، وساق البخاري عقبها
حديث أنس في قصة العرنيين، وفيه «
…
فارتدوا، فقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا (4).
3 -
الذكورة (5):
اشترط الحنفية في المحارب الذكورة، فلا تحدُّ - عندهم - المرأة وإن وليت القتال وأخذ المال، لأن ركن المحاربة - وهو الخروج والمغالبة - لا يتحقق من المرأة عادة فلا تكون من أهل الحرابة (!!).
وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط في المحارب الذكورة، فلو اجتمع نسوة لهن قوة ومنعة فهن قاطعات طريق، ولا تأثير للأنوثة على الحرابة، ولأنها تحدُّ في السرقة ويلزمها القصاص كالرجل، فكذلك في قطع الطريق، ولا فرق.
قلت: وهذا هو الصحيح لعدم الدليل على اعتبار الذكورة والأصل أن «النساء شقائق الرجال» (6).
(1) سورة المائدة: 34.
(2)
سورة الأنفال: 38.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 199).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (6802)، ومسلم (1671).
(5)
«البدائع» (7/ 91)، و «شرح الزرقاني» (8/ 109)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (9/ 298).
(6)
حسن: أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113)، وأحمد (6/ 256 - 377) وسنده حسن لغيره.
4 -
السلاح (1):
اشترط الحنفية والحنابلة - في المحارب- أن يكون معه سلاح، ولو الحجارة والعصى؛ لأنه أداة الإخافة، فإن تعرضوا للناس بشيء من ذلك فهم محاربون وإلا فلا.
وأما المالكية والشافعية وابن حزم فلم يشترطوا في المحارب حمل السلاح، بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال، ولو باللكز والضرب بجمع الكف.
قلت: ولعلَّ الأخير أظهر، وكأنه اختيار شيخ الإسلام إذ قال:«والصواب: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع» اهـ.
5 -
البعد عن العمران (2):
اشترط أبو حنيفة - وهو المذهب عند الحنابلة - في الحرابة: البعد عن العمران (في الصحراء مثلًا) فإن حصل منهم الإرعاب وأخذ المال في القرى والأمصار فليسوا محاربين، قالوا: لأن قطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن من في القرى والأمصار يلحقه الغوث غالبًا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، وهو ليس يقاطع، ولا حدَّ عليه.
بينما ذهب الجمهور: منهم مالك والشافعي وأبو يوسف من الحنفية وكثير من أصحاب أحمد، وابن حزم - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران، بل يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة لا تنحصر في البعد عن العمران.
فلو دخل قوم بيتًا وشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم.
واستدل الجمهور بعموم آية المحاربة، وبأن ذلك إذا وجد في العمران كان أعظم خوفًا وأكثر ضررًا، فكان أولى بحد الحرابة.
(1)«ابن عابدين» (3/ 213) و «المدونة» (6/ 303)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «المغني» (8/ 288)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 196)، و «المحلي» (11/ 307).
(2)
«ابن عابدين» (4/ 113)، و «القوانين» (311)، و «الدسوقي» (4/ 328 - مع الشرح الكبير)، و «نهاية المحتاج» (8/ 4)، و «روضة الطالبين» (10/ 155)، و «المغني» (8/ 287 - الرياض)، و «المحلي» (11/ 307)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 315، 316).
قال شيخ الإسلام: «وهذا هو الصواب، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه - غالبًا - إلا بعض ماله
…
» اهـ.
قلت: وهذا القول مع موافقة عموم الآية الكريمة، ومقتضى معنى الحرابة المطلق، فإنه الأردع للمجترئين على ترويع الآمنين وسلبهم أموالهم في الميادين العامة على مرأى ومسمع من الناس والسلطان، ولا مغيث!! والله أعلم.
6 -
المجاهرة (1):
اشتر ط جمهور الفقهاء في الحرابة أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرًا، فإن أخذوه مختفين فهم سُرَّاق، وإن اختطفوا وهربوا، فهم منتهبون، ولا قطع عليهم.
وذهب مالك - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن قتل الغيلة، إذا كان على وجه التحيُّل والخديعة فهو من المحاربة، ومثاله: أن يدعو القاتل إلى منزله - مثلًا - من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك ثم يقتله ويأخذ ماله.
قال شيخ الإسلام: «وهذا أشبه بأصول الشريعة، لأن القتل بالحيلة كالقتل
مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدرى به» اهـ.
حكم الردء للقُطَّاع (2):
الردء هو: المعين لقاطع الطريق بجاهه أو بتكثير السواد أو بتقديم أي عون لهم، ولم يباشر القطع بنفسه.
وقد اختلف أهل العلم في حكمه:
فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة - وهو اختيار شيخ الإسلام - إلى أن الردء المباشر في الحرابة سواء، لأنهم متمالئون، وقطع الطريق يحصل بالكل، ولأن من عادة القطاع أن يباشر البعض، ويدفع عنهم البعض الآخر، فلو لم يلحق الردء بالمباشر في سبب وجوب الحد لأدى ذلك إلى انفتاح باب قطع الطريق.
(1) المراجع السابقة، و «المنتقي» للباجي (7/ 115 - 116).
(2)
«البدائع» (7/ 91)، و «المبسوط» (9/ 198)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «المهذب» (2/ 365)، و «المغني» (10/ 318 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 311).
قال ابن تيمية: وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، «فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين» والربيئة: هو الناظر، الذي يجلس في مكان عالٍ ينظر منه لهم من يجيء
…
اهـ.
بينما ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه ليس على الردء إلا التعزير، لأن الحد يجب بارتكاب المعصية؛ فلا يتعلق بالمُعين، كسائر الحدود!! قلت: والأوَّل أرجح والله أعلم.
عقوبة المحاربين:
هذه العقوبات على التخيير أم على التنويع؟ (2)
ثم اختلف أهل العلم في هذه العقوبات المذكورة في الآية الكريمة؛ أهي على التخيير أم على التنويع، على قولين:
القول الأول: أنها على التنويع، فتوزع العقوبات على حسب الجنايات، وهذا مذهب الجمهور، واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 -
أن تفسير ابن عباس لهذه الآية يفيد أن المراد بـ «أو» : التنويع، فقال:«المعنى: أن يُقتلوا إن قتَلوا، أو يُصلَّبوا مع القتل إن قَتَلوا وأخذوا المال، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو يُنفَوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئًا ولم يًقتُلوا» .
2 -
قالوا: وتفسيره رضي الله عنه إما توقيفًا وإما لغةً، وأيهما كان فهو حجة، يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ.
وعُرْف القرآن: أن ما فيه التخيير يُبدأ فيه بالأخف، ككفارة اليمين، وما يراد به الترتيب يُبدأ فيه بالأغلظ ككفارة الظهار والقتل.
(1) سورة المائدة: 33، 34.
(2)
«البدائع» (7/ 93)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 156)، و «نهاية المحتاج» (8/ 27)، و «المغني» (8/ 289)، و «الإنصاف» (10/ 292)، و «المحلي» (11/ 312).
3 -
أن الجزاء على قدر الجناية، يزاد بزيادتها وينقص بنقصانها، بمقتضى العقل والشرع، قال تعالى:{وجزاء سيئة سيئة مثلها} فالتخيير في جزاء الجنايات القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة، وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء الجناية القاصرة خلاف المعهود في الشرع.
على أنه قد أجمعت الأمة على أن القُطاع إذا قَتلوا وأخذوا المال، لا يكون جزاؤهم المعقول: النفي وحده!! فعُلم أنه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التخيير.
4 -
أن التخيير الوارد بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدًا، كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد، أما إذا كان السبب مختلفًا فإنه يخرج التخيير عن ظاهره ويكون الغرض: بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وقطع الطريق متنوع وبين أنواعه تفاوت في الجريمة، فكان سبب العقاب مختلفًا، فتحمل الآية على بيان حكم كل نوع.
5 -
أنه إذا لم يقتل، فلا يحلُّ قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّبُ الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1).
ثم اختلف هؤلاء في كيفية هذا التنويع على ثلاثة أقوال:
1 -
فقال الشافعي وأحمد والصاحبان من الحنفية، وإسحاق: من قَتَلَ وأخذ
المال؛ قُتِل وصُلِب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ مالًا؛ نفي من الأرض، والنفي في هذه الحالة - عند الشافعية - تعزير وليس حدًّا، فيجوز - عندهم - للإمام تركه، أو التعزير بغيره بحسب ما يراه من المصلحة.
2 -
وقال أبو حنفية: إن أُخذ قبل قتل نفسٍ أو أخذ شيء؛ حُبس بعد التعزير حتى يتوب، وهو المراد بالنفي في الآية.
وإن أخذ مالًا معصومًا بمقدار النصاب؛ قُطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل معصومًا ولم يأخذ مالًا قُتل.
وأما إن قتل النفس وأخذ المال - وهو المحارب الخاص - فالإمام مُخيَّر في أمور
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود.
ثلاثة: إن شاء قطع يده ورجله من خلاف ثم قتله، وإن شاء قتله فقط، وإن شاء صلبه.
والصلب - عنده -: طعنُه وتركه حتى يموت، ولا يترك أكثر من ثلاثة أيام.
واعتُرض بأن الحدود إذا كان فيها قتل سقط ما دونه، كما لو سرق وزنى وهو محصن.
3 -
وقال مالك: إن قتل فلابد أن يُقتل، إلا إن رأى الإمام أن في إبقائه مصلحة أعظم من قتله.
وليس له تخيير في قطعه ولا نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل لا تخيير في نفيه وإنما التخيير ف قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وإن أخاف السبيل فقط فالإمام مخيَّر بين قتله وصلبه، أو قطعه، باعتبار المصلحة.
واعتُرض بأن مالكًا رحمه الله اعتبر جَلَد ورَايَ القاطع، ولم يعتبر الجناية، وهذا مخالف للأصول المعروفة من اختلاف العقوبات بحسب الجرائم.
قلت: ويمكن اعتبار مالك رحمه الله من القائلين بالتخيير بين العقوبات - إلا في القاتل - كأصحاب القول الآتي.
القول الثاني: أن هذه العقوبات على التخيير: فإذا خرجوا لقطع الطريق وقَدر عليهم الإمام، خُيِّر بين أن يجري عليهم أيًّا من الجزاءات الأربعة (القتل، والصلب، والقطع، والنفي) على ظاهر الآية.
وبهذا قال جماعة من السلف منهم سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبو ثور وداود وابن حزم، ويمكن أن يُضم إليهم الإمام مالك. واحتج هؤلاء بما يلي:
1 -
قول ابن عباس رضي الله عنهما: «ما كان في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار» (1).
2 -
أن الأصل في «أو» أنها تقتضي التخيير كما في آية كفارة اليمين.
وقد تقدم الردُّ على كلا الاستدلالين في ثنايا أدلة المذهب الأول.
قلت: والأرجح ما ذهب إليه الجمهور من كون العقوبات للتنويع بحسب الجرائم على نحو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد.
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 139).
فوائد:
ويمكن أن نستخلص من أقوال العلماء الفوائد التالية:
1 -
أن القاتل - في قطع الطريق - يُقتل بكل حال ولابُدَّ، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك.
2 -
أنهم إذا قتلوا ولم يأخذوا المال، فإنهم يُقتلون من غير صلب.
وهل يغلب - فيمن قتل فقط- جانبُ الحد أم جانب القصاص؟ (1)
ذهب الحنفية والمالكية، وهو قول عند كل من الشافعية والحنابلة - وهو قول ابن حزم -: إلى أنه يغلب جانب الحد، فيقتل وإن قتل بمثقل، ولا يشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول: فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، ولا عبرة بعفو مستحق القَوَد.
وقال الشافعية - في الراجح عندهم - والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: يغلب جانب القصاص؛ لأنه حق آدمي، وهو مبني على المضايقة، فيقتل قصاصًا أولًا، فإذا عفا مستحق القصاص عنه: يُقتل حدًّا، ويشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول، لحديث:«لا يُقتل مسلم بكافر» (2).
3 -
إذا جمعوا إلى القتل أَخْذَ المال - وهذا غالب حال القُطَّاع - فيُجمع لهم الصلبُ مع القتل عند الجمهور:
واختلفوا في وقت الصلب ومدَّته (3):
(أ) فقال الحنفية والمالكية: يُصلب حيًّا، ويُقتل مصلوبًا؛ لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ويترك مصلوبًا - عند الحنفية - ثلاثة أيام بعد موته (!!)، وعند المالكية تحدَّد مدة الصلب باجتهاد الإمام.
(ب) وقال الشافعية - في المعتمد - والحنابلة: يصلب بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدَّم القتل على الصلب لفظًا فيجب (!!) تقديم ما ذكر أولًا في الفعل، كقوله تعالى:{إن الصفا والمروة من شعائر الله} (4).
(1)«ابن عابدين» (3/ 213)، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «روضة الطالبين» (10/ 160)، و «المغني» (8/ 290)، و «المحلي» (11/ 315).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6915)، ومسلم.
(3)
المصادر السابقة، و «نهاية المحتاج» (8/ 5 - 6)، و «المحلي» (11/ 315 - 318).
(4)
سورة البقرة: 158.
قالوا: ولأن في صلبه حيًّا تعذيبًا له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة
…
» (1).
وعلى هذا الرأي: يُقتل ثم يُغسَّل، ويكفن، ويُصلى عليه، ثم يصلب، ويترك مصلوبًا ثلاثة أيام بلياليهن.
وخالف ابن حزم فقال: لا يجمع عليه الصلبُ والقتل، إذ ليس فيما استدلَّ به المخالفون - من الفريقين - وجوبُ صلبه بعد القتل، ولا إباحة ذلك البتة.
ولأن الله إنما أوجب عليه حكمًا واحدًا وخزيًا واحدًا لا حكمين.
وكذلك لا يجوز قتله بعد الصلب لأمره صلى الله عليه وسلم بإحسان القتلة ولقوله: «لعن الله من اتخذ شيئًا فيه الروح عرضًا» ، وغاية ما هنالك أن يخيَّر
الإمام بين قتله، أو صلبه دون قتل.
قال: فصحَّ يقينًا أن الواجب أن يخيَّر الإمام في صلبه - إن صلبه - حيًّا ثم يدعه حتى ييبس ويجف كله
…
حتى إذا أنفذنا أمر الله تعالى فيه، وجب به ما افترضه الله تعالى للمسلم على المسلم من الغسل والتكفين والصلاة والدفن. اهـ.
ثم ردَّ على من اعترض بمثل أحاديث الأمر بإحسان القتلة وقال: أنتم تقتلونه أوحش قتلة وأقبحها! فقال رحمه الله: «فنقول: وما قتلناه أصلًا، بل صلبناه كما أمر الله تعالى، وما مات إلا حتف أنفه، وما يسمى هذا في اللغة مقتولًا
…
» اهـ.
4 -
إذا أخذوا المال، ولم يقتلوا؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف: فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى على ما تقدم في قطع السارق.
وهل يشترط أن يبلغ المسروق نصابًا؟ فيه قولان (2):
فاشترط الجمهور - خلافًا لمالك - أن يبلغ المأخوذ نصابًا، لعموم الأدلة التي تفيد أنه لا قطع فيما دون النصاب، وقد تقدمت في «حد السرقة» .
وذهب مالك إلى أنه لا يشترط؛ لأنه محارب لله ولرسوله، ساعٍ في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية، ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب.
(1) صحيح.
(2)
«فتح القدير» (5/ 179)، و «المهذب» (2/ 284)، و «جوهر الإكليل» (2/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 152).
5 -
إذا أخافوا السبيل فقط، فلم يقتلوا أو يأخذوا مالًا: فإنهم يُنفون من
الأرض عند جمهور الفقهاء لقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (1).
واختلفوا في معنى النفي (2)، فقال أبو حنيفة: نفيه حبسُه حتى تظهر توبته أو يموت، وقال مالك: النفي إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد (يعني: مسافة الصفر فما زاد) وحبسه فيه.
وقال الشافعي: النفي: الحبس أو غيره، كالتغريب، كما في الزنا.
ومذهب أحمد أن النفي: أن يُشرَّدوا، فلا يُتركوا يستقرون في بلد، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال النخعي وقتادة وعطاء.
قلت: الذي يتبادر من قوله (ينفوا) أن فيه طردًا وإبعادًا، وأما حبسه فإنما يكون حيث يرى الإمام أن في إطلاقه - في مكان نفيه - فسادًا أو شرًّا على الناس، واختار شيخ الإسلام أن النفي يكون بحسب ما يراه الإمام: إما بطرده بحيث لا يأوى في بلد، وإما بحبسه وقال: وهذا أعدل وأحسن. اهـ (3).
هل يُقتصُّ من المحارب للجروح؟ (4)
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن المحارب إذا جَرَح جرحًا فيه قود فاندمل لم يتحتم به قصاص، بل يتخيَّر المجروح بين القود والعفو على مال أو غيره؛ لأن التحتم تغليظ لحق الله، فاختص بالنفس كالكفارة، ولأن الشرع لم يرد بشرع الحد
في حق المحارب بالجراح، فبقي على أصله في غير الحرابة.
وفي قول عند الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد: يتحتم فيه القصاص كالنفس لأن الجراح تابعة للقتل، فيثبت فيها مثل حكمه.
وعند الشافعية قول ثالث وهو: أنه يتحتم في اليدين والرجلين، لأنهما مما يستحقان في المحاربة دون غيرهما. قلت: والراجح أنه يتحتم القصاص لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين فعن أنس رضي الله عنه قال: «قدم رهط من عكَلٍ على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في
(1) سورة المائدة: 33.
(2)
«فتح القدير» (5/ 113)، و «ابن عابدين» (3/ 212)، و «الدسوقي» (4/ 349)، و «الجواهر» (2/ 294)، و «نهاية المحتاج» (8/ 5)، و «المغني» (8/ 294)، و «كشاف القناع» (6/ 153).
(3)
«مجموع الفتاوى» (15/ 310).
(4)
«البدائع» (7/ 95)، و «ابن عابدين» (3/ 213)، و «مغني المحتاج» (4/ 483)، و «المغني» (8/ 292).
الصفَّة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أبغنا رسلًا، فقال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتوا فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوُّا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الدَّود، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الصَّريخُ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرَّة يستسقون، فما سُقُوا حتى ماتوا» (1).
فقطعهم صلى الله عليه وسلم حدًّا للمحاربة، وسمل أعينهم قصاصًا وتركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا لأنهم كذلك فعلوا بالرعاء:
فعن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمر أعينهم، لأنهم سمروا أعينُ الرِّعاء» (2).
أما إذا سرى الجرح إلى النفس فمات المجروح: يتحتم القتل.
وذهب الحنفية إلى أن المحارب- إذا أقيم عليه الحد، فلا يقتص منه للجراحات؛ لأن الجناية فيما دون النفس يسلك بها مسلك الأموال، والأصل عندهم ألا يجمع بين الحدِّ والضمان!!
وهل يضمن المال المأخوذ؟ (3)
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المحاربين إذا أخذوا مالًا وأقيم عليهم الحدُّ؛ ضمنوا المال مطلقًا، وعند الحنفية يضمنون إن كان المال قائمًا، وإلا فلا.
وعند الشافعية والحنابلة: يجب الضمان على الآخذ فقط، لا على من كان معه ولم يباشر الأخذ.
وقال المالكية: يعتبر كل واحد منهم ضامنًا للمال المأخوذ بفعله أو بفعل صاحبه، فمن قُدر عليه منهم أُخذ بجميع ما أخذ هو وأصحابه، فإن دفع أكثر مما أخذ فإنه يرجع على أصحابه.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (6804)، ومسلم (1671).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1671)، والترمذي (73)، والنسائي (7/ 100).
(3)
المراجع السابقة، و «الدسوقي» (4/ 350)، و «أسهل المدارك» (3/ 157)، و «نهاية المحتاج» (8/ 8).